في منتصف الثمانينات الميلادية كانت الترسانة الأميركية تدفع إلى مزيد من القوة وكانت أميركا تحاول أن تستعيد نفوذها مستفيدة من حضور ريجان التلفزيوني القوي وسياسة الكلاسيكيين الاقتصادية التي أطلقت يد أصحاب المال في ميادين الاستثمار. كان فعل ريجان المتحدي استلهاما لمقولة جون كنيدي الشهيرة: إننا نملك القدرة لجعل هذا الجيل البشري أفضل الأجيال في العالم أو آخر هذه الأجيال كان تعبيرا عن الشعور الفائض بالقوة والمخاطرة والذي أحاله ريجان الآتي من كاليفورنيا ذي التاريخ اليميني العريق إلى عصر جديد وبالذات بعد أن تهاوت منظومة الاتحاد السوفيتي. كانت نقلة كبرى في الزمن الأميركي الحديث والتي على إثرها دقت أبواب السيادة العالمية. أميركا التي يعرفها العالم هي أميركا التي وطئت تراب القمر قائلا قائلها: خطوة صغيرة لرجل ولكنها وثبة عملاقة للإنسانية. والآن يتربع قطب أحادي على أنقاض الفراغ الكبير الذي خلفه تهاوي الشيوعية وحطام الاتحاد السوفيتي. والتي قال أثناءها تشارلز كراوثار أحد المحافظين الجدد: لقد انتهى الاتحاد السوفيتي وولد شيء جديد عالم أحادي القطب تهيمن عليه قوة عظمى وحيدة لا يكبحها أي منافس تستطيع الوصول إلى جميع أرجاء العالم هذا التطور التاريخي المذهل لم يحدث منذ سقوط روما فقد تفككت الكتلة الاشتراكية وانفرط حلف وارسو وتفردت الولاياتالمتحدة الأميركية بالنظام العالمي الجديد وكان هذا التحول الكبير البداية الحقيقية لهزيمة النظام الاشتراكي وانتصار المعسكر الرأسمالي. الواقع الجديد الذي يقوده ترمب يؤكد على أن الولاياتالمتحدة الأميركية لن تتراجع بل سترسخ مكانتها بوصفها القوة العظمى وأنها لن تستسلم لإغراءات الانعزالية بل ستبقى حاضرة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.. وقد اعتبر بعض المفكرين الغربيين ومنهم فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama أن هذه الحقبة لم تكن تعني نهاية الحرب الباردة فحسب، بل نهاية التاريخ ذاته، فالصراع الأيديولوجي الذي ساد العالم منذ شيوع الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر ثم قيام الثورة البلشفية The Bolshevik Revolution في أكتوبر عام 1917 ثم تأسيس الاشتراكية الدولية والكتلة الشرقية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في الثاني من سبتمبر عام 1945 قد بلغ منتهاه بالسقوط الشنيع لتلك الكتل والانتصار الحاسم للنظام الليبرالي الرأسمالي. واليوم أصبحت أميركا المرجع الوحيد في تقرير الخطأ والصواب في سلوك الدول فقد سلك بوش (الابن) مسلك رونالد ريجان في التوجه الأحادي الحاد فقد أعلنت الولاياتالمتحدة في خريف عام 2002 حفاظها على الهيمنة عن طريق التهديد بالقوة المسلحة تقول الصياغة الاستراتيجية للأمن القومي الأميركي أن قواتنا يجب أن تكون قوية بما فيه الكفاية لثني الخصوم المحتملين عن بناء قوة عسكرية تضاهي القوة الأميركية وينقل الباحث نعوم تشومسكي عن جون إيكنبري الخبير في العلاقات الدولية إن الاستراتيجية الجديدة تقدم الولاياتالمتحدة للعالم بوصفها دولة تصحيحية تسعى إلى استخدام مزاياها لإيجاد نظام عالمي تتولى بمقتضاه إدارة العالم. ويرى تشومسكي ان الاستراتيجية الأميركية تؤكد حق الولاياتالمتحدة الأميركية في اللجوء إلى شن حرب وقائية متى ما أرادت ذلك لحماية مصالحها ضد أي تهديدات خارجية. وتشير دراسات غربية عدة إلى أن الولاياتالمتحدة الأميركية لا تزال القوة المهيمنة التي تسعى إلى بسط سيطرتها على النظام العالمي فمع ظهور الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة عظمى وحيدة على قمة النظام العالمي الجديد وبروز مرحلة القطبية الأحادية للقوة الأميركية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وتحديدا في 25 سبتمبر 1991 أعدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) مشروع استراتيجية شاملة هدفها الحفاظ على التفوق والتفرد عن طريق منع ظهور أي منافس عالمي وعلى الرغم من أن هذه الخطة قد تراجعت بعد جدل حول فاعليتها بل تم التخلي عن استخدام مفردات التفوق والسيطرة من الجانب الأميركي الذي يميل إلى التحدث عن الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها دولة الصدارة أو الدولة التي لا غنى عنها فإن بعض الباحثين يشيرون إلى أن الولاياتالمتحدة الأميركية تتمتع بهامش تفوق على أقوى الدول التالية لها بل على كل القوى الأخرى مجتمعة فالولاياتالمتحدة الأميركية هي أول دولة قائدة في التاريخ الدولي الحديث يتحقق لها تفوق حاسم في كل ركائز القوة التعليم والثقافة والاقتصاد والتقنية والمقدرة العسكرية والطاقة والنقل. يقول جورج فريدمان مؤلف كتاب ال100 عام المقبلة: توقعات للقرن الواحد والعشرين: إن الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة تنفرد بقمة النظام العالمي الجديد تتبنى خمسة أهداف جيوسياسية استراتيجية هي التي توجه استراتيجيتها الكبرى في هذا النظام وقد اصبح تحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة على نحو متزايد كما أصبحت الأهداف أكثر طموحا بمرور الوقت ومن أهم ما ذكره حول أهداف الولاياتالمتحدة الأميركية والخطط والمساعي الرامية إلى تنفيذها وهي: الهيمنة الكاملة للجيش الأميركي على أميركا الشمالية والتخلص من أي تهديد للولايات المتحدة الأميركية من جانب أي قوة في نصف الكرة الغربي وسيطرة القوات البحرية الأميركية بشكل كامل على الممرات المؤدية إلى الولاياتالمتحدة الأميركية بهدف استبعاد أي احتمال لغزو أجنبي والهيمنة الكاملة على محيطات العالم لتعزيز ضمان الأمن المادي للولايات المتحدة الأميركية ومنع أي دولة أخرى من ان تشكل تحديا للقوة البحرية العالمية للولايات المتحدة الأميركية. ويقول مؤلف كتاب آفاق العصر الأميركي د. جمال السويدي: إن الولاياتالمتحدة الأميركية لم تكن لتنفرد بمكانتها إلا من خلال التفوق النوعي الهائل على مختلف الصعد العسكرية والاقتصادية والتقنية والثقافية والتعليمية وتمتلك الولاياتالمتحدة الأميركية قوة عسكرية لا تضاهى كما تستطيع ترسانتها العسكرية إلحاق الهزيمة بأي خصم كان. والمؤشرات تقول إنه لن يحدث تراجع فعلي في نفوذ الولاياتالمتحدة الأميركية ذلك أنها تنفرد بإنفاق عسكري يفوق في مجمله الإنفاق العسكري في كل من الصين وروسيا وبريطانيا واليابان وفرنسا والهند وألمانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية وأستراليا. فالولاياتالمتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تحقق دوما تقدما كبيرا في التقنيات والتطور العسكري الذي ضمن لها استمرار التفوق والهيمنة بفضل موازنتها الدفاعية الهائلة فلقد كانت النفقات العسكرية في عام 1997 تزيد على مجموع إنفاق الدول الخمس أو الست التي تليها وهي الصين وروسيا وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة وألمانيا. وقد أسهم انتشار المفاهيم الليبرالية وصعود العولمة الاقتصادية في إعلاء العامل الاقتصادي على الرغم من أن التقدم والتطور العلمي والتقني والثقافي يعد في الأساس جزءا لا يتجزء من مكونات القوة الأميركية الشاملة. فإنه لم يحدث منذ حقبة روما أن امتلكت أمة من الأمم مثل هذه القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تمتلكها الولاياتالمتحدة الأميركية لكن هذه القوة لا تتيح لها أن تحل مشكلاتها أو تتعامل بنجاح مع تحديات عالمية كالإرهاب والتدهور البيئي وانتشار أسلحة الدمار الشامل والأزمات المالية. ولذلك فإن النهج الاستراتيجي الأميركي قد تغير عقب انتهاء ولاية جورج بوش (الابن) وتولي أوباما حيث أكد أوباما عند إعلانه نهاية حرب العراق إن درسا من أهم الدروس المستفادة من هذه الحرب هو أن التأثير الأميركي في جميع أنحاء العالم ليس وظيفة القوات المسلحة وحدها ولكنه وظيفة الدبلوماسية والقوة الاقتصادية وقوة النموذج الأميركي أيضا. فقد حدثت تحولات في التوجهات الاستراتيجية الأميركية على يد أوباما تشدد على ضمان الأمن العالمي حيث بدا واضحا أن استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي أعلنت في مايو عام 2010 اتجهت إلى إعادة تقويم السياسة الخارجية الأميركية وأكدت هذه الوثيقة التزام الولاياتالمتحدة بالسعي إلى تحقيق مصالحها في نظام عالمي جديد يتمتع فيه جميع الأعضاء بحقوق ومسؤوليات محددة. فالخطاب السياسي الأميركي عقب وصول أوباما إلى الحكم قد ابتعد عن الأحادية وظهرت أنماط قيادة أمريكية جديدة للنظام العالمي الجديد لم تتبلور بشكل كامل تحولت فيها أميركا من دور اللاعب الرئيسي في الأحداث الدولية إلى دور الداعم ولكن هذا التغير لا يعني مطلقا العودة تمام إلى المربع الأول. وبشكل عام يكاد يكون هناك شبه إجماع بين الباحثين الغربيين على أن حرب العراقوأفغانستان تمثل منعطفا فارقا في السياسة الخارجية الأميركية فقد نشر ستيفن مارتن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد مقالا في مجلة ناشيونال إنترست تناول فيه تأثيرات حربي أفغانستانوالعراق. واعتبر والت أن النفوذ الأميركي في العالم قد تأثر بشدة بسبب الحرب والأخطاء الفادحة للولايات المتحدة الأميركية فهاتان الحربان تتراوح تكلفتها ما بين أربعة وستة ترليونات دولار في حين لم تحقق شيئا. وإن كان الواقع الجديد الذي يقوده ترامب يؤكد على أن الولاياتالمتحدة الأميركية لن تتراجع بل سترسخ مكانتها بوصفها القوة العظمى وأنها لن تستسلم لإغراءات الانعزالية بل ستبقى حاضرة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا في جميع أنحاء العالم.