سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
التلويح بالويل والثبور جراء حرب البلقان لم يصدق ... وكان جزءاً من حرب سياسية . تصفية مخلفات "الأمة القومية" الإثنية والدخول في "الأمة السياسية" الأوروبية
في ختام الإثني عشر يوماً، غداة قرار مجلس الأمن الذي استعاد حصيلة مفاوضة الدول الثماني على اتفاق ينهي عدوان القوات الصربية بكوسوفو، جلت هذه القوات عن الإقليم، وصار في وسع كثرة أهاليه الألبان، والقلة الصربية، العودة إليه من غير خوف كبير ومحقق. وإذا كانت العودة هذه محفوفة بمخاطر ثابتة وأكيدة - أولها حقول الألغام التي خلفتها القوات الصربية وراءها، وثانيها مزاعم جيش تحرير كوسوفو في الولاية السياسية والأمنية على أهالي الإقليم، وثالثها نفخ حرب التسعة وسبعين يوماً، وقبلها وفي أثنائها حرب القيادة الصربية على ألبان الإقليم، في الحزازات والضغائن بين القومين، ورابعها حال الدمار المادية التي خلفتها الحرب، وخامسها اضطراب الأوضاع الإقليمية في جوار صربيا المباشر - فهي، أي العودة إلى كوسوفو، لم تحقق "الآمال" التي علقها عليها أصحاب رؤى نهايات العالم الوشيكة. فلم تقع عظائم الأمور التي لم يشك أصحاب الرؤى في حدوثها بذريعة الحرب البلقانية. فلم تقع الحرب العالمية الثالثة - وسفراء روسيا في بعض الدول العربية كانوا من أشد "متنبئيها" حماسة ويقيناً - على رغم "موقد البارود" البلقاني والسابقة التاريخية المشؤومة" ولم تُخرج القوة الروسية مخالبها النووية، ولم يرفع القادة العسكريون "السوفيات" ألوية التمرد والثورة على الذين حفروا قبر السلطة اللينينية والستالينية" ولم يعقد حلف روسي وصيني، ولا نهضت قوة من الدولتين ونصبت نفسها رقيباً منازعاً على السياسة الدولية. ولم تَخرج السياسة الأميركية على المجتمع الدولي وعلى التزاماته المشتركة وهيئاته ومؤسساته، ولم تضرب صفحاً عن تحكيم هذه الهيئات في الخروج من النزاع" ولم تسلم أوروبا مقاليدها صاغرة إلى البنتاغون، ولم تتفكك أوروبا الأطلسية، ولا انقسمت على نفسها بين جنوب يوناني وإيطالي، ووسط مجري وتشيخي، وشرق بولندي، وغرب فرنسي، وشمال بريطاني، على ما توقع الخطباء الاستراتيجيون وبعضهم معمَّم ومطران مشفقين ومتشفين. وإلى اليوم لم تحط القوات الجوية الأميركية في المطارات القريبة الجاهزة، قبل الإقلاع منها لتقصف عواصم "التمرد" وحقوق الشعوب في طهران ودمشق وبغداد وطرابلس الغرب والخرطوم بذريعة حماية حقوق الإنسان المزعومة من السيادة الوطنية. ولا يبدو، إلى اليوم، أن حرب البلقان تؤذن بانفجار صدام الحضارات والديانات، ولا هي كانت فصل هذا الصدام الأول. فلا هبت الأمم الأرثوذكسية صفاً واحداً وملتحماً للدفاع عن "الشعب" الصربي المظلوم، وعن رئيسه الهادي والمهدي السيد سلوبودان ميلوشيفيتش. ولا نهضت "أمة المسلمين" واحدة لنصرة مسلمي كوسوفو. فالتزم يونانيو اليونان بالاحتجاج السلمي، ولم يحل متظاهر واحد دون اضطلاع سالونيك بمهمات الميناء الأطلسي. واقتصرت الأرثوذكسية الروسية على التنويه بالوحدة المعنوية بين الأمم الأرثوذكسية. أما السلافيون فتفرقوا مواقف وسياسات على عدد دولهم ومجتمعاتهم. بل عمد بعض صرب صربيا، على رغم قبضة ميلوشيفيتش على الإعلام والجامعات، وسيطرته على قيادة الأركان العسكرية، وتصرفه في التعيينات الإتحادية على خلاف النصوص الدستورية وهي تخول رئيس جمهورية مونتينيغرو تعيين رئيس الوزراء الإتحادي أو الفيديرالي، عمدوا إلى تخريب صورة الوحدة اليوغوسلافية وتماسكها: فلم يلتحق بعض الإحتياط بوحداته، وتظاهرت بعض المدن احتجاجاً على سياسة ميلوشيفيتش تحت القصف. ولم يكد يقر وقف النار حتى دعت الكنيسة الأرثوذكسية الصربية الزعيم "القومي - الإشتراكي" أو "القومي - الإجتماعي" إلى التنحي. أما العشرون ألف مقاتل الذين ينسبون إلى جيش تحرير كوسوفو الألباني فليسوا ضمانة تمثيل شرعي لمصالح ألبان الإقليم، لا في نظر قوات "كفور" ولا في نظر الأممالمتحدة وأمينها العام. ولم يتظاهر ألبان الإقليم إنكاراً لنزع سلاح "الجيش" ولا طالبوا بالثأر من مواطنيهم الصرب. ولعل الخلاف بين ابراهيم روغوفا، رئيس رابطة كوسوفو الديموقراطية، وبين هشام تقي، القائد الظاهر لجيش تحرير كوسوفو، على مبادئ حل رامبوييه وأولها مبدأ الحكم الذاتي عوض الإنفصال ما زال على حاله. وقد يكون من أبرز نتائج الحرب، وهي الثالثة يخوضها الزعيم الصربي القومي بعد الحرب التي خاضها في كرواتيا، وبعد التهطير العرقي الذي استأنفه لأول مرة في أوروبا منذ الحرب الثانية، الألمانية والنازية، قد يكون من أبرز هذه النتائج، وأرجحها في ميزان العلاقة بين البلقان وبين سائر أوروبا، آتياً، استنفاد المسألة الصربية قوتها القومية من القوم والعرقية، وتوجهها تالياً وجهة وطنية وسياسية وأوروبية، على ما ذهبت إليه السيدة فيشنا بيشيتش، رئيسة حزب الرابطة المدنية، الصربي المعارض. ففي، المرات الثلاث هذه حرَّض ميلوشيفيتش قومه وعصبيته على القتال في سبيل أمة صربية متجانسة و"نقية". ولبى معظم الصرب داعي الزعيم القومي، ولم يحاسبوه على الوسائل البربرية التي أجاز التوسل بها الإرهاب والترويع، والتهجير، والاغتصاب، والاعتقال الجماعي، والقتل جملةً. فخسر الصرب، في المرات الثلاث، ديارهم المختلطة، واستعدوا شعوب أوروبا، وشعوب البلقان القريبة جزء منها، عليهم. وظهر على نحو جلي بُعد الشقة بين الوسائل التي لا تتورع القيادة الصربية، "القومية - الإجتماعية"، عن إعمالها في سياستها التوحيدية، وبين المعايير السياسية التي تلقى قبول المجتمع الدولي واستجابته. وعلى حين لازمت الوسائل العنيفة، والبربرية، الحركة القومية الوحدوية ونازعها العصبي والعرقي الشعبوي، ينبغي أن يؤدي تحكيم المعالجة السياسية في المسائل الوطنية، إلى التزام المفاوضة، والقبول الطوعي بالمشاركة والحلول، وإلى الإقرار بشرعية الخلافات وتمثيلها في الصف الواحد. فلا ينصب طرف واحد، ميلوشيفيتش وأنصاره، نفسه، ممثلاً جامعاً للصرب كلهم، ومتكلماً باسمهم. وقد تؤذن هزائم سياسة ميلوشيفيتش، الباهظة الثمن، بحسم المسألة القومية الصربية، وبدخول المجتمع الصربي، المتفرق أحزاباً وآراء ومصالح وأهواء، دائرة العلاقات السياسية، وخياراتها الديموقراطية والإجتماعية - على نحو ما أمل بعض كبار مراقبي القرن التاسع عشر في تحول ألمانيا البيسماركية من حُمَّاها القومية إلى الحياة السياسية ومنازعاتها المدنية ولو الحادة. ولم يكن ذلك متاحاً من طريقٍ صربيةٍ وذاتية، أي من طريق مبادرة القوى السياسية الصربية والداخلية، من تلقاء نفسها، إلى مقاومة المغامرة الوحدوية التي تصدى سلوبودان ميلوشيفيتش إلى قيادتها، على رأس الحزب الإشتراكي الشيوعي الصربي، ثم على رأس الدولة "الإتحادية". فسطوة الحركة القومية الوحدوية في صربيا، وفي مثيلاتها من البلدان التي لم ترسُ علاقاتها السياسية على تمثيل النزعات والمصالح المتباينة بل على وحدة عصبية وقيادية، هذه السطوة قوية بل كاسحة. وقلما تطيق الحركات السياسية المعارضة، ما لم تتحلَّ بشجاعة نادرة، مقاومتها والثبات بوجهها. ولا ريب في أن السياسات الأوروبية، المتلكئة والمتفرقة بحسب أحلاف موروثة من الحرب الثانية، تتحمل تبعة مباشرة عن إيهام الصرب، قيادةً وأجهزة وقوى سياسية وجمهوراً، بجدوى سياسية قومية عدوانية ولا قيد عليها من اعتبارات حقوقية وتمثيلية تعددية. فوسع ميلوشيفيتش تصوير الحركات الإستقلالية والوطنية "اليوغوسلافية" في صورة الثأر الكرواتي، ثم "العثماني" الإسلامي، وأخيراً الألباني، من مقاومة الصرب مطامع ألمانيا الهتلرية في جنوب أوروبا، قبل مقاومتهم التسلط الستاليني الشيوعي، وبعد مقاومتهم الفتوح العثمانية. ولا شك، كذلك، في أن إسراع ألمانيا إلى الإعتراف بكرواتيا المستقلة، وبسلوفينيا، قبل أي مفاوضة أوروبية أو أوروبية وأميركية، وقبل أي تنسيق، أيقظ في الذاكرة الصربية وفي الذاكرات الأوروبية الأخرى، وخصوصاً الفرنسية، طيف "المحور" وطيف سياسات التوسع الألمانية في النصف الأول والمشؤوم من القرن. وينتبه، اليوم، سياسيون ومراقبون كثر، إلى أن عزلة المعارضة الصربية في الوسط الدولي طوال العقد المنصرم، وهو شهد "صعود" ميلوشيفيتش، وترك مساندتها، وضعف إشراكها في الإدلاء برأيها في المسائل المتنازعة، أدت، مجتمعة، إلى إضعاف دورها بإزاء الزعيم "القومي - الإشتراكي" والشعبوي، وقوَّت مزاعم القيادة الشعبوية في تمثيل الشعب الصربي الواحد والمنكفئ على قضيته. وتوهمت السياسات الأوروبية الأميركية، ولا سيما بعد الإلتجاء الأوروبي إلى الولاياتالمتحدة الأميركية وتسليم أوروبا المتفرقة والمختلفة السياسة الأميركية البت في المسائل القارية الشائكة، توهمت يسر معالجة هذه المسائل بواسطة إشراك زعيم قوي، يحوز ولاء الدولة والشعب، في المعالجة. فمثل هذا الزعيم، إذا وجد، قادر على إقناع أجهزة الدولة وجماهيرها بالحلول الصعبة، من وجه، ويُفترض في حنكته التكتيكية، التي لا بد أن يتمتع بها، أن تجعله على بصيرة بالضرورات والنزول عليها، من وجه آخر. وميلوشيفيتش مثال هذا الزعيم المفترض والمنشود. فحمل الدورُ الذي ألبسته إياه السياسة الأميركية والزوروبية هذه السياسةَ على الكذب على الشعب الصربي، وحملها على إيهام الصرب بأن سياسة زعيمهم عنصر من عناصر الحل المقبولة والمعقولة، على ما لاحظ اسماعيل كاداريه، الألباني. وليس عليهم، تالياً، أن يسعوا عاجلاً في بلورة بديل منها أكثر ملاءمة للحاضر الأوروبي، على قول وزير الخارجية الألماني "الأخضر". ولم تكن السياسة الأميركية والأوروبية أكثر استقامة بإزاء ألبانيا، حيث عاث رئيس الحكومة، بيريشا، وعاثت "أهراماته" المالية فساداً. فإذا خلف فاتوس، "الإشتراكي" والشيوعي السابق، بيريشا، كان جيش تحرير كوسوفو، والتلويح بألبانيا الكبرى، النظير الألباني للسياسة "القومية الإشتراكية" الصربية. وحاصل هذه الحال أن أَوْربة ما تبقى من البلقان، أي إدخال بلدانه ودوله ومجتمعاته في أحكام العلاقات بين دول أوروبا وفي إطار هذه الأحكام الجامع - والقائم على إرادة الجماعات التي تتألف منها الدول وإرادة أفرادها، على ما ذكر كوفي أنان مستخلصاً دروس أزمة كوسوفو - هي الأوربة مهمة أوروبا السياسية في البلقان. وفي ضوء هذه المهمة، وهي تأخر التصدي الأوروبي لها عقداً كاملاً بعد طي صفحة الحرب الباردة، تظهر الحرب الأخيرة على صورة ضعيفة الشبه بتلك التي رسمها لها دعاة السيادة القومية وأنصار أوروبا القوميات، بأوروبا وخارجها. وليس مؤدى هذا جنوح القوة العسكرية، الواحدة أي الأميركية، إلى الإنفراد بالرأي والقرار، على ما يقول من يتعمدون التعمية أو الخائفون على امتيازاتهم "القومية". فالحق أن التخبط وسوء الأداء العسكريين كانا أفضيا إلى كوارث لولا التماسك والضبط السياسيين، ومحورهما تخليص أوروبا من سياسات قومية تقدم اللحمة العصبية على الأبنية السياسية. وعلى خلاف مذهب "المتنبئين"، الأغلب على الظن أن تنبِّه محنة كوسوفو الأوروبيين، على رغم دورهم العسكري الثانوي في الحرب، على مخاطر الفرق الكبير بين تشابك اقتصاداتهم، وتكاملها، ووحدة معاييرها، وبين ضعف تنسيق سياساتهم الخارجية والعسكرية. فعلى حين تدور العلاقات الإقتصادية على محور قاري قوامه ثلاثمئة وخمسون مليون "مستهلك"، وشطر كبير من المنتجين، تحتكم السياسات الخارجية والدفاعية الأوروبية إلى مصالح دول وأمم لم تتخلص من إرث "حرب الثلاثين عاماً"، على وصف ديغول السنوات 1914 - 1944، وفيها الحربان الكبيرتان والعقد المضطرب الذي فصل بينهما. فإذا صح التوقع، وهو يحتاج تحقيقه إلى نصف عقد على أضعف تقدير، خرجت أوروبا من حروبها الأهلية والقومية إلى إطار لم تبلور صيغته السياسية والدستورية بعد. ويسهم خروجها هذا، إذا لم يتعثر، في تغلب روسيا على نزعاتها الإرتكاسية والمدمرة. وقد لا يعدم هذا آثاراً إيجابية في السياسة الصينية الإقليمية... وتضطلع السياسة الأميركية في هذا كله، لتعاستنا المقيمة، بدور قد ينتزع المديح من أشد المتحفظين عنها، والمشككين فيها. * كاتب لبناني.