يقول تعالى: «...ويتفكّرون في خلق السموات والأرض...»، والتفكّر بمعنى التعمّق والتدبّر غير التفكير الذي قد يكون عميقاً وقد لا يكون، لذا تجد المتفكِّر في الدين إذا توغّل واجه أسئلة ومسائل ذات أغوار وأمواج من طبيعتها لو خاض فيها أن تبعده عن سطح البحر الهادئ والشط السالم، بل وتظهره في نظر المؤمن المؤثر السكينة والتسليم الذي لا يتفكّر في مسألة عويصة ولا يسأل عملاً بالآية «... لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم...»، (مع أن الآية نزلت في من ألح في السؤال عن نسبه وهل يشوبه الزنا)، أقول قد تظهر هذا المتفكِّر بمظهر غير المؤمن، ومع هذا فلا تجد المتفكِّر يكترث كثيراً بما يكونه الآخرون من أحكام عن حقيقة إيمانه، فما يهمه في المقام الأول هو إيمانه عندالله، وكأنه يتبنّى قول الإمام أبي حنيفة: «المؤمن بقلبه المذعن في نفسه يكون مؤمناً عند الله، وإن لم يكن مؤمناً عند الناس». جرت العادة أن يكون المؤمن في نظر الناس من يبني إيمانه على النقل، أي النص الثابت الظاهر، أمّا من يبني إيمانه على العقل المتحرِّك، وعلى تناول الفهم المألوف في شكل غير مألوف بحثاً عن الحقيقة (لا يملكها غير الله، ويظل هاجس الإنسان وقدره أن يبحث عنها)، هذا المتفكِّر هو الذي يتعرّض للإشكالية التي تناولها ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل». صحيح أن النقل هو أدعى للراحة والاطمئنان، وحتى السلامة، فلا تضمن أن كل من سار في طريق التعمّق سيعود منه بدرجة إيمانه، ثم إن الأمر ليس بهذه السهولة، فلا بد قبل خوض العباب من التسلّح المعرفي والتحلي بالأمانة الموضوعية، فلا يتحمس المرء لما يعتقده ووافق هواه، ولكن ينتصر للحق وإن خالف هواه، وهي درجة كبيرة من المحايدة لا يقدر عليها سوى قلة من الباحثين والمتفكِّرين. وعودة إلى النقل قلنا إنه أدعى لراحة البال أجل، ولكن لو دققنا، فقد نتفق على أنه مسار إن طغى وانفرد سلطانه بالفرد والأمة، فسيؤدي بالنتيجة إلى «كسل عقلي» يُغلق معه باب الاجتهاد والمجتهدين، وهو اختيار على أية حال، أليس كذلك؟ فأحياناً لا يملك المرء على رغم علمه مسبقاً بما سيواجه مع طريق شائك غير مرحب به من قاعدة الجماهير العريضة، لا يملك المرء إلاّ أن يختاره ولا حيلة له في ذلك، وكأن لكل منّا أجهزة خلقت معه، فأنت إن أدرت مفتاح الراديو تسمع صوتاً، وإن أدرت مفتاح الكهرباء ترى ضوءاً، وهذان الجهازان أحدهما لشؤون العقل، والآخر لشؤون الروح، فهل يعني أن كل امرئ يعمل بالجهازين معاً؟ ليس بالضرورة أن يعملا بنفس الكفاءة، بل وقد يصمم أحدهم على تعطيل جهاز الروح والقلب فلا يرى ضوءه، ويكتفي بجهاز المادة والعقل وصوته. وهكذا تجري، وعلى مر الزمان ستجد المؤمن بالنقل على إطلاقه والمؤمن بالعقل وحده، وستجد من يؤمن ويمارس الدين بالنقل والعقل معاً، وستجد من يفصل ويؤمن أن الدين بالنقل، أما العقل فللعلم، مع أن العالِم المتبّحر لا يتعارض مع المؤمن المتعمّق، ففي الغالب لا تعارض بين الدين والعلم، (قد يقع بين الدين والفلسفة)، وها هو العالم أينشتاين يقول في كلمته المعبِّرة: «إنني أدين بأعمق التقديس لهذه القوة العجيبة التي تكشف عن نفسها في أصغر جزء من جزيئات الكون»، فهل بقى عليه أن ينسب تلك القوة الخارقة إلى الله موجدها؟ نعم بقي عليه ذلك، ولكن الإيمان هو ما وقع واستقر في نفسك، فالإيمان تلقائي بلا تفكير، أما التفكير فليس بالضرورة أن يأتي بإيمان، فأنت من الممكن أن تفكّر وتهتدي إلى بعض الأجوبة ومع ذلك لا تؤمن، فالإيمان قد لا يتعارض مع العلم صحيح، ولكنه ليس مسألة خاضعة للعلم أو للمنطق، وإنما هو ما وقر في روحك، فهل الإيمان هبة من خالق الوجود يُنعم به على من يشاء؟ هو كذلك، وهو وحده تعالى من يهبه، وهو وحده تعالى من يحرمه. [email protected]