تجتمع في قضية كوسوفو وحرب القوات الأميركية والأوروبية على الجيش الصربي والشرطة الصربية ووحداتها الخاصة هي الفصل الأخير، مؤقتاً، من أدوار هذه القضية مسائل ومشكلات كانت على الدوام، ولم تزل، من عقد الثقافة السياسية العربية المستعصية على الفهم، فكيف بها على الحل. فالقضية تطرح على المعالجة السياسية والفكرية مسائل حيوية، أولها مسألة الدولة المؤلفة من جماعات قومية ودينية ولغوية ثقافية كثيرة. وتلحق بهذه المسألة مباشرةً مسألة وحدة الدولة التي تسوس هذه الكثرة، والنظام السياسي القادر على إدارتها وتدبير شؤونها. وتتعلق بمسألة وحدة الدولة، وفي آن، السياسةُ الإقليمية المتاحة لدولة كثيرة الجماعات، تتصل جماعاتها، من وجه أو آخر، بدول الجوار وبجماعاتها المثيلة قوماً وديناً ولغة. ولا مناص من أن تؤدي الروابط الجانبية والفرعية الكثيرة هذه إلى إقحام عوامل سياسية وأمنية، إقليمية ودولية، على الدولة المؤلفة من الجماعات هذه. ولا مناص من إفضاء الروابط الجانبية والفرعية بين الجماعات الوطنية الداخلية وبين نظيرها في دول الجوار وكياناته إلى تقييد سيادة الدولة على المواطنين، وعلى الجماعات خصوصاً، على نحو قد يتنافى مع مفهوم طاقم الدولة الحاكم، ومفهوم شعب الدولة الغالب، عن السيادة. فإذا جُمع إلى هذا كله، وهو كثير وفادح، قيام وحدة الدولة على عاتق قيادة "قومية" - قوامها تجسيد تماسك القوم ووحدته - تضطلع بكل مقاليد القيادة، وتسوس الدولة والمجتمع أي الجماعات بيد فولاذية، نَحَت المسائل المعضِلة نحواً متعاظم التعقيد. وكان انفجار المنازعات الداخلية والأهلية والإقليمية أقرب الإحتمالات. وكان دوامُ الإنفجار، وتنقله من ساحة إلى ساحة، واستعصاؤه على الحلول القاطعة والمستقرة، أدنى إلى التوقع. والشَبَه الحاد والقوي بين "عالم" البلقان، ودوله وأقوامه، وبين "العالم" العربي، في القرن الماضي واليوم، غير خافٍ ولا غامض. فعلى غرار البلقنة - وهي لا تقتصر على سياسة الدول العظمى والأمبراطوريات الآفلة في بلاد البلقان، بل تشمل سياسات الجماعات والشعوب البلقانية ونزعاتها ومطاليبها كذلك - على غرار البلقنة التي ولدها "العالم" البلقاني، وَلَد "العالم" العربي اللبننة. وهذه ثمرة السياسات العربية الإقليمية والمحلية على قدر ما هي ثمرة السياسات الإسرائيلية والأميركية والأوروبية في هذه الدائرة من العالم. والبلقنة واللبننة، وهما ليسا واحداً على رغم وجوه شبه كثيرة، ثمرة سَوْق مسائل الدولة الواحدة، والعلاقة بين أقوام الدولة وجماعاتها، والنظام السياسي، والسيادة، والعلاقات الإقليمية - على مثال قومي ووحدوي قاسر وصلب. وهما ثمرة إقحام هذا المثال على أنسجة وأبنية لا يأتلف معها ولا تأتلف معه. وعلى خلاف زعمٍ غالبٍ على كثير من التعليقات العربية السائرة اليوم، وهي وجدت في الأزمة "اليوغوسلافية" الثالثة بعد كرواتيا والبوسنة، ليس أصحاب مثال الدولة - الأمة، الغربي، هم دعاة هذا المثال، وليسوا السعاة في فرضه بالقوة. فالنفور من الفيديرالية، ومن اللامركزية الإدارية والإقتصادية والثقافية، ومن الحكم الذاتي المحلي" وحمل وحدة الدولة السياسية على دمج الجماعات الأهلية والمحلية والقومية، قسراً في جسم "عسكري" تتصدره جماعة من الجماعات، وتحتكر الأمر فيه باسم الأمة أو الشعب" وقطع دابر الحريات والحقوق الأساسية بذريعة إضعافها وحدة الدولة ودفاع الدولة بوجه الأعداء الظاهرين والمتسترين - هذا كله تأخذ به الطواقم الحاكمة في "العالمين"، البلقاني والعربي، وتأخذ به نخب المجتمعات في دول البلقان والدول العربية، ومعظم الجماعات في هذا وتلك، أخذاً متشدداً ومغالياً. ولعل إنكار هذا الأمر في كثير من المواقف والآراء العربية، اليوم وفي مناسبة تدويل قضية كوسوفو، هو السبب الأول في تناول الحملة العسكرية الأوروبية والأوروبية على سياسة ميلوشيفيتش الصربية، وأدواتها وأجهزتها، تناولاً يحرِّف الوقائع الأولى والأساسية من غير تردد ولا تلعثم. فما تتعمد المواقف والآراء هذه إغفاله، وما لم ينفك رجل مثل إبراهيم روغوفا، السياسي الألباني الكوسوفي، يذكِّر به ويدعو إلى احتسابه، هو ابتداء الدولة القومية الصربية العدوان على ألبان كوسوفو قبل عشرة أعوام تامة، عند إلغاء ميلوشيفيتش، زعيم الحزب والدولة، في 1989، ومن طرف واحد، السلطة الإقليمية الذاتية التي أقر بها دستور يوغوسلافيا الإتحادي في 1974 لإقليم كوسوفو ولإقليم فويْفودين. فلما نشطت حركة المطالبة الألبانية في الإقليم، قبل إلغاء الزعيم القومي الصربي السلطة الإقليمية الذاتية ثم بعد الإلغاء، مالت إلى توسيع الصلاحيات الذاتية، ثم إلى استردادها وتثبيتها، فوق ميلها إلى الإنفصال والاستقلال أو إلى الإنضمام إلى ألبانيا "كبيرة" ومجاورة. وكان ينبغي أن يدعو اعتدال حركة المطالبة المحلية والوطنية الزعامة القومية الصربية إلى المفاوضة، لولا أن إجراءات الزعيم الصربي، القومي والشيوعي معاً، لم تكن جزءاً من سياسة استيلاء على الدولة، والإنفراد بالتسلط عليها. فتلازم مع إلغاء الإدارة الذاتية للإقليم الألباني 90 في المئة من السكان تجييشُ العصبية الصربية، وحشدُ عشرات الألوف من الصرب الهائجين في احتفالات ومسيرات "فاتحة"، واستبدالُ قوات الشرطة وقوات الأمن المحلية والمختلطة بقوات صربية خالصة، والموظفين المحليين بموظفين حزبيين من بلغراد، وتضييقٌ حاد على حرية الرأي الألباني وحرية التجمع. وعمد المثقفون والكتّاب الصرب إلى تهمة الكتّاب والصحافيين الألبان بالعمالة والإنفصال والتخريب. وحاولت القيادة القومية والحزبية نقل بضعة ألوف من صرب البوسنة وكرواتيا إلى كوسوفو، وتوطينهم فيها، عوض الصرب النازحين من الإقليم "التاريخي" بسبب تردي أحواله الإقتصادية، وغلبة الفساد على إدارته. والحق أن قيادة سلوبودان ميلوشيفيتش احتاجت إلى مثل هذه السياسة، القومية المتعصبة والمتعسفة، فانتهجت مثلها في الجمهوريات الست الأخرى عدا كوسوفو وفويْفودين، وتوسلت بها إلى مزاحمة القوى السياسية الأخرى التي اضطرت إلى تقاسم السلطة معها، في وقت أول، قبل أن تقلص نفوذه. وإلى اليوم ما زالت بعض قيادات الجيش تخالف ميلوشيفيتش الرأي في السياسة التي ينتهجها، وهي فرضت عليه قبول اتفاق دايتون 1995 الذي أدى إلى الحل في البوسنة. وثمة قوى سياسية، كانت وراء تظاهرات حركة "معاً" الطلابية في أواخر 1996 وأوائل 1997، لا تماشي سياسة ميلوشيفيتش إلا مضطرة. ويحملها على مماشاة الرجل ضربه على الوتر العصبي والقومي، وتعبئته عامة الصرب على شعار وحدوي منكفئ يتهم العالم كله بالتآمر على الأمة الصربية ودراسكوفيتش، المترجح والمتردد، أحد الأمثلة على هذا النوع من القوى السياسية. وأدت هذه السياسة، وأدى انقلابها على النهج الإتحادي والفيديرالي التيتوي على النهج والذي خلف تيتو من 1980 عام وفاة تيتو، الكرواتي - 1981 إلى 1989 عام تكريس زعامة ميلوشيفتش على الحزب الغالب، إلى انهيار يوغوسلافيا الإتحادية والفيديرالية. فتوالت الحروب القومية التي شنها صرب صربيا والجمهوريات "اليوغوسلافية" على الأقوام الأخرى والهاربة من التسلط الصربي إلى الاستقلال سلوفينيا في 1991، كرواتيا في 1991 - 1995، مقدونيا في 1993، البوسنة في 1995. فاتفق استيلاء ميلوشيفيتش على الدولة مع انهيار الفيديرالية. وإذا استثنيت سلوفينيا من الشواهد الدامية هذه - وهي استقلت من غير أن تأبه بلغراد للأمر لأن سلوفينيا لم تكن تؤوي صرباً - لم تفلح الجمهوريات الأخرى في انتزاع استقلالها إلا بواسطة القوة، الأهلية المحلية والدولية. ولم ترضَ صربيا الكبرى والموحدة عقد اتفاق أو معاهدة، والتزامهما، إلا مذعنة للقوة. وتصدرت الولاياتالمتحدة الأميركية القوة الدولية التي حملت صربيا، في كل مرة، على الإذعان. فعلى رغم وقوع البلقان إلى الجنوب من أوروبا، واندراجها في الجناح الجنوبي من حلف شمال الأطلسي، وانفجار الاتحاد اليوغوسلافي غداة انهيار سور برلين وسجنه السوفياتي، ثم غداة ماستريشت، لم تنهض أوروبا إلى انتهاج سياسة بلقانية حازمة ومستشرفة. فكان دأبها، مثل اليوم، انتظار مبادرة أميركية، ديبلوماسية أو مسلحة، ثم مساندة المبادرة الأميركية على بعض التردد، وكيل النقد لها عند أول عثرة، إذا لم تعمد بعض عناصر القوات الأوروبية إلى التواطؤ مع الجاني الصربي على ما فعل بعض الجنود والضباط الفرنسيين مع صرب البوسنة الملاحقين والمطلوبين. وإذ يأخذ، اليوم، الجنرال الفرنسي جان كوت، أحد قادة قوات فصل الأممالمتحدة بالبوسنة سابقاً، على العملية الأطلسية "قتلها" الغاية منها بواسطة الوسائل التي تتوسل بها خارج رعاية الأممالمتحدة وتحت الوصاية الأطلسية والأميركية - وتردد رأيه تعليقات صحافية وإذاعية عربية - يسكت قائد الجيش الفرنسي الأول عن التراخي والإرجاء والمماطلة الأوروبية إلى اليوم. ولولا التمهيد العسكري الأطلسي، مهما كان الرأي في توقيته وفي تأخره، لبدا اقتراح إرسال ثلاثين ألف جندي أوروبي قوةَ فصل وحماية، إلى كوسوفو، مستهجناً وربما متسرعاً. وهذا شأن طعن من يطعن في تجنب العملية الأطلسية استظلال الأممالمتحدة ومجلس الأمن. والحق أن هذا المطعن يغفل عن قرار مجلس الأمن رقم 1199 في 23 أيلول / سبتمبر 1998، وهو ينص على وجوب وقف إطلاق النار في الإقليم، والكف عن الإعتداء على المدنيين، وإجلاء الوحدات الخاصة الصربية، وابتداء المفاوضة مع الجماعة الألبانية. وثبَّت القرار 1203 في 24 تشرين الأول / أوكتوبر بنود الإتفاق بين الموفد الأميركي، هولبروك، وميلوشيفيتش، وجعل من هذه البنود التزامات دولية في إطار الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وهو ينص على جواز استعمال القوة في سبيل إنفاذ قرارات الهيئة الدولية. ويتغافل أصحاب الطرق الدولية الشرعية في معالجة الأزمات الأهلية والإقليمية عن الدور الذي تضطلع به السياستان الروسية والصينية، والدولتان عضوان دائمان في مجلس الأمم وتتمتعان بحق النقض، في الحؤول دون معالجة هذه الأزمات معالجة سياسية رادعة تستبق الحلول العسكرية، وتغني عنها. فالدولتان تشكو كل واحدة منهما من مشكلات قومية داخلية تعالجها الدولة بالقمع والقهر، على ما ظهر من السياسة الروسية في بلاد الشيشان وفي آسيا الوسطى والقفقاز عموماً، ومن السياسة الصينية في التيبت، وفي شيانغ يانغ وتايوان. وتخشى الدولتان، وهذه حالهما، تدويل المشكلات القومية التي تحرصان على بقائها "داخلية"، وعلى حلِّها على النحو الذي يطلق يد الدولة العسكرية والأمنية في الحل. ويعزو بعض الكتّاب الأوروبيين، من أمثال بيار بورديو وبيار فيديل - ناكيه والأخير أمره يبعث على الدهشة، نتائج الحملة الأطلسية على أجهزة القيادة الصربية، مثل هجرة الألبان واحتمال انهيار مقدونيا ومونتينيغرو وحرج ألبانيا واليونان، إلى الحملة، ويسكتون عن تبعات الصرب عن هذه النتائج. ويدعوهم تلافيهم تحميل صربيا الكبرى، وزعيمها، التبعات، إلى التأريخ للأزمة تأريخاً متوهَّماً ومنكِراً لأوضح الوقائع وأجلاها، وأولها تطَاول الزمن على أعمال الإجلاء والإغتيال والتطهير التي تتولاها القوات الصربية الخاصة. ولا يُخلص من هذه الملاحظاتَ إلى مديح الحرب أو إلى إطراح التحفظ عنها. ولكن تجربة اللبننة، أو تجاريبها وتباريحها، تقود إلى إيلاء الأوقات التي تسبق الإنفجار المعلن والظاهر انتباهاً يفوق الانتباه الذي تولاها. وهذا شأن عراق صدام حسين، وليبيا معمر القذافي، وغيرهما من البلدان القريبة. ففي ضوء هذه الأوقات يبدو التحفظ عن الأعمال الحربية، المتأخرة، عدواناً، ربما غير متعمد، على الضحايا التي سقطت من قبل وعلى تلك التي تسقط اليوم. * كاتب لبناني.