بعد حرب الخليج الثانية كان حديث الساعة النظام الدولي الجديد، والأسس التي يجب أن يبنى عليها، وساد جو من التفاؤل بتعزيز مكانة الأممالمتحدة واحترام القانون الدولي، ومراعاة قانون الإنسان. وبدأ الحديث عن ضرورة إصلاح المنظمة الدولية وأجهزتها، وبالذات مجلس الأمن، وعقدت الاجتماعات وقدمت الاقتراحات. ولكن الأحداث اتخذت بعد ذلك مجرى آخر، وبدأ الشك من خلال التصريحات والممارسات يكبر يوماً بعد آخر في إمكانية ولادة النظام المنتظر، الذي يوفر العدالة والمساواة ويقود إلى الأمن والاستقرار. وتبقى الولاياتالمتحدة الأميركية وسياساتها عاملاً محورياً في الصورة التي يمكن أن يكون عليها الوضع في العالم باعتبارها القوة العظمى الوحيدة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً. ويطرح السؤال: كون الولاياتالمتحدة هي القوة العظمى الوحيدة هل يجعل العالم أحادي القطبية؟ وهل يمكن أن يسود الأمن والاستقرار والعدل في العالم من خلال قوة عظمى وحيدة إلى جانب قوى كبرى أخرى غير مستقرة؟ وما هو وضع الأممالمتحدة، وهل يمكنها أن تقوم بدورها الذي حدده الميثاق وفق المعطيات الراهنة، أم أن التطورات تخطتها ميثاقاً ومؤسسات؟ الواقع ان موضوع النظر إلى الولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم لا يعني أن العالم أحادي القطب، بمعنى قدرة هذا القطب على فرض مصالحه وسياساته على الآخرين. وهذا موضوع نقاش بين الأميركيين أنفسهم، ولعل أهم مقالة نشرت حول هذا الموضوع، وأثارت ما أثارته من ردود فعل هناك هي مقالة صموئيل هنتنغتون "القوة الوحيدة"، التي نشرها في العدد قبل الأخير من ال"فورن افيرز". وكلنا يذكر مقالته الشهيرة التي كتبها في المجلة نفسها تحت عنوان "صراع الحضارات وإعادة صياغة العالم الجديد"، منذ أكثر من عامين. وقد أثارت هذه المقالة ردود فعل كبيرة، إذ رأى هنتنغتون حتمية الصراع بين الحضارات، وحذر من حضارتين رأى أنهما تشكلان الخطر الأكبر على الحضارة الغربية الراهنة هما الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الكونفوشوسية. وقد ندد مثقفو العالم بنظرته هذه واعتبروها دعوة إلى الفوضى، ودعا عقال العالم إلى الحوار بين الحضارات والاحترام المتبادل بينها، حتى يسود العدل والإنصاف ويقوم العالم على تعدد الحضارات والتفاعل في ما بينها. ولفت نظري أن مقالة هنتنغتون الأخيرة "القوة الوحيدة" لم تجد صدى لدى المثقفين العرب، مع أنها تعني هدماً لنظريته الأولى، وإن كان الطرح الأول ثقافياً، والأخير سياسياً. ونظريته الأخيرة ترى أن الولاياتالمتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، ولكن هذا لا يعني أحادية القطبية. إذ أن - أحادية القطبية - كما يرى هنتنغتون تعني قوة عظمى واحدة، مع عدم وجود قوى أساسية ذات مغزى وقوى أخرى صغيرة، وبالتالي فإن هذه القوة العظمى الوحيدة قادرة وبصورة قاطعة على حل المشاكل الدولية لوحدها، ولا توجد مجموعة من الدول قادرة على منعها من ذلك، كما كانت الحال في العصور الكلاسيكية بالنسبة الى روما وفي عصور أخرى شرق آسيا تحت راية الصين. ويرى هنتنغتون ان عالم الحرب الباردة كان يتكون من قطبين، وكان كل قطب يسيطر على تحالف من الدول، للتنافس مع القطب الآخر للتأثير على دول عدم الانحياز. أما العالم متعدد الأقطاب، فهو عالم من عدة قوى رئيسية ذات وزن متقارب، تتعاون وتتنافس في ما بينها في تغيير المواقع. وينتقد السيد هنتنغتون المسؤولين الأميركيين لأنهم يميلون للتصرف وكأن العالم أحادي القطبية، ويتباهون بالقوة الأميركية وبالقيم الأميركية، ويرون في أميركا من دون غيرها قوة الخير. ثم يتعرض لتصريح السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية بأن الولاياتالمتحدة "لا غنى عنها"، فيقول إن هذا القول صحيح بمعنى محدود، وهو ان الولاياتالمتحدة شريك لا غنى عنه في أي مجهود لمواجهة قضايا دولية أساسية، ولكنه خاطئ إذا كان يعني أن بالإمكان الاستغناء عن الأمم الأخرى، ولذلك فإن الولاياتالمتحدة لا يمكن ان تتفادى التعاون مع أمم أخرى أساسية لمعالجة أية قضية، وبذلك يكون عدم الاستغناء عن أميركا - كما يقول - مصدر حكمة. وواضح ان هنتنغتون في نظريته الجديدة يتناقض تمام التناقض مع نظريته الأولى، فإذا كانت القوة لا تستطيع أن تفرض نفسها على الآخرين، فمن باب أولى ان لا تستطيع ثقافة أن تمحو من التاريخ ومن الواقع حضارات وهويات أمم أخرى، وان العالم في حاجة إلى أن تتناغم حضاراته وتتفاعل بشكل يوفر الاحترام المتبادل والعمل معاً من أجل استقرار العالم وتطوره. والغريب ان هنتنغتون قد توصل إلى قناعته قبل قيام الولاياتالمتحدة بعملياتها في يوغوسلافيا من خلال حلف الناتو. ورغم أن هنتنغتون لم يشر إلى حرب الخليج الثانية، إلا أنها تمثل أوضح مثال، إذ أن الولاياتالمتحدة بكل ما تملكه من قوة لم تستطع تحقيق أهدافها إلا بالتحالف مع دول أخرى كبيرة وصغيرة، والحصول على الشرعية من خلال قرارات مجلس الأمن والشرعية العربية من خلال مشاركة مصر وسورية. ومن القضايا المثارة في واشنطن: هل تتحقق المصلحة الأميركية في أن يكون خصومها أو شركاؤها في المجتمع الدولي أقوياء أم ضعفاء؟ والواقع أن النقاش يدور حول القوى الكبرى المؤثرة وليس حول الصغار من الدول، فانقسام العالم بين شمال غني وجنوب فقير، وانعكاس ذلك على استقرار العالم، وما يعنيه من مسؤولية اخلاقية، أمر غير مطروح ولا يمثل عاملاً أساسياً في رسم السياسات الأميركية. ويناقش أحد الكتّاب في جريدة "نيويورك تايمز" موضوع: هل من صالح أميركا ان يكون خصومها السياسيون أو الاقتصاديون أقوياء أم ضعفاء، فيقول: "إذا كنا تعلمنا درساً في السنوات الأخيرة من أزمتي روسياواليابان، فهو ان ضعف القوى الكبرى يمكن ان يترتب عليه تحديات لأميركا تماماً كالتحديات المترتبة على قوتهم، وحين نركز على التحدي المحتمل لأي قوة كبرى تتعرض لمشاكل كبرى، فتنشغل بصراعات داخلية، وهجرة جماعية، وأنشطة اجرامية، فإننا سندرك ان عواقب ذلك لا تقل عن التحديات العسكرية"، ولذلك فالسؤال المطروح هل جيران وحلفاء ضعفاء؟ أم جيران وحلفاء أقوياء؟ وتتضارب وجهات النظر بين الجمهوريين والديموقراطيين، وكل له حججه من خلال استدلاله بجانب من جوانب السياسة الأميركية. والواقع ان صانعي القرار الأميركي في ذهنهم ثلاث دول هي: روسياواليابانوالصين. فضعف روسيا يتمثل في عدم قدرة أجهزة الدولة في تسيير أمورها، وما كان يسعد الأميركيين يوماً وهم يشاهدون الجيش الروسي يتعرض للضعف يوماً بعد آخر، أفسده الخوف من ان الفوضى الاقتصادية عرضت القوة النووية للخطر. ويقول السيد مندلبورم، وهو استاذ جامعي من جامعة جون هوبكنز والذي كتب حول التحديات التي تواجه النظام العالمي: "خلال الحرب الباردة كانت الأسلحة النووية تحت رقابة قوية، وكان خوفنا من الأشخاص الذين يتولون هذه الرقابة، ولكن خوفنا الآن نابع من أنه لا شيء تحت الرقابة بدءاً بنظام الضرائب، وانتهاءً بالصناعة النووية المعقدة". أما اليابان، فإن القلق منصب على أن الأزمة الاقتصادية في اليابان ستترك ظلالها على محاولات الاصلاح الحساسة للاقتصاد في جنوب شرقي آسيا، مع ما يعنيه ذلك من أضرار على الاقتصاد الأميركي. ويشكل وضع سياسة للتعامل مع الصين حيرة حقيقية للولايات المتحدة، وقد ساهمت قضية التجسس على الأسلحة الأميركية عبر الكومبيوتر عاملاً في تصاعد المواجهة بين الإدارة والاتجاهات المحافظة، فبينما ترى الإدارة ومجموعة من الخبراء في شؤون الصين أن الأوضاع الاقتصادية في الصين يمكن ان تقود إلى أعراض شبيهة، بل وأكثر خطراً، من الوضع في روسيا، من تسرب للأسلحة، وتزايد في الجريمة، يرى المحافظون المعارضون للتقارب ان الإدارة قد أخفت قضية التجسس، وتخلت عن مبادئ حقوق الإنسان وخضعت للشركات، وتنكرت لحماية تايوان. ولا يزال الحوار في واشنطن على أشده حول هذه الموضوعات التي تؤكد أن أميركا قوة عظمى، ولكن لا يمكن أن يكون العالم أحادي القطبية، ولا يمكن لدولة مهما بلغت من القوة أن تحول الآخرين إلى مجرد أدوات لتنفيذ سياساتها ومصالحها. كما نستطيع أن نقول إنه في ما يتعلق بالوضع الذي سيكون عليه النظام الدولي الجديد، فإن التطورات في حال سيولة، واننا نحتاج إلى الكثير من الوقت حتى تكون ملامح هذا النظام أوشكت على التشكيل. أما في ما يتعلق بالأممالمتحدة، وتآكل دورها وتخطي الأحداث والتطورات لميثاقها ومؤسساتها، فسيكون إن شاء الله موضوع مقال آخر. * سياسي قطري.