«الشتاء غنيمة العابدين» هذا ما وصفه به الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو كما اعتبره أبو هريرة غنيمة باردة عندما قال: «ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، قال: الصيام في الشتاء»، فإذا ما ارتجف الشتاء، وارتعشت المسام تحت وطأته عدنا لنعيش مواسمه، كما نعيشها كل عام، ونحن ننتظره لنتعلم من هطوله معنى الدفء، لنركض ونلتف جميعاً ككل الأغصان الوارفة تواسي بالتواء مفاصلها الشجرة الكبيرة التي فقدت ظلها وأوراقها، وكأننا نقول لبعضنا ونحن نجلس بالقرب من المدافئ في منازلنا، إن الدفء البشري ترف لا يوازيه ترف، وأن هذا الشتاء مدرستنا في التلاقي والحنين إلى عودته إلينا ليضمد ما أفسدته الحضارة من تبعثرنا وتشتتنا وانشغالنا.. إنه الشتاء وفيروز تستحضر في «رجعت الشتوية» ترف فاكهته وكل حبات الكستناء البليدة تتلظى على مواقدنا.. ونحن نصغي لمراسي الروح ونتكوم في طرف غرفة دافئة ترسو على موانئ هذا الليل، ونحلم بسكونه.. ولهذا البرد لغة خاصة لمواسم الحنين فيقسو أحياناً ثم يحنو لنعود إلى كل الحكايات التي ذبلت وهي تقطننا لتعود لتقفز في هذا الموسم فنعلقها مع فوانيس الليل الخافتة ونلتصق بأكوابنا الساخنة وبنوافذنا المهجورة نطل على صخب الشارع وجنون الشتاء وشفافية المطر. بينما يوجع الشتاء آخرين عندما يأتي موحشاً وحيداً ككل الظلال الباهتة عندما تفرغ القلوب محتوياتها من سلال الرحمة، وتصبح قاسية كهذا الصقيع مثلجة كهذه النجمات يصبح هذا الموسم بليداً، لا تثأر فيه المشاعر لانتظار هطول الدفء على قلوب لا يوجعها الحنين إليه فتعبر سفينتها عبر ثلوج هذا الموسم وتظل باردة لا تلتفت للمواقد ولا للحظات الحنين، ولا لضمات الحطب ولا لباقات الثلوج البيضاء التي تغطي رؤوس الجبال، لا تلتفت إلى كل الأوراق التي انتحرت وتساقطت تحت أقدام الأشجار فداءً لترف حلول ندفه، فمن يواسي صغار العصافير التي فقدت أعشاشها في هذا الشتاء وصارت بلا منازل.. ومن يشعل الدفء في هذه الأجساد التي شردتها المواسم العربية فصار الشتاء كابوساً يؤرقها إذا ما اشتد غضبه وأعلن عن جدية حضوره على سجيته، وجاء قاسياً قارصاً صاخباً متعجرفاً لا يأبه بارتعاشات الخريف.. فتطول الليالي على وجع شتائي لا تجدي معه معزوفات الحنين ولا أغطية الترقب وألحفة السماء، ولا كنزات ومعاطف الصوف الفارهة، فنتيقن أننا بحاجة إلى شتاء عربي مملوء بالحنين وبحكايات الانتصار والتوق والترف، نريد شتاء بلا مواجع ولا ارتجاف، نريده دافئاً يضمنا تحت جناحيه مع قصص الجدات عن كل ما يليق بهذه القلوب الطيبة.