ركز الاتفاق الذي أبرمه المبعوث الاميركي ريتشارد هولبروك مع الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش على أزمة اقليم كوسوفو، الانظار على ترقب ما ستجلبه الايام المقبلة لمنطقة لبلقان في اعقاب حال الرعب الذي خلفته تهديدات حلف شمال الاطلسي، على رغم الشكوك التي ظلت تحوم حول جديتها، ومدى صدقية تحويلها الى أفعال. وتوخى الاتفاق اطاراً عاماً لحل وسط بين المطلب الالباني بالانفصال وبين السعي الصربي لجعل الاقليم خاضعاً بصورة تامة لسلطة حكومة بلغراد، وهو بذلك جسد الموقف الدولي الداعي الى حكم ذاتي لأقليم كوسوفو ضمن الحدود المعترف بها لكل من صربيا ويوغوسلافيا، واعتبر بشكله العام في مصلحة الصرب، لأنه حقق هدفهم بالاحتفاظ بالاقليم جزءاً من دولتهم، في وقت نسف مساعي الالبان بالاستقلال الى حد انه اصبح عائقاً أمام أي تحرك الباني باتجاه الانفصال في المجال الدولي، وهو ما جعل اطرافاً البانية تصفه بأنه "حكم اعدام على الشعب الالباني في كوسوفو". وبدا الاتفاق غامضاً للرأي العام الدولي، لأن ما نشرته وسائل الاعلام منه جاء انتقائياً، إذ ظهر الاتفاق وكأنه اسطر عدة تضع صيغة عامة ل "وقف النار، وسحب القوات الصربية، وحرية منظمات الاغاثة في العمل، وعودة النازحين الى ديارهم، وعفو عام باستثناء الجرائم المتعلقة بانتهاكات انسانية والبدء بمفاوضات جدية بين الصرب والألبان باشراف دولي لبناء الثقة المستقبلية، وانشاء أجهزة الحكم الذاتي من خلال انتخابات تشترك فيها كافة الاعراق في الاقليم". لكن الحقيقة يتكون الاتفاق من اكثر من 120 صفحة، والتفاصيل الواردة فيه تشمل الأمور أعلاه وغيرها، وهي الاساس في احتواء الأزمة وحلها، علماً بانه على العكس مما يتصور البعض، فإن الاتفاق لا يخلي الاقليم من كل وجود عسكري يوغوسلافي، اذ يسمح ببقاء دائم ل 18 ألف عنصر من قوات الجيش والشرطة بكامل معداتهم، اضافة الى السيطرة المركزية لحكومة بلغراد على أجهزة الجمارك والأمور الداخلة ضمن المجالات الدولية، كما يسمح بمشاركة صربية محلية في كافة اجهزة الادارة الذاتية ويحدد تشكيل قوات الامن المحلية على أساس النسب السكانية ضمن مجال كل بلدية، أي حفظ مشترك للامن المحلي، يكون للصرب حضور في مجالاته جميعاً. حصيلة المواقف اتسم الموقف الصربي من الاتفاق بالرضا استناداً الى مقياس ان ما تم التوصل اليه هو افضل الممكن في ظل الظروف المحلية والدولية القائمة، وتعامل الرئيس ميلوشيفيتش مع مطالب المبعوث الاميركي هولبروك بنوع من المرونة على اساس التقويم بان الهدف الصربي المصيري المتعلق ببقاء كوسوفو ضمن صربيا ويوغوسلافيا لا يصيبه أي ضرر. وفسر ذلك بانه، اضافة الى تفادي التدخل العسكري الغربي، فإنه وجد في الاطار العام للمساعي الاميركية والدولية، اتجاها نحو ازاحة قضية كوسوفو من مجالها السياسي، أي الانفصال والاستقلال، ووضعها ضمن الاطار الانساني الخاص بقضايا اللاجئين الملحة وضمان حقوق كل سكان الاقليم المتعلقة بالحكم الذاتي والامور الثقافية والحفاظ على الهوية الذاتية. ومن أجل الحقيقة، واعطاء الصورة الدقيقة للمعلومات التي تتردد كثيراً عن وضع كوسوفو في عهد يوغوسلافيا السابقة، تنبغي الاشارة الى ان الترجمة الرسمية العربية للدستود الصادر في 1974 الذي جرى الاستناد اليه في الوضع الجديد لاجزاء الدولة المنهارة، تنص المادة 2 منه على "تتكون جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الفيديرالية من: جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية، وجمهورية الجبل الأسود الاشتراكية، وجمهورية كرواتيا الاشتراكية، وجمهورية مقدونيا الاشتراكية، وجمهورية سلوفينيا الاشتراكية، وجمهورية صربيا الاشتراكية، ومن اقليمي فويفودينا وكوسوفو الاشتراكيين المتمتعين بالحكم الذاتي اللذين يدخلان في تركيب جمهورية صربيا الاشتراكية"، ص 77و 78. ما يشير ان اقليم كوسوفو كان اساساً ضمن صربيا، وان اعطيت لسكانه من مختلف الاعراق بعض حقوق الهوية الخاصة في اجهزة الدولة الاتحادية. واتفق الألبان باتجاهاتهم المتباينة على عدم قبول الاتفاق بالصيغة التي اعلن فيها، إذ على رغم انهم لم يكونوا طرفاً في إبرامه، فإن رفضهم جاء انطلاقاً من انه "لم يحقق طموحاتهم في الاستقلال" والى حد قالت عنه صحيفة "كوخا ديتورا" الالبانية الصادرة في بريشتينا انه "مشروع اميركي، تقل صلاحيات الالبان فيه عن ما كان لهم في الحكم الذاتي للاقليم ايام يوغوسلافيا السابقة الذي إلغاه الرئيس ميلوشيفيتش 1989". وللحقيقة، ايضاً، ان "كوخا ديتورا" هي احدى صحيفتين يوميتين الى جانب "بويكو" اضافة الى عشرات النشرات والمجلات اليومية والدورية، تصدر في عاصمة الاقليم مدينة بريشتينا باللغة الالبانية علنا خارج نطاق الرقابة الصربية، وهي تدعو الى الاستقلال وتنشر بيانات عمليات جيش تحرير كوسوفو طالبة مؤازرة المقاتلين، وتصف الوجود الصربي في الاقليم بأنه "احتلال أجنبي ينبغي مقاومته بكل الوسائل السلمية والقتالية" وتوزع هذه الصحف بحرية في انحاء الاقليم كله وخارجه وهي - مثلاً - موجودة في اكشاك بيع الصحف في العاصمة المقدونية سكوبيا كل يوم، منذ الصباح، أسوة بالصحف المقدونية المحلية والصحف الصربية الآتية من بلغراد. وادخل اتفاق هولبروك - ميلوشيفيتش، البان كوسوفو في خلاف شديد مع "حُماتهم" في واشنطن، وانذرهم السفير الاميركي في مقدونيا كريستوفر هيل الذي يتولى الوساطة الدولية في شأن ازمة الاقليم بان "عليهم ان يختاروا بين فقدان المساعدات المادية والمعنوية وبين تأييد الاتفاق الذي يحظى بدعم دولي". وقال في تصريح نشر في صحيفة "بوبيدا" شبه الرسمية الصادرة في عاصمة جمهورية الجبل الأسود مدينة بودغوريتسا "ان موقف الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي الدائم لا يؤيد استقلال كوسوفو، ويستند ذلك على رؤية الأمور بأنه مع نهاية القرن العشرين ينبغي التحدث عن توحيد اوروبا وليس الانفصال من دول البلقان". موقف ضعيف ولا يخفي الألبان رفضهم لأي اتفاق لا يمنحهم حق تقرير المصير الاستقلال لكن هذا الموقف ضعيف، لعدم مقدرتهم على المواجهة العسكرية مع الصرب محلياً، واعتمادهم على الدول الغربية دولياً ما يجعلهم مرغمين على البقاء داخل دائرة التسويات الاميركية. وتشبث "المعتدلون" منهم بالفترة الانتقالية لمدة 3 سنوات من دون تحديد ما بعدها، لكن جيش تحرير كوسوفو عارض اتفاق هولبروك - ميلوشيفيتش برمته تمشيا مع موقفه المبدئي بأن "أي حل مهما كان شكله ومصدره، يمنح حكماً ذاتياً للأقليم في مجال حكم الصرب، أمر غير مقبول". وقوَّم مراقبون ما تم الاتفاق عليه في بلغراد بأنه يدخل في تعريف ان أي حل سلمي هو افضل من خيار الحرب، خصوصاً ما اثير من مخاوف عن احتمال انتقام صربي من الألبان، لم يخفها زعماء كوسوفو انفسهم، لان مخطط غارات الحلف الأطلسي لم يأخذ في الاعتبار توفير الحماية للسكان عن طريق نشر قوات برية. وذهب البعض الى ان "عدم جدية الحلف" في التعامل مع ازمة كوسوفو، قد تؤدي الى فرار السكان الالبان الى المناطق القريبة من الحدود مع البانيا، ما سيتطلب توفير ملاذ آمن لهم هناك، يكون مقدمة لتقسيم الاقليم، لأن الغرب لم يعط جواباً لسؤال "ماذا بعد الغارات الجوية؟". ودفع تسويف الحلف وذرائعه الالبان الى السأم والاعتقاد بأن الحلف "يهدد الصرب ليتعظ الآخرون" وظهرت تفسيرات مختلفة لما تبتغيه اميركا من قضية كوسوفو، بأنها "ليست مساعدة الالبان، وانما تكملة للدور الذي لعبته في البوسنة ضمن مخططها الرامي الى الهيمنة على العالم سياسياً واقتصادياً وفكرياً واعلامياً وحيث ما تطلب عسكريا أيضاً". ومع عدم التقليل من مبررات الشكوك التي اثيرت حول صدقية ميلوشيفيتش وتبدد الثقة به، فإن مراقبين يدعمون السلام في البلقان اكدوا في مجالات اعلامية بأن "الحكم المسبق المبني على افتراضات يستوجب الابتعاد عنه، وانتظار ما يجري خلال التطبيق من التزامات ونتائج، بالنسبة لكل الأطراف وهي الصرب والالبان والمجتمع الدولي". كوسوفو - البوستة دلت الوقائع على ان دول الغرب عمدت الى تكرار ما آلت اليه ممارساتها في البوسنة، فسمحت بالحرب في كوسوفو، ونزح نحو 300 ألف الباني حوالى ربع السكان الالبان عن ديارهم، وتشريد آلاف منهم في الغابات والجبال وتفاقم مأساتهم مع حلول قساوة الامطار والثلوج والبرد، في حين ظلت امدادات الطعام والمواد الطبية والمساعدات الانسانية الاخرى لهم شحيحة، بسبب العدد الكبير من النازحين وتشتتهم في مناطق واسعة، وصعوبة الوصول اليهم وقلة عدد منظمات الاغاثة الدولية العاملة في الاقليم، ومحدودية ما هو متوفر لها من امكانات، واتخذت هذه المعاناة الانسانية في اعتبارها "وضعاً لا يحتمل التأجيل". وتم تفويض الاشراف على التزام الصرب والالبان بالاتفاق الى جهتين: الأولى منظمة الامن والتعاون الاوروبية التي ستتولى مهمة اعداد البعثة الميدانية المتكونة من ألفي عنصر بينهم 200 من روسيا، والجهة الثانية حلف شمال الاطلسي بالتعاون مع روسيا من خلال طائرات استطلاعية غير مقاتلة تحلق في أجواء كوسوفو في مراقبة اطلق عليها "عين النسر". واعتبرت مشاركة روسيا بأنها تمت بعد تلبية "سرية" لشرطها الرئيس "بعدم اللجوء الى استخدام القوة في ازمة كوسوفو الا بموجب قرارات مجلس الامن". ويؤكد ذلك لجوء الولاياتالمتحدة وبريطانيا الى مجلس الامن من أجل قرار جديد يسمح لحلف شمال الأطلسي بالتدخل في كوسوفو اذا ما تعرض المراقبون الاوروبيون غير المسلحين للخطر. وجاء هذا الطلب على رغم ان الغرب اعتبر قرار مجلس الامن 1199 كافياً للتدخل ولا حاجة الى قرار جديد وان الحلف الاطلسي اعد خططه لاستخدام قوته الجوية اعتماداً على موافقات دوله وحدها. وفي كل الاحوال، فإن أحداً لا يتوقع تطبيقاً مريحاً لاتفاق هولبروك - ميلوشيفيتش، خصوصاً أنه تردد انه يتضمن بنوداً سرية عدة ليست في مصلحة موقف الالبان الراهن المعارض لأي بقاء في دولة واحدة مع الصرب. كما انه لن يتأتى حل سريع لأزمة كوسوفو، اذا تم التركيز عليها وحدها، بمعزل عن مشكلة الأقليات القومية المنتشرة في عموم منطقة البلقان والتي لها تطلعات مشابهة لما يسعى اليه ألبان كوسوفو من انفصال وانضمام الى الدولة "الأم" المجاورة. والأمل يتوجه الى دول البلقان لتقرر حلاً شاملاً لمشكلة اقلياتها، فيها وفي الدول الاخرى، وظهرت بوادر ذلك في مؤتمراتها العام الجاري، التي عقد آخرها الشهر الماضي تشرين الاول/ اكتوبر في تركيا وشاركت فيه دول المنطقة تركيا، اليونان، يوغوسلافيا، بلغاريا، البانيا، مقدونيا، رومانيا واتفقت على ان الحكم الذاتي هو الحل الواقعي لأزمة كوسوفو، ما يعني انه لا توجد دولة بلقانية تقبل استقلال كوسوفو، خشية ان يمتد ذلك الى طلبات انفصالية في اراضيها ذاتها. حتى البانيا عبرت عن خشيتها من نمو نوازع انفصالية لدى الاقلية اليونانية في جنوبها، في حال انفصال اقليم كوسوفو عن صربيا. وفي هذا الاتجاه صرح المبعوث الاميركي ريتشارد هولبروك أكثر من مرة بأن استقلال كوسوفو "سيؤدي الى فوضى في كل البلقان ونزاعات تصبح خارج نطاق السيطرة عليها".