"اقتلها" هو العنوان الذي حملته المجموعة الحادية عشرة من المجموعات القصصية للكاتب المصري يوسف إدريس 1927-1991. وصدرت هذه المجموعة عن مكتبة مصر سنة 1982، متضمنة القصص القصيرة التي نشرها يوسف إدريس سنة 1981 مثل: يموت الزمار، السيجار، أنصاف الثائرين فضلا عن قصتين قديمتين من الخمسينات صح، البطل. وطبيعي أن يطلق يوسف إدريس على المجموعة كلها عنوان القصة التي رآها أكثر دلالة من غيرها في تجسيد ما يمكن أن يكون بمثابة معنى مركزي تنطوي عليه غالبية قصصها. وفهم هذا المعنى الفنان الذي رسم الغلاف فركز على اللونين الأحمر والأسود، وذلك للترابط الدلالي بين أولهما والدم الذي يقترن بفعل القتل، وبين ثانيهما والحداد الذي هو لازمة من لوازم الموت. ويكافئ الموازاة بين اللونين الأسود والأحمر، في لوحة الغلاف، التقابل الذي يومئ إلى العلاقة بين الضحية والجلاد، تلك العلاقة التي نلمحها في اتجاه حركة اليدين الداميتين المتفجرتين، الهابطتين من جدار معتم، قاتم، متغضن كالأرض المجدبة، اليدين الممتدتين بالموت إلى الضحية الطالعة من أرضية اللوحة كالشجرة الصغيرة التي تسعى اليدان إلى اقتلاعها من جذورها الحية، كي تستأصل الحياة بأسرها من المشهد كله. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تحمل مجموعة قصصية ليوسف إدريس، أو حتى رواية أو مسرحية، من أعماله، عنواناً ترتبط دلالته ارتباطا مباشرا بممارسة الفعل العاري للعنف في أقسى وأقصى درجات بطشه، أعني فعل القتل الذي تنطقه صيغة فعل الأمر اقتلها الذي يتضمن فاعله الذكر موصولا بضمير التأنيث الدال على مفعوله. ويبدو معنى هذا الاختلاف ملحوظا عندما تضع العنوان اقتلها في علاقة بالعناوين السابقة لمجموعات يوسف إدريس، وهي كالتالي في تعاقبها الزمني: "أرخص ليالي" 1954 و"جمهورية فرحات" 1956 و"البطل" 1957 و"أليس كذلك" 1957 و"حادثة شرف" 1958 و"آخر الدنيا" 1961 و"العسكري الأسود" 1962 و"لغة الآي آي" 1965 و"النداهة" 1969 و"بيت من لحم" 1971 و"أنا سلطان قانون الوجود" 1980. وكلها عناوين لا تحمل دلالة العنف المباشرة التي يحملها عنوان مجموعة "اقتلها" الذي تصل دلالته بين أطراف ثلاثة تنسج منها الخطوط القاتلة للعنف في القصة: الفاعل الأول الذي يصدر أمره بالقتل، والفاعل الثاني الذي يعهد إليه بتنفيذ القتل، والمفعول الأنثى الذي يقع عليه فعل القتل. ويعني ذلك أن عنوان مجموعة "اقتلها" ينطوي على متغير جديد في مسار قصص يوسف إدريس، سواء من حيث الإشارة المباشرة للكتابة في هذا القص إلى عنف الموت غيلة، وتحوّل هذه الإشارة إلى علامة يجسّدها العنوان الذي يفترش صفحة الغلاف بإيحاءاته الدالة. وهي الإيحاءات التي تبدأ من خطوط العنوان البيضاء المحاصرة باللون الأحمر القاني، واليدين الممتدتين بالموت إلى الضحية التي يطبق عليها اللون الأسود من كل جانب. وما أسرع ما تكتمل ترابطات هذه العلامات، وتمتلئ بالمعنى، مع قراءة قصة "اقتلها" التي تتحول إلى دال مزدوج في سياقها العام، سواء في إشارتها إلى مدلولاتها الخاصة، أو إشارة مدلولاتها الخاصة إلى مفارقة تغير في السياق العام لتتابع الكتابة التي تتولد عن زمن متحول. أقصد بذلك إلى أن القصة تستأنف التنويعات الدلالية لموضوع تيمة السجن في كتابة يوسف إدريس من ناحية، وتستهل مدارا مغلقا من الكتابة عن العنف العاري للقمع الديني الذي يفضي إلى فعل الاغتيال والقتل من ناحية مقابلة. أما موضوع السجن في كتابة يوسف إدريس فيبدأ من مجموعته الخامسة "آخر الدنيا" التي صدرت في القاهرة سنة 1961، متضمنة قصة "شيء يجنن" التي تدور حول فشل محاولة الجمع بين كلبة مأمور سجن وكلب سجين، وذلك في نوع من التمثيل الكنائي أليجوري لغياب حرية الاختيار في علاقة القامع/ المقموع التي يحتمها المدار المغلق للسجن. وترتبط دلالة التمثيل التي لا تخلو من مغزى تعليمي في القصة برسالة غير مباشرة إلى القارئ المضمر، مؤداها أنه حتى الكلب يرفض غواية الاختلاء بكلبة، وممارسة متعة الجنس التي تؤدي إلى استمرار الحياة، ما ظل حبيسا محصورا بين جدران وقضبان، محكوما عليه بممارسة فعل لم يختره بملء إرادته وكامل حريته.وابتداء من هذه القصة التمثيلية، لا تفارق تجليات علاقة القامع/ المقموع في كتابة السجن رمزية الجنس الدالة على رغبة الحياة في أصفى حالات تواصلها الخلاق بين ذكر وأنثى، أو أنثى وذكر، وذلك على نحو يتحول به مبدأ الرغبة - حتى على مستوى أحلام اليقظة - إلى مبدأ للحرية، ومحاولة مستميتة لمواجهة القمع والانتصار عليه بنعمة الخيال، حتى لو كانت هذه النعمة نعمة محبطة لا تكتمل لمسجون قط. وتتتابع قصص السجن في كتابة يوسف إدريس بعد "شيء يجنن" التي كانت بمثابة النغمة الاستهلالية، وتشمل "العسكري الأسود". وهي رواية قصيرة نشرتها للمرة الأولى مجلة "الكاتب" المصرية في حزيران يونيو 1961. وكانت احتجاجا إبداعيا جسورا بواسطة التورية الكنائية التي تستعين بالتاريخ القريب لتحتج احتجاجا مضمرا على ما كان يحدث في سجون مصر الناصرية من تعذيب للمعتقلين. وكانت "العسكري الأسود" في الوقت نفسه كشفا عن أثر فعل التعذيب في فاعله إلى جانب مفعوله، ومن ثم تحليل لآليات القمع الذي يعيد إنتاجه المقموع ليوقعه على أمثاله، وذلك ما يؤكده الراوي بعبارته الكاشفة التي تقول: "ماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن ينجح في جعل كل منا يتولى إرهاب نفسه بنفسه؟". وكانت "العسكري الأسود" في الوقت نفسه تعرية للقامع الذي انقلب عليه قمعه في نوع من الدمار الذاتي الذي لا نجاة منه. وجاءت قصة "هذه المرة" المكتوبة في صيف 1964 منشورة في مجموعة "لغة الآي آي"- 1965 لتناوش رمزية الجنس المضفورة في رمزية السجن، لكن من زاوية لا تقتصر على ما يقوم به السجن من قطع علاقة التواصل بين المسجون وزوجه، وإنما تمتد إلى الشك الذي ينغرس في وعي المسجون، حين تتولى الوحدة القسرية ممارسة قمعها الخاص على هذا الوعي، فتنتاب المسجون الهواجس والريب، ويستريب في أوهى علامات التغير التي يلمحها على زوجه التي يفصله السجن عنها، ويغدو فريسة لشكوك وعيه المأسور الذي يوقع على نفسه عذابا مضاعفا. والأصل في هذا العذاب المضاعف هو نواتج القمع غير المباشرة التي تولدها الوحدة القسرية التي يراد بها تدمير قدرة المقاومة في السجين، ولا نجاة للسجين منها إلا بمقاومتها بواسطة الحلم الذي يتحول إلى وسيلة للانعتاق المؤقت على الأقل. وينتج عن ذلك ما يقوم به وعي السجين، بحثاً عن خلاص ولو على سبيل الوهم، حين يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، وينسج من شباك أحلام اليقظة ما نسجه بطل قصة "مسحوق الهمس" المنشورة في مجلة "صباح الخير" المصرية 28/12/1967، وأعيد نشرها في مجموعة "النداهة" 1969. وهي القصة التي تصل فيها نعمة خيال السجين إلى ذروتها التي تبتدع مسحوقا للهمس بينه وسجينة، يفصل بينهما جدار لا يحول دون استراق السمع، وتبادل الحوار، وتحقيق الاتصال الجنسي في عالم فانتازي من الوهم الذي يمضي بأجنحة الرغبة، مجاوزا المدى المحصور للفضاء المغلق للزنزانة، كي يؤكد الإمكان الخيالي الذي يجد به الإنسان، دائما، الحرية داخل كل قيد على الحرية. ولكن حتى هذا الإمكان لا تكتمل نعمته إلى النهاية، إذ تقضي عليه السخرية التي يقهر بها مبدأ الواقع مبدأ الرغبة، فتنتهي القصة بمفارقة عدم وجود نساء في الغرفة المجاورة، بل وجود رجال على ذمة الحبس الاحتياطي تراحيل الذي لا يدوم أكثر من أسبوع أو أسبوعين. ونترك "مسحوق الهمس" والبسمة الساحرة لا تفارق مرارتها وعينا، متعاطفين مع السجين السياسي الذي ظل يقهقه قهقهة من فقد العقل حين اكتشف حقيقة "فردوس" التي تخيلها، والتي انعتق بها لحين، وظل اكتشاف عدم إمكان وجودها الواقعى كالغصة الأليمة الممدودة، حتى لو كان حضورها الخيالي بقي حياً في خاطره، وأكثر حياة من كل من عرف من النساء. والواقع أن قصة "عن الرجل والنملة" المنشورة بمجلة "الدوحة" القطرية أيار/ مايو 1980، وأعيد نشرها في مجموعة "أنا سلطان قانون الوجود" في العام نفسه هي مقلوب "مسحوق الهمس" في نواتج آليات القمع التي تستبدل الكابوس بالحلم، والجنون بالعقل، والإنسان بالحيوان، وتصل إلى الدرجة التي يفرض بها السجان على السجين مضاجعة نملة، فلا يملك السجين، بعد مناورات يائسة للنجاة من قمع الموقف الجنوني الذي لا نجاة منه، سوى أن يحيل انسحاقه الداخلي إلى إنسحاق خارجي، محاولا أن يتصاغر ويتصاغر، تحت وطأة التعذيب، إلى الدرجة التي يفقد فيها عقله وإنسانيته، ويمارس رعب الكابوس الذي أدخل إليه ولم يخرج منه إلا بالموت. والحس المصري الساخر الذي لا يخلو من رغبة التنكيت، حتى في أكثر المواقف مأساوية، يتواشج على نحو لافت مع نزعة كافكاوية في القصة، تتصل بإمكانات تحول الكائن الإنساني إلى كائن حيواني تحت وطأة القمع الواقع عليه في كتابات كافكا. ولا تخلو الرمزية في قصة "عن الرجل والنمل" من وظائف تمثيلية أليغورية تندفع بالقصة إلى ذروة القمع الذي يفضي مباشرة إلى الموت، ومن ثم إلى فعل القتل مع سبق الإصرار والترصد والعمد، الفعل الذي تنطلق منه قصة "اقتلها" لتمضي في مجال مواز، ومغاير، من العنف العاري للقمع. ولذلك يمكن أن نعد قصة "عن الرجل والنملة" القصة الأخيرة من قصص السجن في كتابة يوسف إدريس، وذلك من حيث نوعية السجين الذي يظل منتسباً إلى اليسار بمعنى أو غيره في القصص. وبالقدر نفسه، تظل هذه القصص صرخات احتجاج متكررة، تصاعد إيقاعها بعد كارثة العام السابع والستين، على ما يفعله قمع السجن في المثقف اليسارى الذي لم يرد سوى تحويل المجتمع من الضرورة إلى الحرية، ومن الظلم إلى العدل. ولذلك لا تفلت القصص من اهتمامها ممارسة العنف العاري للقمع الواقع على هذا المسجون السياسي على وجه التحديد، وما يترتب على هذه الممارسة من تدمير لكيان فاعلها العسكري الأسود ومفعولها عن الرجل والنملة في المدار المغلق الذي يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع مسجون الهمس ويغرس بذور الاسترابة حتى في أقرب الناس هذه المرة. ويلفت الانتباه في كل القصص السابقة أن فاعل القمع فيها ينوب عن الدولة التسلطية بأكثر من معنى، سواء في كون السجن جهازا من الأجهزة القمعية لهذه الدولة، أو في كون السجان ممثلا للحضور القمعي للدولة التي لا تطيق أن يعارضها مواطن أو يختلف معها مثقف. والتراجيديا الإنسانية لهذه القصص هي تراجيديا المقتولين القتلة والقاتلين المقتولين في الوقت نفسه، أعني تراجيديا الجلاد الذي يتحول إلى ضحية للقمع الذي يمارسه من غير أن يدرك أن فعل القمع سرعان ما ينقلب على فاعله كالنار التي تأكل نفسها حتى لو وجدت ما تأكله، وتراجيديا مفعولي القمع من الضحايا الذين يتشبعون بالقمع إلى الدرجة التي يعيدون معها إنتاجه، ومن ثم ممارسته على ذواتهم وذوات غيرهم من المقموعين في الوقت نفسه. والمدار المغلق لهذه التراجيديا هو المدار الذي يتعارض فيه الفاعل السجان الذي توكل إليه مهمة العقاب، ويبدو نائباً عن الدولة، والمفعول السجان الذي هو ضحية الدولة التي لا تؤمن بحق الاختلاف وتعادي حرية الفكر، خصوصاً ما يتصل منها بسياسة الحاكم المطلق الذي يتطابق والدولة التسلطية التي تغدو إياه، أو يغدو إياها، في المدار الذي يتناقض فيه حضور المثقف وحضور أبشع الأجهزة القمعية للدولة. وتتشابه قصة "اقتلها" والقصص السابقة من حيث إنها تنتسب جميعاً إلى عالم السجن في كتابة يوسف إدريس الإبداعية، ولكن القصة - من ناحية أخرى - تختلف عن مثيلاتها من حيث الأفق المحصور لتعارضاتها المزدوجة. أعني أنها قصة تضع السجين في مواجهة السجان، ولكنها تتباعد بهذه المواجهة عن بؤرة المشهد، لا لشيء إلا لكي تضع في موضع الصدارة المواجهة بين السجين ونظيره السجين، وتنقل فعل القمع من السجان إلى السجين لا على سبيل إعادة إنتاج القمع بالمعنى الموجود في "العسكري الأسود" مثلا، وإنما على سبيل إضافة عنصر دلالي جديد، حاسم، في سياق تغيرات الدوال القصصية، نتيجة تغير العالم الخارجي الذي ينتجها، وهو عنصر الإرهاب الذي يمارسه المتطرف الاعتقادي باسم الدين.