يمثل الألبانيون من حيث العدد اكثر من ستة ملايين الشعب الثاني بعد الصرب في غرب البلقان حوالي ثمانية ملايين، ولذلك من الصعب تصور الاستقرار في البلقان من دون توافق الشعبين. ويتشابه الألبان مع الصرب في شيء واحد الا وهو توزعهم على عدد من الدول. فكما يتوزع الصرب في كرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الاسود ومقدونيا يتوزع الألبانيون ايضا في صربيا وكوسوفو والجبل الأسود ومقدونيا والبانيا المتجاورة. ويعتز الألبانيون عادة بأصالتهم في اعتبار انهم ينحدرون من الاليريين الذين كانت لهم دولة وحضارة في المنطقة قبل توسع الدولة الرومانية وقبل قدوم السلاف الى البلقان بقرون. ومع ان العلماء يختلفون منذ القرن التاسع عشر على الأصل الذي انحدر منه الألبانيون، الاصل الاليري او التراقي، الا ان معظم العلماء في القرن العشرين اصبحوا يميلون الى الأصل الاليري. وألقت تيرانا ثم بريشتينا في عهد انور خوجا بكل ثقلها على هذا الأصل، بينما حاولت بلغراد بكل طاقاتها الاكاديمية نفي ذلك بعد تحول الأمر الى احد نقاط التوتر الألباني - الصربي في القرن العشرين. وفي الواقع عاش الألبانيون في المنطقة بين مد وجزر، او بين صعود وهبوط ما بين المناطق الجبلية والسهول المجاورة. فعند كل خطر/ مدّ جديد ينكمش الألبانيون الى المناطق الجبلية ثم يهبطون بالتدريج مع استقرار الوضع. وهكذا حموا انفسهم من الَرْومنة الرومان ومن السلفنة السلاف. لكن مع الدولة الصربية الناشئة في نهاية القرن الثاني عشر، التي ضمت كل مناطقهم خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، اخذ الالبانيون يذوبون في البوتقة الصربية بواسطة اللغة - الثقافة - الادارة - الكنيسة الصربية. وهكذا اصبح الامراء الألبانيون يتزاوجون مع الأسر الصربية النبيلة، ويتسمون بأسماء صربية ويستخدمون اللغة الصربية في مراسلاتهم. ولكن مع قدوم العثمانيين الى المنطقة انتشر الاسلام في المنطقة وخصوصاً في صفوف الألبانيين، وتحول الاسلام الى حاجز يحمي الألبانيين من الذوبان في وسط الصرب. وهكذا سيتحول الدين الى عامل توتر آخر بين الطرفين. فبينما يركز المؤرخون الألبانيون على هذا الدور الايجابي للاسلام في البلقان، الذي حمى الألبانيين من الذوبان، يذهب المؤرخون الصرب الى ان العلاقة بين الطرفين كانت على ما يرام الى ان جاء الاسلام وفصل بين الطرفين وحول الألبانيين الى اعداء للصرب. وفي الواقع اصبحت كوسوفو بالذات منطقة تداخل - تضاد ألباني - صربي اكثر خلال الحكم العثماني الطويل الذي دام حوالي 500 سنة. فعندما وصل العثمانيون الى قلب البلقان كانت كوسوفو ضمن الدولة الصربية، واشترك الطرفان الصربي - الألباني في معركة كوسوفو في 1389م ضد الجيش العثماني، والتي انتهت بشكل غامض. ولكن بعد اكثر من قرن من الزمن تحولت هذه المعركة الى اسطورة من خلال القصائد الشعرية التي شحنت الصرب باستمرار بالمشاعر الدينية - القومية، وحولت كوسوفو الى رمز للمجد الصربي المنهار والثأر الصربي المقبل، ضد الأعداء الاتراك - الألبان الاسلام. ومع الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر اعادت اسطنبول تشكيل الولايات في البلقان اثر اصدارها لقانون الولايات، وأسّست في 1868 ولاية "قوصوه" كما كانت تسمى حينئذ بالعثمانية التي ضمت خليطاً من الألبانيين والصرب والأتراك والغجر وغيرهم مع غالبية ألبانية بسيطة. وفي الحقيقة ان هذا كان ينسجم مع السياسة العثمانية التي كانت تفضل خلط العناصر الاثنية في ولاياتها. وبناء على ذلك اصبح الألبانيون يتوزعون على اربع ولايات: اشقودره وقوصوه ومناستير ويانينا. ومع نمو الحركة القومية الصربية، التي كانت تنظر بعد استقلال وتوسع صربيا في 1878 الى كوسوفو في اعتبارها "صربيا القديمة"، نجد ان كوسوفو بالذات تحولت الى مهد للحركة القومية الألبانية بعد 1878 حين تأسست في عاصمة الولاية "رابطة بريزرن" التي قادت اول صدام مسلح مع الحكم العثماني خلال 1878 - 1881 بهدف الحفاظ على "الأراضي الألبانية". ومع هذا الانعطاف اصبحت الحركة القومية الألبانية تركز على الحكم الذاتي ضمن الدولة العثمانية "وليس الاستقلال عن الدولة وعلى توحيد الولايات الأربعة في ولاية واحدة يتمتع فيها الألبانيون بالحكم الذاتي. تحولت كوسوفو بالذات الى مسرح للانتفاضات الألبانية المتواصلة في القرن العشرين 1910 - 1912، التي حفلت بها الصحافة العربية انذاك، وتتوجت بسيطرة قوات الانتفاضة الاخيرة على عاصمة الولاية ما ارغم اسطنبول في 12 آب اغسطس 1912 على الاعتراف بالحكم الذاتي للألبانيين في الولايات المذكورة. وسرّع هذا الانعطاف في اندلاع الحرب البلقانية التي ارادت منها دول التحالف البلقاني صربيا وبلغاريا والجبل الأسود واليونان انهاء الحكم العثماني في البلقان وتقاسم هذه المناطق بينها. وهكذا تمكنت القوات الصربية من احتلال - تحرير كوسوفو حسب رؤية كل طرف وألبانيا الوسطى. وعلى رغم ان زعماء الحركة القومية الألبانية اعلنوا في 28/11/1912 استقلال ألبانيا في مدينة فلورا الساحلية، في الوقت الذي كانت فيه جيوش صربيا والجبل الاسود واليونان تحتل كل الاراضي الألبانية باستثناء المدينة المذكورة، بقيت حدود الدولة الجديدة على الورق حتى تبت القوى الأوروبية الكبرى في الأمر. كان الألبانيون يطالبون بحدود واسعة تضم كل المناطق التي تقطنها غالبية البانية، مع تأييد نمسوي - ايطالي لأن ذلك كان يعني تحجيم صربيا في داخل البلقان، بينما كان الصرب يسيطرون على كوسوفو ومقدونيا ومعظم البانيا ويتمنون بقاء الوضع على ما هو عليه او التسليم بدولة ألبانية مصغرة. وفي نهاية الأمر تم التوصل في مؤتمر لندن 1913 الى حل وسط يقضي بدولة البانية متوسطة تضم نصف الألبانيين، بينما توزع النصف الآخر على الدول المجاورة صربيا والجبل الأسود واليونان. ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى في 1914 تلاشت حدود البانيا وسط التنافس الاقليمي/ الدولي. وتحولت البانيا الى موضوع لأكثر من معاهدة سرية لاقتسامها. ولكن البانيا انبعثت من جديد كدولة مستقلة بحدود 1913 في نهاية الحرب، حين قبلت في عصبة الأمم خلال 1919 قبل ان تتمكن الحكومة الألبانية من السيطرة على كل اراضي الدولة وان تقوم بترسيم حدودها مع الدول المجاورة. وهكذا قرر مؤتمر الصلح في باريس خلال 1919 مصير الألبانيين في القرن العشرين، اذ وزعهم بالتساوي تقريبا بين الدولتين الجديدتين المتجاورتين: ألبانيا ويوغسلافيا. إلا أن الحركة القومية الألبانية في كوسوفو بزعامة حسن بريشتينا وبيرم تتسوري وغيرهم رفضوا هذا المصير وشكلوا "حركة تحرير كوسوفا" التي قادت النشاط السياسي والعمل المسلح. وفي المقابل نجد ان بلغراد نجحت في استثناء الألبانيين من "اتفاقية حقوق الأقليات" التي فرضتها عليها عصبة الأمم في 1919، وحاولت المستحيل للتخلص من الألبانيين بتهجيرهم الى البانيا او تركيا. وفي الحقيقة ان انعكاس هذا الموقف على البانيا كان يتعلق بأمر مهم لا بد من توضيحه هنا، ألا وهو توزع الألبانيين الى فرعين متمايزين: الغيغ في الشمال والتوسك في الجنوب مع الحد الفاصل المتمثل في نهر شكومبي. ويبدأ التمايز بين الفرعين بالمظهر الفيزيولوجي، حيث ان الغيغ طوال القامة اقرب الى الشقرة بينما التوسك قصار القامة أبعد عن الشقرة، والفارق اللغوي الصوتي والمورفولوجي بين لهجة الغيغ ولهجة التوسك. والأهم من هذا ان الغيغ محافظون ومتمسكون بالقيم التقليدية، بينما التوسك اكثر انفتاحا وتحرراً. ويتداخل هذا التمايز مع الدين، حيث ان الغيغ في معظمهم من المسلمين المحافظين مع اقلية كاثوليكية صغيرة بينما نجد ان التوسك في معظمهم من المسلمين غير المتلزمين غالبيتهم من اتباع الطريقة البكتاشية التي لا تلتزم بالصلاة والصوم مع اقلية ارثوذكسية كبيرة. وعلى الصعيد الفكري السياسي مال الغيغ الى الدولة القومية الواحدة التي تضم كوسوفو ومقدونيا الغربية اذ كل الألبان هناك من الغيغ، بينما كان التوسك يقبلون الدولة الالبانية الموجودة حدود 1913 التي يتمتعون فيها بنفوذ كبير بينما يعني ضم كوسوفو ومقدونيا الغربية طغيان العنصر الآخر الغيغ مع كل ما يمثله ذلك على المستوى الديني والثقافي والفكري والسياسي. وفي هذا الاطار اضاعت بلغراد فرصة لا تفوت حين تسلم رئاسة الحكومة الألبانية في صيف 1924 الكاتب فان نولي، وهو من التوسك الارثوذكس، الذي عرض على بلغراد تطبيع العلاقات بين الدولتين بالاستناد الى الحدود القائمة. ومع ان نولي عبّر كغيره من المثقفين الألبانيين عن عدم رضاه عن تقسيم الدول الكبرى للحدود في 1913، الا انه اصبح يقبل بها الآن كرجل دولة، ويعتبر ان الحل في يد بلغراد تحسين وضع الألبانيين ضمن حدودها لكي "لا تتحول كوسوفو الى مشكلة بين البلدين". الا ان بلغراد تجاهلت هذا العرض وساعدت الشخصية المعارضة احمد زوغو على قلب الحكومة الألبانية برئاسة نولي وتولي الحكم في نهاية 1924 كرئيس للحكومة ثم كرئيس للجمهورية واخيراً "ملك الألبانيين". واستفاد احمد زوغو، وهو من الغيغ، من التنافس اليوغسلافي - الايطالي ليتقارب مع ايطاليا ويلعب بورقة القومية الألبانية. لذلك اختار حين تنصيبه ملكاً في 1928 ان يكون "ملك الألبانيين" وليس "ملك ألبانيا"، اي انه كان يغطي بهذا اللقب الألبانيين في يوغسلافيا المجاورة ايضاً. وما لم يحققه احمد زوغو بدعم من ايطاليا حققته ايطاليا بالتعاون مع المانيا. كان التصور الألماني - الايطالي للبلقان يختلف عن التصور الانكليزي - الفرنسي. وهكذا كان تصور ألمانيا يعتمد على دولة كرواتية كبرى حليفة لها وعلى دولة بلغارية كبرى حليفة لها وعلى دولة البانية كبرى تابعة لايطاليا. وهكذا تم أخيراً في ربيع 1941 تحقيق الحلم القومي الألباني بضم كوسوفو ومقدونيا الغربية لألبانيا، التي اصبحت تسمى "البانيا الكبرى". وفي المقابل عمل الحزب الشيوعي اليوغسلافي، الذي اخذ يعمل على بعث يوغسلافيا من جديد، على دعم الحزب الشيوعي الألباني ليقود المقاومة المسلحة ضد الوجود الايطالي/ الالماني في البلقان. ويشار الى ان الحزب الشيوعي الألباني كان يسيطر عليه العنصر التوسكي/ الفلاشي/ الارثوذكسي، لذلك كان متحمساً لانضمام البانيا الى الفيديرالية اليوغسلافية خلال 1945 - 1948، ولم يعارض بالفعل سلخ كوسوفو عن البانيا في صيف 1945 وضمّها الى جمهورية صربيا. ومع تولي رامز عليا الحكم، وهو من الغيغ، بدأ الوضع يتغير ببطء نتيجة للتركة الثقيلة التي خلّفها انور خوجا، ونتيجة لتفاقم الوضع في كوسوفو خلال 1985 - 1989. وأصبح من المسلّم به ان الوضع في كوسوفو زاد من الضغط على النظام الشيوعي في تيرانا، الذي بقي يقاوم التغيرات الحاصلة في اوروبا الشرقية، وكان من الأسباب التي أدت الى سقوطه. واكتمل هذا التحول مع تولي صالح بريشا، وهو من الغيغ، لرئاسة الجمهورية الذي شهد عهده تراجع نفوذ التوسك وازدياد حضور ونفوذ الغيغ في تيرانا. ونتيجة لذلك اعترفت ألبانيا فوراً بالجمهورية التي أعلنها الألبانيون في كوسوفو خلال 1991، وبالانتخابات الرئاسية التي أدت الى فوز الكاتب ابراهيم روغوفا، وأصبحت كوسوفو من اهم مشاغل السياسة الخارجية الألبانية. وهناك من يعتقد ان اكثر من طرف بلقاني وغربي ساهم في اسقاط بريشا في انتخابات 1997 وفوز الاشتراكي فاتوس نانسو، وهو من التوسك الارثوذكس الذي انتهج مباشرة سياسة أكثر واقعية مع يوغسلافيا. واستناداً الى هذا كله لا يبدو من "المريح للألبانيين" في كوسوفو ومقدونيا ان يوصفوا بأنهم "ينحدرون من اصل الباني" او "المنحدرين من اصول ألبانية"، لأن هذا يوحي بوجود فارق ما بين الألبانيين في كوسوفو ومقدونيا والألبانيين في البانيا، بينما يعتبر الألبانيون في كوسوفو ومقدونيا ان حدود يوغسلافيا لم تفصلهم في يوم من الأليام عن ألبانيتهم. ومن ناحية اخرى يشعر الألبانيون في كوسوفو بالازدراء حين يوصفون بأنهم اقلية. وهم ربما يكونون كذلك في يوغسلافيا الحالية بالمقارنة مع الصرب، مع انهم اربعة اضعاف شعب الجبل الأسود الذي يتمتع بالحق في جمهورية، الا انهم ليسوا كذلك بالنسبة للألبانيين ككل. فهم يمثلون حوالي 40 في المئة من عدد الالبانيين في البلقان، وهم فرضوا على العالم الآن "اكتشاف" الشعب الألبان. * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة ال البيت، الأردن