مر النظام الدولي الحديث منذ نشأته بتحولات تاريخية عظيمة أثرت في مساره، وجعلته يتسم في مرحلة معينة بما يطلق عليه تعددية الأقطاب، وذلك حين تُوجد في الفترة نفسها دول متعددة قوية ومتنافسة، وفي مرحلة أخرى قد يطلق عليه النظام الثنائي القطبية كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبروز هذا النظام الذي تزعمه كل من الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة الأميركية. غير أن هذا النظام الثنائي القطبية سقط مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، ولذلك ظهر النظام الأحادي القطبية بعد أن أصبحت الولاياتالمتحدة الأميركية هي القطب الأعظم والأوحد. وقد جرت عادة الخبراء في العلاقات الدولية – في مجال توصيفهم لمراحل انتقال النظام الدولي – إلى استخدام مصطلح اللحظة moment. فقد يتحدثون عن «لحظة» الأحادية القطبية السائدة الآن، والتي أعقبت «لحظة» الثنائية القطبية التي سادت في الحقبة من 1945 حتى 1990. ما الذي يدعونا إلى مناقشة موضوع تحولات النظام الدولي الآن؟ لا شك أن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة مثّلا نقطة تحول فاصلة في نهاية القرن العشرين. لم يتصور أحد حين وقع الانهيار أن إمبراطورية الاتحاد السوفياتي المكونة من عديد من الدول المنتظمة في إطاره يمكن أن تقع وتصبح هباء، بعد أن انفصلت عنها جمهوريات عدة تابعة لها واستقلت. وكان الانهيار في الواقع نتيجة منطقية لتفتت الإمبراطورية، والذي لم يتنبأ به من بين خبراء العلاقات الدولية سوى باحثة فرنسية شهيرة هي هيلين كارير دانكوس التي نشرت كتاباً قبل الانهيار بعنوان «انفجار الإمبراطورية» واعتبر عند صدوره مغالاة شديدة من الباحثة في مجال التنبؤ السياسي، غير أن الأحداث أثبتت في الواقع عمق بصيرة هذه الباحثة المرموقة وصدق تنبؤاتها، وقد كوفئت من بعد على كتابها الرائد فانتخبت عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وهذه العضوية تعد شرفاً يسبغ على أي أكاديمي فرنسي مرموق. سقط النظام الثنائي القطبية إذن، وسريعاً ما تحول النظام الدولي إلى نظام أحادي القطبية تهيمن فيه الولاياتالمتحدة الأميركية على السياسة العالمية بحكم قوتها العسكرية الفائقة وقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية. وليس من قبيل المبالغة القول إن اللحظة التاريخية الحاسمة في تشكيل النظام الدولي الراهن كانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وإعلان الرئيس السابق جورج بوش حربه الشهيرة ضد الإرهاب. بدأ بوش هذه الحرب بغزو أفغانستان لإسقاط نظام «طالبان» الذي كان يؤوي اسامة بن لادن ورفض تسليمه باعتباره زعيم تنظيم «القاعدة» الذي نسب إليه القيام بالهجوم الإرهابي، ثم انتقلت الحرب ضد الإرهاب لغزو العراق باعتباره – كما قيل – يمتلك أدوات تدمير شامل. ومعنى ذلك أننا نعيش الآن في ظل لحظة «أحادية القطبية» هي التي حاول فيها نعوم تشومسكي المفكر الأميركي المعروف بمعارضته المؤسسة الأميركية توصيفها في مقال له نشر أخيراً وظهرت له ترجمة عربية في جريدة «الشروق» المصرية بعنوان «لحظة أحادية القطبية» (في 15 تشرين الأول /أكتوبر 2009. ما أهمية الأفكار التي عرضها تشومسكي؟ ترد هذه الأهمية إلى أنه قدم توصيفاً دقيقاً للمرحلة الراهنة التي يمر بها النظام الدولي، ونعني مرحلة أحادية القطب، إلا أنه لم يناقش المسألة التي يدور حولها الجدل بين علماء العلاقات الدولية منذ حين وهي توافر الشروط الموضوعية لتحول النظام العالمي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. ولعل أبرز ما عرضه تشومسكي هو تشريح الطبيعة العسكرية العدوانية للدولة الأميركية التي تمتلك أقوى آلة حربية في العالم، وتتميز بأن موازنتها للدفاع هي أكبر من موازنات دول العالم جميعاً، بالإضافة إلى أنها الدولة الوحيدة التي لها مئات القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم. ويؤكد تشومسكي أن النظام العالمي الراهن ما زال أحادي القطبية يعيش في بعد واحد فقط وهو ميدان القوة العسكرية. والواقع أنه إذا استعرضنا سجل الحروب التي دخلتها الولاياتالمتحدة الأميركية منذ إعلان حربها ضد الإرهاب، فإننا سريعاً ما نكتشف أنها هُزمت في العراق نتيجة الجهل الفاضح للقيادات السياسية الأميركية ببنية المجتمع العراقي المعقدة، وبنوعية المذاهب السائدة، وبالطبيعة القبلية له، وبتاريخه الحديث. وإذا أضفنا إلى ذلك غرور استخدام القوة الفائقة التي ركز عليها وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد لأدركنا أن الفشل الأميركي في العراق كان محتماً. لقد نجحت الولاياتالمتحدة الأميركية في تمزيق نسيج المجتمع العراقي، ولقيت خسائر هائلة في الأرواح والعتاد. واضطرت أخيراً إلى الانسحاب من المدن، وتحديد تاريخ لانسحابها نهائياً من العراق. وحين انتخب أوباما رئيساً أعلن أنه سيركز كل المجهود الأميركي على كسب الحرب في أفغانستان وهي التي ورثها من عهد سلفه جورج بوش. وبدأ قراراته بزيادة عدد القوات الأميركية بعد أن عززها بعشرين ألف مقاتل، غير أن هذه الزيادة لم تؤد إلى تغيير الموقف، لأن قوات «طالبان» عادت بقوة لتسيطر على أجزاء كبيرة من أفغانستان وتوقع خسائر ضخمة بقوات التحالف. ويمكن القول إن الولاياتالمتحدة الأميركية خسرت الحرب فعلاً في أفغانستان، وذلك إذا حللنا تصريحات الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأميركية هناك، وكذلك تصريحات القادة البريطانيين. وفي محاولة للهروب من مسؤولية الهزيمة يطالب القادة العسكريون الأميركيون بتعزيز القوات الأميركية بثمانين ألف مقاتل جديد، وهو مطلب لا يستطيع تحقيقه الرئيس أوباما لاعتبارات متعددة، أهمها أن الرأي العام الأميركي تتصاعد معارضته لهذه الحرب العبثية والتي ليست لها أهداف محددة يمكن تحقيقها، بل إنها أصبحت تمثل خسارة صافية للولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذلك يمكن القول إن محصلة اللحظة «الأحادية القطب» في النظام الدولي والتي بدأت فور انهيار الاتحاد السوفياتي وبرزت فيها الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها القطب الأعظم والأوحد كانت بالغة السلبية بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة نفسها من ناحية، وإلى مختلف دول العالم من ناحية ثانية. لقد هزمت أميركا في العراق وفي أفغانستان، وتصاعدت الكراهية لسياساتها العدوانية لدى الرأي العام العالمي، وضاقت الدول المختلفة بغطرستها وازدرائها للمؤسسات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن. أما بالنسبة الى العالم فإن الولاياتالمتحدة أصبحت مصدر التهديد الأول – بحكم سياساتها العدوانية – للاستقرار والسلام العالمي. ولذلك ليس غريباً أن تتصاعد أصوات دول متعددة كبرى ومتوسطة بأن اللحظة التاريخية للنظام «الأحادي القطب» انتهت بعد الفشل الذريع الذي لاقته السياسة الأميركية، وأنه آن الأوان للانتقال مرة أخرى إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب. ويمكن القول إن الشروط الموضوعية لهذا التحول التاريخي أصبحت الآن مكتملة. ذلك أن هناك دولاً متعددة انتقلت إلى صدارة النظام الدولي بحكم قوتها العسكرية وإنجازاتها الاقتصادية المبهرة، وعلى رأسها الصين. وتتميز الصين بأنها تمتلك بالفعل نظرية استراتيجية متكاملة لعالم دولي متعدد الأقطاب. وهذه النظرية تقف مضادة للنظرية الأميركية السائدة والتي تذهب إلى أنه ليس هناك في العالم سوى قطب واحد هو الولاياتالمتحدة الأميركية. وخطورة النظرية الأميركية في «أحادية القطب» هي أن الاستراتيجية الأميركية قررت حق الدولة الأميركية في توجيه ضربات استباقية لأي دولة «يشتم» من سلوكها أنها تهدد المصالح القومية للولايات المتحدة. نصت على ذلك بوضوح استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صدرت في عهد الرئيس السابق جورج بوش، وتؤكدها أبحاث استراتيجية مهمة صدرت عن مؤسسة «راند» والتي هي بمثابة العقل الاستراتيجي الأميركي. ومعنى ذلك أنه لا يكفي أن تمتلك الصين أو غيرها من الدول العظمى نظرية متكاملة عن نظام دولي متعدد الأقطاب، بل لا بد من حركة دولية منظمة تعيد النظر بشكل منهجي في بنية النظام الدولي والوحدات التي يتشكل منها، ونوعية الأيديولوجية السائدة، والتي تجعل الولاياتالمتحدة الأميركية الخصم والحكم في كثير من الأحيان. وفي تقديرنا أن لحظة «التعددية القطبية» في النظام الدولي حانت، ولكن بقي أن تتكتل الجهود الدولية حتى تحولها من مجال التفكير النظري إلى ميدان التطبيق العلمي. سلام العالم في خطر داهم ما بقيت لحظة «الأحادية القطبية» وفي ظل الهيمنة الأميركية المطلقة على مقدرات العالم. * كاتب مصري