لا شيء يثير في شهوة الحياة سوى زقزقة العصافير الجميلة وارتعاشاتهم فوق شجرة الكنار «النبق» الضخمة. ففي وسط حوش بيت ابن نصري الكبير تقف هذه الشجرة الجميلة الخضراء التي لا تخطئها العين، تملأ البيت بظلالها وأغصانها الخضراء وجذوعها البنية بين كبيرة وصغيرة. ولكن أكثر ما كان يلفت النظر إليها هو طولها الفارع الذي كان يتعدى طول بعض النخيل أحيانا. حتى مع الخريف وأيام البرد في المنامة كانت الشجرة لا تشعر أحدا بأنها تهتز أو تتمايل مع الريح القوية. كانت تبقى على هدوئها وثقتها، وتسقط منها أغصان صفراء قليلة لم تعد تنتمي إليها. هدوء الشجرة وربما طولها الجميل وحتى بعض الحنان فيها جعل الكثير من العصافير تنام فيها وتسكن فوق جذوعها العالية، وتختارها من بين كل الاشجار. إنها شجرة وادعة لا تحرم البشر من هدوئها ولا من ثمارها ولا من حنانها للعصافير. بعد أسابيع شعرت أنني اقترب من الشجرة أكثر فأكثر، أطالعها في الصباح الباكر وأحييها وأراها ترد علي بأحسن منها. وعندما تستيقظ العصافير مع بداية انبلاج الفجر وظهور النهار تبدأ العصافير في عزف أحلى تغاريدها الجميلة وأجمل زقزقتها بلا ملل أو تعب. وأتذكر أن هذا العزف لا ينتهي إلا وأكون قد استيقظت متشوقة لرؤية العصافير وهي محلقة فوق شجرة الكنار راحلة إلى العالم الحر الرحب. تعود العصافير عند بدايات غروب الشمس حينما ينتهي النهار ويبدأ ظلام الليل. كنت أرى العصافير تختبئ في أعشاشها الصغيرة وتطلق جميعها أصواتها المغردة بنشاط وكأنها تودع بعضها البعض قبل النوم. وعند حلول المغرب بقليل تستعد للنوم وللظلام الذي لا ترى فيه سوى دفء الشجرة الجميل. أحيانا عند العصر، تأمر السيدة عائشة العبد الرشيق فرجا بالتسلق فوق أحد جذوع الشجرة وهزها بعنف لإسقاط ثمار الكنار التي نضجت للتو. كان تسلق العبد بين يوم وآخر هو حفلة كبيرة وجميلة لجميع عبيد وخدم البيت. فقبل أن يتسلق فرج يحيط الجميع بالشجرة من كل مكان استعدادا لسقوط الكنار، بل ويحضر البعض إما منديلا كبيرا لوضع حبات الكنار به أو قدرا صغيرا للغرض نفسه. في ساعات العصر الأولى يركب فرج الشجرة بخفة شديدة يحسده عليها الجميع ويصعد إلى أعلاها بسرعة وكأنه قط. وعندما يصل إلى أحد الجذوع الكبيرة التي يشعر أن بها ثمارا كثيرة يبدأ في الهز وسط إعجاب الجميع. من اللحظة الأولى يتساقط الكنار فوق رؤوسنا كالمطر الغزير، في مشهد يبدو فيه الجميع سعداء ويركضون هنا وهناك يمينا وشمالا يجمعون الكنار المتساقط بلا توقف في الحوش. وعندما يتوقف العبد فرج للحظات يلتقط الجميع أنفاسه ويجمعون الكنار الذي نزل في كل مكان. وبعد ثوان قليلة يعود فرج لهز جذع آخر وينهمر الكنار وتعود صيحات وضحكات العبيد وفرحهم بالكنار. في النهاية ينزل فرج مسرعا وهو يهتف فينا قائلا: هيا.. هيا.. يا عبيد.. أسرعوا فالعصافير قادمة لتنام.. عندما تنتهي تلك «الحفلة» توضع حبات الكنار كلها في قدر ضخم تتولى أم الخير مسؤولية فرزه وغسله وتوزيعه. في البدء يتم استبعاد الكنار ذي اللون الأخضر الذي لم يستو بعد، ثم يتم وضع الكنار الأصفر الغامق، ذي البقع البنية الصغيرة دلالة على نضوجه المؤكد، يوضع في صحن أبيض كبير. وهذا يعني أن الصحن سيرسل إلى الأسياد. وتجمع أم الخير الكنار الأصفر في صحون بيضاء صغيرة لتوزيعها على بعض بيوت الجيران حسب أوامر السيدة. أما باقي الكنار من اللون الأخضر الذي لم يستو والحبات الفاسدة، التي انتظرت طويلا كي تسقط ولكن بدون فائدة، فهي لنا نحن العبيد والخدم. رغم تلك التفرقة المشينة حتى في حبات الكنار اللذيذة لم أكن أبالي بذلك لمحبتي الشديدة للشجرة وعصافيرها. فقد كنت أراها تطول وتكبر قامتها وتزداد أناقة وثمارا وخضرة كل يوم كأنها تتحدى كل الأشجار الأخرى والنخيل الباسقات. في كل الفصول كنت أراها خضراء هادئة صابرة لا تشتكي ولا تتذمر من شيء. تعيش على الماء القليل يروي جذوعها الضخمة في الأرض كل صباح. لكن لا أحد يحب الشجرة أكثر من تلك العصافير التي لا تكف عن القفز والرفرفة والطيران، بل تنتشي أحيانا عندما تغرد. ولا تشعر بالأمان. وهي تمد مناقيرها الصغيرة وتفتحها من أجل قطرة ماء أو طعام، إلا في أعشاشها داخل الشجرة. قبل الليل وعندما تتأكد شجرة الكنار أن جميع العصافير قد عادت إلى جذوعها وأغصانها، وكفت حناجرها عن التغريد يتسلل النوم إليها مع زقزقة آخر عصفور. كان اسمي الجديد «عبدة» هو الذي أهانني أكثر من العبودية نفسها؟. فعندما يكون الإنسان عبدا فهذه ليست مشيئته بل رغبة الآخرين والأقوياء تحديدا، لكن أن تكتب العبودية عليك حتى في اسمك فهذه مأساة حاولت تغييرها بكل الوسائل، ظنا مني أن هذا سوف يحسن من عبوديتي!. فبعد أسابيع قليلة من وصولي إلى المنامة لاحظت سخرية واستهزاء الجميع من اسمي. فعلاوة على الأطفال الذين استمروا يركضون ورائي كلما خرجت من البيت مع سيدتي، كانت هناك سخرية الرجال وضحكات النساء التي لم تتوقف. عندما كنت أذهب مع سيدتي لزيارة صديقاتها من الجيران كانت تقول لهن وهي تشير إلي بتفاخر شديد «هذه هي عبدتي الجديدة». وعندما يسألونها عن اسمي كانت تقول وهي تضحك: - تصوروا.. اسمها «عبدة».. اسم يناسبها والله. عندها تموت النساء من الضحك، بينما أطأطئ رأسي وأطالع الأرض خجلا. وقد استمرت هذه الحكاية أياما وأسابيع كثيرة، ولم تتوقف حتى حفظت النساء كلهن اسمي. غير أن إحدى السيدات الكبيرات قالت لسيدتي في أحد الأيام: - لكن لماذا لا تغيري اسم عبدتك المسكينة؟ وبدلا من أن تجعليها سخرية للجميع هناك أسماء كثيرة. وعلى فكرة أسماء العبيد الرجال والنساء من أجمل الأسماء عندنا!. لم تعرف سيدتي عائشة كيف ترد على هذا السؤال المفاجئ وأصيبت بالإحراج، بل إنني رأيتها للمرة الأولى متلعثمة ولا تعرف الإجابة. ولم ينقذها من هذا الموقف إلا إحدى صديقاتها التي ردت بذكاء: - السيد ابن نصري هو الذي اختار الاسم وعليه هو أن يغيره. أما عائشة فلا ذنب لها في الموضوع على الإطلاق. ارتاحت عائشة للإجابة وزادت: هذا صحيح.. الأمر ليس بيدي. وهذه العبدة ظريفة وطيبة وما تستاهل إلا كل خير. بعد هذه الواقعة خففت سيدتي كثيرا من السخرية من اسمي خوفا من أن تصطدم بأسئلة لا تعرف كيف ترد عليها أو أن تتعرض لإحراج آخر. كانت المحاولة الأولى لي لتغيير اسمي مع سيدي عندما أحضرت له القهوة والتمر في مجلسه بينما هو ينتظر ضيوفه في تلك الليلة، حيث قلت له بينما كان منهمكا في هش ذبابة كانت تحوم على طبق التمر: - سيدي العزيز.. أنا مرتاحة هنا في بيتك ومع أهلك وسعيدة معكم وأعمل بإخلاص. لكن هناك شيئا واحدا ينغص علي حياتي. قاطعني ونظر إلي بغضب وقال: - ما هو؟ قلت في الحال: - اسمي.. اسمي يا سيدي يعذبني. والكل يسخر مني بسببه.. أتمنى منك تغيره إلى أي اسم يعجبك.. أي اسم.. أرجوك. أنا أعرف أنك قادر على فعل ذلك. رد علي وهو يتناول أولى حبات التمر: - أنا الذي اخترت الاسم.. هل تعرفين ذلك.. هيا اذهبي الآن. - لكن يا سيدي كل العبيد المتواجدين هنا في هذه البلاد عندهم أسماء جميلة ومعقولة إلا أنا. صرخ في وجهي: - قلت لك اذهبي.. فورا. ركضت بسرعة من غرفة المجلس وأنا خائفة من أن يتمادى السيد ويتناول سوطه كما يفعل عادة في لحظات غضبه الكثيرة واتجهت فورا نحو غرفة أم الخير التي كانت راقدة في سريرها. رويت لها كل ما حصل، واستغربت في البداية من شجاعتي وقالت بلهجة عتاب: - الشجاعة لها أوقاتها، لكن العبدة منا لا تفكر حتى بها. فما دمت في رعاية سيد وفي داخل بيت يسترك وتأكلين وتشربين وتلبسين، فكل هذه الأشياء سوف تغنيك عن الشجاعة. تذكري دائما نحن عبيد ولسنا أسيادا. - ولكن يا أم الخير.. أنت هنا أقدم العبيد ونالك من السياط الكثير ومن الإهانات التي لا تعد.. كيف تقولين لي أن أنسى الشجاعة؟ ألست في النهاية إنسانة؟ ردت أم الخير بعد تفكير قليل: - اصبري يا عبدة.. ستكبرين وسوف تستطيعين تغيير اسمك. فالعيش في العبودية يتطلب الصبر، والشجاعة، بل يحتاج إلى صبر وصبر، وصبر ليس مثل صبر بني البشر، إنه صبر خاص خلق للعبيد فقط. قلت وأنا غاضبة: - حتى صبرنا يا أم الخير يكون صبرا غير عادي نحن العبيد. ما هذه الحياة؟ لماذا كل تلك القسوة؟ وكأنها لم تستمع إلى كلامي فأضافت: - أرجوك أن تعلمي أن حياتنا المكتوبة لنا منذ ولادتنا هي حياة عبودية، وكل العبودية قاسية ووحشية، والسبب هو أننا ولدنا ببشرة سوداء. هذا هو ذنبنا وهذا هو عارنا. مباشرة بعد حديثي مع أم الخير حاولت مع سيدتي أن تتوسط لي عند السيد لكي يغير اسمي. ولم تجبني بشيء سوى أنها سوف تحاول. انتظرت أياما طويلة ولكن بلا فائدة. فبدا منها أنها خائفة كثيرا من طرح الموضوع. بعد فترة قليلة أحسست أن شجاعتي تبقى لي منها الكثير فقررت أن لا أستخدمها إلا في كفاحي من أجل تغيير اسمي. وهكذا ذهبت إلى سيدي مرة أخرى وقلت له، لكنه رفض مرة أخرى وهددني هذه المرة بعدم معاودة طرح هذا الموضوع. رغم التهديد صرت عنيدة ومصممة على تغيير اسمي وذهبت لسيدي في المرة الثالثة والأخيرة، وقلت له إن عندي مجموعة أسماء هي: سعاد، سعيدة، جميلة، كهرمانة وما عليه سوى أن يختار. شعرت أنني كنت وقحة أكثر من اللازم لكنه هذه المرة لم يكلمني ولا كلمة واحدة. فجأة لم انتبه إلا وهو يخرج السوط المخبأ وراء أحد كراسي المجلس وراح يجلدني به. كدت أموت ذلك اليوم لكن الله أنجاني. ورقدت في فراشي ثلاثة أيام وكانت أم الخير المسكينة ترعاني. في ساعة نهوضي من الفراش قالت لي: صبر العبيد أفضل من شجاعتهم. ومن يومها لم أنس هذه الحكمة. * آخر عمل روائي للكاتب البحريني خالد البسام (يرحمه الله) ينشر بعد رحيله.. صدر عن دار جداول ببيروت. .. و«عكاظ» تشكر الزميل محمد السيف لتزويدها بفصل من الرواية بناء على طلبها ذلك.