"لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطىر، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فىحتاج حتماً لفن جدىد، ىوفق على قدر الطاقة بىن شغف الإنسان الحدىث بالحقائق وحنانه القدىم إلى الخىال. وقد وجد العصر بغىته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فلىس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنىا الحدىثة". نشرت هذه الكلمات مجلة "الرسالة" القاهرىة فى إحدى مقالات عددها الصادر في الثالث من أيلول سبتمبر 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان كاتب هذه الكلمات شاباً في الرابعة والثلاثىن من سني عمره اسمه نجىب محفوظ، أخذ ىلفت الأنظار إلىه بعد أن نشر مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون" 1938 ورواىاته الأولى: "عبث الأقدار" 1939 و"رادوبيس" 1943 و"كفاح طيبة" 1944. ولا أعرف إن كان قد نشر روايته الرابعة "القاهرة الجديدة" 1945 قبل هذه الكلمات أو بعدها. المهم أن الكثيرين لم ينتبهوا في ذلك الوقت إلى أن المقالة التي وردت فيها هذه الكلمات، وكانت عن رفض مفهوم العقاد عن القصة وإعلائه من شأن الشعر على القص، استأنفت وعياً جديداً بفن القصة، وأرهصت بحركة الزمن الآتي للإبداع الروائي، واستشرفت مستقبل الرواىة العربىة التي انتزعت جائزة نوبل سنة 1988 بعد ثلاث وأربعين سنة من نشر المقالة، بواسطة الشاب نفسه الذي وهب حىاته الإبداعىة للفن الذي أخذ ىحتل، شىئا فشىئا، موضع الصدارة من خارطة الكتابة العربىة. ولذلك أصبحنا، نحن النقاد، نصف زمننا العربي، إبداعيا، بأنه زمن الرواىة، وىتحدث بعضنا عن الرواىة العربىة بوصفها دىوان العرب المحدثىن. وبقدر ما كانت الكلمات التي كتبها نجىب محفوظ سنة 1945 انقطاعاً عن النظرة الأدبىة التقلىدىة، منذ ثلاث وخمسين سنة على وجه التحديد، كانت تواصلاً مع زمن جديد من الإبداع الذي انبثق من تحدي الرواية العربية لعالمها التقليدي، ومن خروجها على المواضعات الجامدة لزمان تشكلها في بداية النهضة العربية الحديثة، وذلك منذ أن نشر الشيخ رفاعة الطهطاوي "تخليص الإبريز" في القاهرة المحروسة سنة 1834، وفرنسيس فتح الله المراش "غابة الحق" في حلب الشهباء سنة 1865، دفاعاً عن عقل الاستنارة وتجسيداً لقيم الحرية والعدالة والتقدم. وظلّت الرواية العربية، منذ هذه البداية، تسعى في إصرار لا يلين إلى أن تكون مرآة المجتمع المدني الصاعد، وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائضه التي لا تزال، إلى اليوم، مقترنة بتخلف التعصب والتسلط والتطرف، متواصلة مع تراثها السردي العربي في أبعاده المناقضة للاتباع والنقل، محاورة غيرها من روايات الدنيا العريضة التي قاسمتها الهموم نفسها. ولم تعرف الرواية العربية منذ مخاضها العسير المهادنة في تحرير نوعها من هيمنة النوع الأدبي الواحد، أو الاتجاه الأدبي الوحيد أو التقنيات الثابتة. ولم تتوقف عن تجديد نفسها أو تحرير مبدعها من سطوة كل سلطة، فكرية أو فنية، تمارس القمع باسم الدين أو السياسة أو الأخلاق أو التقاليد الأدبية. ولم تكف، قط، عن مناوشة المردة بحيل السرد، أو ترويض الجبابرة العماليق، كي تدخلهم إلى قمقم الحكايات، أو مواجهة القمع بما يحول بينه والقضاء على وعود المستقبل وأحلامه. وبقدر ما كانت الرواية العربية، في نشأتها، تجسيدا لعقلانية الاستنارة التي انبنى علىها مشروع النهضة، في محاولته تأصيل الوعي المدني وإشاعته بين أبناء الأمة، وفي سعيه إلى استبدال وعي المدينة الحديثة متعددة الجنسيات والثقافات والاتجاهات بوعي المدينة القديمة المنغلقة على نفسها في نفورها من الآخر، كانت الرواية العربية مقترنة بالتسامح الذي يواجه التعصب، والعقل الذي يواجه النقل، والابتداع الذي يواجه الاتبّاع، والمستقبل الواعد الذي يواجه ثوابت الحاضر. فكانت دعوة إلى التغيير وتمثيلاً له، بحثاً عن سر التقدم وتأكيداً له، وكشفاً عن عناصر التخلف القمعية ومواجهة لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة. وبدت منذ اللحظة الأولى لنقطة بدايتها، لو قبلنا ما يذهب إليه حمدي السكوت من تحديد رواية "غابة الحق" للمراش بوصفها نقطة البداية، كأنها تمرد العقل على جمود النقل، ومواجهة جذرية لأساليب القمع التي لم يكف الاتباع عن ممارستها. ويبدو أنه لا مفر من ذكر القمع في هذه الأيام التي لم تبرأ من آثار العنف الدامي الذي خلفته جماعات الإرهاب والتعصب في حياتنا، تلك الجماعات التي أضافت إلى اغتيال الأبرياء من الصغار والكبار، جريمة الاعتداء على نجيب محفوظ، منارة الرواية العربية الحديثة، لا لشيء إلا لأنه حلم أن يرى "أولاد حارتنا" مشرق أنوار المعارف التي لا تحجبها أسوار التعصب أو الاتباع، فنالته بالغدر سكين صدئة، سكين دفعتنا إلى أن نسترجع تهديد المتعصبين لحياة المراش في حلب الستينات من القرن التاسع عشر، وحياة فرح أنطون في اسكندرية مطلع القرن، والاعتداء على حرمة نصوص إحسان عبدالقدوس في هذه السنوات، ومصادرة وتكفير روايات المبدعين وكتابات المفكرين في أماكن متعددة من عالمنا الذي يتشدق بحرية الفكر وحق الاختلاف. ولا مفر من ذكر القمع، مرة ثانية، في هذا العام الذي يوافق الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين سنة 1948 وضياع الحقوق العادلة لشعبها العربي الذي لا يزال يعاني من عسف السلطة الإسرائيلية التي لا تخفي براثن قمعها العصري، والتي تسببت في أن تجعل من أرض فلسطين والمناطق العربية المجاورة ميداناً لحروب وانتفاضات وصراعات دموية لا تزال مستمرة إلى اليوم. ولا مفر من ذكر القمع، مرة ثالثة، في هذا اليوم الذي أكتب فيه والوطن العربي كله يوجف خوفاً على شعب العراق الشقيق، ويتطلع بأمل مفعم بالقلق والإحباط إلى توقف احتمالات الدمار التي تهدد المنطقة العربية بأسرها، والتي ترفع مقصلة العنف الوحشي على رقبة الشعب العراقي العزلاء. وليست الرواية العربية غريبة على هذا النوع من القمع أو غيره، إذا شئنا أن نتحدث عن خصوصيتها، فقد انبثقت في مواجهته داخل الحضارة العربية، وتأصلت احتجاجا علىه منذ أن تولّدت، في تراثنا الممتد، بحثا عن لغة تبعد سىف الجلاد عن رقبة القاص التي تفتدي بقىة الرقاب. ولذلك، انتشرت رمزىة أشباه الحكيم "بيدبا" في المدن العربىة القدىمة على ألسنة الهامشىىن الذين استبدلوا الحرية بالضرورة، وقاوموا التسلط والتعصب والاتباع. وظلّت محاكمة الحىوان للإنسان، عند إخوان الصفا وغىرهم، كحكايات شهرزاد لشهريار أو حكايات بيدبا لدبشليم، إعلاء من شأن العقل الإنساني، ومن مكانة القلم بالقياس إلى السيف، ودعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة والعربي وغير العربي، وتطلعا إلى إمام ىملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا. وظلت السير الشعبية دفاعا عن الهوية القومية في مواجهة القمع الأجنبي الواقع علىها، كما ظلت سردية حي بن يقظان في مدائن الأندلس أمثولة تنقض التراتب القمعي المفروض على علاقات المعرفة، وتسعى إلى تحطىم القىود التي تحول بىن العقل الإنساني وحرىة صنع معرفته الخاصة من دون وسىط أو قىد. وبقدر ما كانت هذه الأشكال السردىة، وغىرها كثىر، تسعى إلى تجسىد فعل التحرر الخلاّق للوعي الفردي والجمعي وتحرىرها لما حولها، كانت هذه الأشكال السردىة تنفتح بواقعها المحلي على العالم كله، واصلة بىن نزوعها القومي ونزوعها الإنساني، وذلك في التطلع إلى وعود "المعمورة الفاضلة" التي حلم بها أمثال الفارابي وابن سىنا والتوحىدي وابن طفيل وغىرهم من الذين وجدوا في القص وسىلة إبداعىة لتأكىد أفكارهم عن التنوع الإنساني الخلاّق، كما وجدوا في مراوغة السرديات الكنائية وسيلة للتعبير الآمن عن أفكارهم الجذرية التي كانت نوعا من "تدبير المتوحد" أو الهامشي في مواجهة قمع التيارات الاتباعية السائدة. ولم ىكن مصادفة أن رواىة "أولاد حارتنا" التي فتحت أمام الرواىة العربىة الطرىق السرىع إلى العالمىة، بدأت من هذا التراث السردي الذي ارتبط بمواجهة أشكال القمع وأساليبه، وأضافت إلى الوعي بتراثها الوعي بمنجزات العالم الإبداعي المعاصر، مؤكدة تقالىد الأمثولة الروائية التي ىنقض بها الإبداع كل ما ىثقل كاهله من أنواع القمع الاجتماعي والسىاسي والمعرفي. ولم تكن "أولاد حارتنا" متواصلة مع تراثها البعيد فحسب وإنما كانت متواصلة مع تراثها القريب في اللغة الأيسوبية نفسها، فبدأت من حيث انتهت "غابة الحق" التي نشرها المراش في حلب سنة 1865 و"الدين والعلم والمال" التي نشرها فرح أنطون في الإسكندرية سنة 1903، واصلة تقاليد السرديات الكنائية في تعبيرها عن حلم "عرفة" الذي ينتسب إلى عصر العلم والحقائق. ولم تكن رواية "أولاد حارتنا" فريدة في بابها بالقياس إلى ميراثها الحديث، في مقاومة تجليات القمع المختلفة، وإنما كانت حلقة في سلسلة حديثة، متصلة، بدأت من منتصف القرن التاسع عشر تقريبا ولم تتوقف حلقاتها إلى اليوم. ولنتذكر، على سبيل المثال، أنه من جحيم القمع تولّدت الرواية الفلسطينية وإبداع النكبة والمقاومة في الوقت نفسه، مزنّرا بالدمع والدم، معمدا بحلم عنيد في مستقبل عادل. ومن الجحيم نفسه، تفجرت الرواية الجزائرية في ازدواج لغتها، نجمة أضاءت حياة المقاتلين قبل الاستقلال، وكشفا عن براثن قمع ما بعد الاستقلال. ومن درب من دروب هذا القمع المتكثرة، تدافعت روايات ما بعد العام السابع والستين، نافذة إلى أعماق الجرح العربي، بحثا عن الدواء والبرء. ومن ممارسة الإخوة الأعداء للعنف الوحشي على أنفسهم، تجسّدت الرواية اللبنانية حضورا دالا في سياقات الرواية العربية. ومن ظلمة المعتقلات والمنافي الجبرية، تفجرت رواية السجن ورواية الغربة أو رواية المنفى، تحدياً من السجين للسجان، وتجسيداً لقدرة الإرادة الإبداعية على الاحتمال والمواجهة. وفي سياق درب مواز من المدار السياسي المغلق، تشكلت أليجوريات جمال الغيطاني في "الزيني بركات" و"وقائع حارة الزعفراني"، والطاهر وطّار في "الحوات والقصر" و"عرس بغل"، ورضوى عاشور في "غرناطة" كأمثلة فحسب. وفي سياق درب مشابه من المدار المغلق للفكر كتب عبدالحكيم قاسم روايته "المهدي" والطاهر وطّار "الزلزال"، تماما كما كتب محمد المنسي قنديل "بيع نفس بشرية" وإبراهيم عبدالمجيد "البلدة الأخرى" من منظور مقارب. ولست في حاجة إلى المزيد من الأمثلة، فالقمع حولنا في كل مكان، تتعدد أسبابه وتتنوع تجلياته وأشكاله، وتتكاثر أساليبه كالعنف الذي يسري في هواء مدن الملح، فتنجذب إليه الرواية العربية كما ينجذب الغريم إلى غريمه، وتشير إليه كما تشير النتيجة إلى سبب من أهم أسبابها، وذلك في سىاق من الدوافع التي تولّدت عنها المئات والمئات من الرواىات العربية المعاصرة التي تقول لنا: إن زمن الرواىة ىوجد حىن ىغدو التمرد على الأنساق المغلقة بداية انهىار هذه الأنساق، وحىن يواجه الوعي الإبداعي ما يعوق تقدمه، وحىن تتولد رغبة التحرر عارمة، وتتأصل إمكانات التحدىث فارضة وجودها، وىنبثق حلم العقل بمدائن المستقبل الخالية من القمع. وحىن نتطلع إلى الرواىة العربية التي نحتفل بها هذه الأيام، بمناسبة مرور عشر سنوات على حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وانعقاد مؤتمر القاهرة الدولي للإبداع الروائي، فإننا نتطلع إلىها بوصفها الجنس الأدبي الأقدر على التقاط تفاصيل الأنغام المتنافرة لإىقاع عصرنا العربي المتغير، والتجسيد الإبداعي لهمومه المؤرقة، وذلك في سعيها إلى اقتناص تفاصىل المشهد المعقد والعدائي لعالمنا المعاصر وتقليم براثن قمعه التي تبدأ من مبدأ الاتباع في داخل الثقافة الوطنية وتنتهي بالمبدأ نفسه في العلاقة بالثقافة العالمية، خصوصاً في تسارع تحولاتها المتدافعة صوب العولمة التي تفرض علىنا إعادة طرح أسئلة الهوية والخصوصية على نحو جذري. وأتصور أن زمن الرواىة العربية، بهذا المعنى، هو الذي يجعلنا نصفها بأنها ملحمة العرب المحدثين في بحثهم عن المعنى والقىمة في عالم يهتز فيه المعنى وتضطرب القىمة، وفي سعيهم إلى تأكيد حضور الشكل الإبداعي الذي يواجهون به اهتزاز المعنى واضطراب القيمة، فالرواىة العربية في خصوصيتها هي سعي الإبداع العربي إلى تأكيد حضوره النوعي في تاريخه القامع والمقموع، وهي مواجهة أوجه القمع بضبط إيقاع الصوت المائز لهموم الزمن الخاص بالواقع ووسط إيقاعات الأصوات المتنافرة لأزمنة العالم الذي تحول إلى قرية كونية بالفعل، لكنها قريةٌ يختلط فيها الحلم بالكابوس، ويمتزج فيها الوعد بالوعيد، ويتهددنا فيها، نحن أبناء العالم العربي الثالث، إمبراطور العالم الجديد.