عالم متهدم تتعالى فيه أصوات فقر مقيم وقهر قديم وأنين يزحف فوق الغبار ويتسرب في الفضاء. ذلك هو العالم الذي يقتفي آثاره، منذ عقود، الروائي محمد البساطي، الذي يجمع بين الوضوح المؤلم وسخرية طليقة. توزّعت روايته على ما تراكم في مصر وأصبح وطيداً، والذي إن التمس عنواناً جاءه نعت: الخراب. للفقر صوره في رواية «جوع»، حيث الجائع «يسلّك» أسنانه وهو يفتقد الرغيف، كما لو كانت حركة الأسنان الخائبة توهم بالشبع. وللقهر وجوهه في «أسوار»، يتوارثه المقهورون كأسماء عائلاتهم وملابسهم الرخيصة، ويمضون فيه جيلاً بعد جيل. وللجائع المهاجر هوانه في رواية «دق الطبول»، التي وصفت محروماً يبيع آدميته ليحصل على ما يشبه القوت متحوّلاً إلى شيء رخيص بين أشياء أخرى. وللمصري الذي لم يهاجر بقايا الحياة في «غرف للإيجار»، كل ما فيها ضيق إلا ظلم الحياة. أقام الروائي فلسفته على عنصرين: المفارقة التي تطلق سخرية تقبض القلب وتبعث على الغضب: يخدم الناحل الفقير مخلوقاً أرهقته السمنة، ويرى خادم السجن امتداده في ولد يأخذ مهنته، ويتناجى العشاق فوق أسطح خربة،... المفارقة موضوع وتعليق في آن، ترصد ضاحكة عبثاً يتلف الأرواح. يتبقى للمغلوبين، وهنا العنصر الثاني، التضامن الذي يجعل الحياة أقل مرارة، كما هو الحال في رواية «أصوات الليل»، التي عطفت أطياف فلسطين الضائعة على نخيل العراق المحترق. أراد البساطي أن يكون شاهداً على زمن انزاح عن وضعه الإنساني، يجتر نفسه ولا يعِد بجديد. صاغ شهادته بإبداع متجدد مبرهناً، كروائيين مصريين آخرين، أن الإبداع دفاع عن القيم، وأن تهميش القيم يلغي الإبداع والرواية معاً. ولعل سؤال القيم، الذي هو شرط كل إبداع حقيقي، هو الذي وضع في الرواية المصرية عموماً منظوراً مقاتلاً يجابه الخراب ويبحث حزيناً عن «مصر أخرى». ما الذي تقوله رواية البساطي الجديدة: وسريرهما أخضر؟ نعثر على شيء من قولها في رواية «أسوار»، التي جعلت من السجن - المكان شخصية مسيطرة تصوغ ما خارجها، وفي رواية «جوع»، حيث الإنسان مختصر إلى جوعه. مع ذلك فإن في الرواية الجديدة ما يكمل صورة العالم المتهدم، الذي يحاصر البشر القادرين على التفكير. فبعد أن كان البساطي مشغولاً بمهمشين، يولدون في صدفة تعيسة ويرحلون وقد زاد بؤسهم، وصل إلى «الإنسان المثقف» الذي له صدفة جائرة تقع عليه. تتألف رواية البساطي الجديدة «وسريرهما أخضر» (دار الآداب)، الواقعة في 130 صفحة، من فصلين يدوران على مستوى الموضوع، حول التوحش السلطوي المتمثل بالسجن وحارس السجين، وحول قوة الحب التي تنقد السجين المعطوب. ومع أن الموضوع يستدعي شخصيتين أساسيتين: المعطوب والحبيب الذي يعالجه، فقد جسّر الروائي المسافة بينهما بصور وحكايات متفرقة أنتجت شخصية ثالثة واسعة الأطراف اسمها: الخراب. فإذا كان عنف الحارس في «المعتقل» يتكفّل بتشتيت ذاكرة المثقف، الذي اعتقل خطأ، فإن انحطاط المسؤول الحكومي في «المجلة» يتكفّل باغتصاب «الصحافيات». لا يختلف الحارس في السجن عن الحارس الأنيق في المؤسسة الصحافية، ولا يختلف وضع الأستاذ الجامعي عن فتاة بريئة مجال خبزها هو: الدعارة. بيد ان بطولة الخراب، بالمعنى الإشاري، ماثلة في أبنية متهدمة وشوارع قذرة ومساحات ضيقة يحتلها الغبار و «عيون الأمن» وذلك الفراغ الثقيل الذي يعلن عن عالم يحتضر. لم يعطِ البساطي لفصلي الرواية عنوانين خاصين بهما، واستعاض عنهما باستهلالين «دينيين» كاملي الوضوح: يتلو الفصل الأول، وفي صفحة مستقلة، قول من «سفر الجامعة»: «كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة. وكالعصافير التي تؤخذ بالشرك». الأسماك والعصافير هم المصريون العاديون الذين تنتظرهم التهلكة. بيد أن للأسماك والعصافير حكمة تتقي بها الهلاك. لذا يتلو الفصل الثاني، وفي صفحة مستقلة، قول من «نشيد الإنشاد»: «ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر». ينسحب البشر من الماء وتنسحب العصافير من الفضاء ويلوذان ب «سرير»، وهو موقع للحب والأمان معاً. يمثل اللواذ باللغة المقدسة احتجاجاً على رعب هائل، لا تستنفده اللغة العادية، وتبشير بملاذ أخير محتمل، تعادل مساحته مساحة الجسد الإنساني. عناصر ثلاثة تنبني الرواية، على مستوى البنية، من عناصر ثلاثة: المفتتح الحكائي، الذي يبدو في رعبه المفتوح قصة قصيرة مكتفية بذاتها، تصف سلطة تنقذ نفسها وتهلك ما تبقى. فبعد التعذيب الفاجر ينفتح درب الهلاك. ويتعين العنصر الثاني ب: التوليد الحكائي، الذي يكسر فضاء السجن المغلق ويفتحه على فضاء الحياة واللامتوقّع، معلناً أن في خارج السجن سجوناً أخرى، وأن في خارج السجن ما يقاوم إرادة الجلاد. أما العنصر الثالث فيأتي من: بناء المنظور الذي حمل قصدية متفائلة، أو تفاؤلاً قصدياً، لم يستمده الروائي من معطيات الحياة، بل من حكمة «الكتب المقدسة»، التي تطالب بكون لا اعوجاج فيه. ولعل التفاؤل القصدي، المعبّر عن يأس شديد، هو الذي وضع في رواية البساطي مرجعين غير متجانسين، أحدهما واقعي ومرعب الواقعية، عناوينه السجن والمعتقل والغربة والقمع اليومي وكل ما يعادل «الشرك والشبكة المهلكة»، باللغة الدينية. وثاني المرجعين أخلاقي وجمالي مرغوب، يدع السجن في مكانه ويلوذ بالحبيب الجميل والسرير الأخضر وبتلك النعمة الباذخة التي يقول بها: «نشيد الإنشاد». وبسبب ذلك يشكّل المفتتح الحكائي قصة قصيرة تسرد وجوه القمع السلطوي. جاء في الصفحة الأولى من الرواية، التي لا تتجاوز ثمانين كلمة، الكلمات الآتية: الحارس، إدارة المعتقل، السجن، بقية السجن، المساجين، الأعمدة الطويلة الحديدية، ساحة المعتقل، ظل العنابر، الحاجز، حارس يتقدم متكاملاً،... تحوّل الكلمات، في إحالاتها المتبادلة، السجن إلى سيد وحيد، يتعيّن بمكانه وبالمخلوقات المحشورة فيه، التي تشكّل أثاثه الضروري. ففي حركة القدمين سجن، وفي حركة اليدين سجن، وفي نظرة العينين سجن، والطليق الوحيد هو حارس السجين، الذي دوره نقل السجن من الجسد إلى الروح، وتحويل السجناء إلى أشياء. نقرأ في الصفحة الأولى: «أرض من خشب قديم، نحل كثيراً من الوسط، وصريره الحاد يرتفع تحت أقدامهما. تتناثر به فجوات مرقطة بقطع من الصاج الصدئ». تبني الكلمات، في اقتصادها المدهش، فضاء قوامه: القدم والنحول والصرير والفجوات والرقع والصدأ، وسجناء يشكلون امتداداً للصدأ والصرير والرقع. أخذ البساطي، في مفتتحه الروائي، بمجاز: التداعي. فللسجن القديم تداعيه القاتل، يتداعى ويظل قادراً على إهلاك البشر، وللسجين الذي «انتهت صلاحيته» تداعٍ مغاير له: «رعشة وعلة كامنة، وساعة متوقفة، قلم جف حبره ومحفظة تآكلت أطرافها،»... تتكاثر إشارات التداعي قائلة بعالم يموت، وعى أسباب موته، أو سحبه الموت من دون أن ينتبه إليه. ومع أن السجن المتداعي قادر على تصنيع بشر غادرهم الشكل والذاكرة، كما لو كان سجناً معافى، فإن في خشبه وبنائه وأركانه، وفي القطار - الجثة الذي خارجه، ما يعلن أن السجّان فقد ذاكرته وسطا عليه خراب يبدّد وجوده. السجين والسجّان دفع توزع التداعي على السجين والسجّان محمد البساطي إلى التماس الأمل من السماء. فإذا كان في السجن ما يصنع البشر في شكل مقلوب، فإن في السماء ما يخلق، وجوداً سوّياً. ولعل المزج بين السجن الواقعي والانفتاح على السماء هو الذي وضع على قلم البساطي حكاية متفائلة، أو حكاية تحريضية، إن صح القول، تستمطر الأمل من الكتب المقدّسة، وتنقّب في أرجاء الروح المتداعية عن انبعاث مرغوب. تتكشّف المواد غير الواقعية، المسرودة روائياً، في بهجة الجسد وقوة الحب ودفء التضامن، التي تصلح ما أتلفه الجلاّد وتعيده إلى الحياة جميلاً كما كان. يتضح، في هذه الحدود، معنى: التوليد الحكائي القصدي الذي ينقل السجين إلى بيت حنون، ويعيد إلى المرأة المغتصبة حباً قديماً يضيف المعنى إلى حياة بلا معنى. كيف تستولد الأمل من اليأس، أو كيف تبعث «مصر الأخرى» من مصر تسقط في موت بطيء؟ لم يشتق البساطي منظوره، هذه المرة، من السخرية السوداء، التي هي وصف ومقاومة، بل ذهب إلى تصور ديني يؤمن ب «الانبعاث»، تعبيراً عن يأس شديد وإيمان ضروري في آن. وهذا ما وضع في رواية «وسريرهما أخضر» حكايتين غير متجانستين: حكاية مصر كما هي موجودة، وحكاية عن مصر مغايرة مرغوبة. وبداهة، فإن في الوصل بين حكايتين غير متجانستين تصريحاً بثقل السياق الذي يأمر بالانتقال من السخرية السوداء إلى التبشير، ومن لعبة الواقعي والمتخيل إلى معادلة الواقعي واللاواقعي، كما لو كانت في الرواية صرخة عالية تواجه الغرق الأخير. تتعيّن رواية البساطي عملاً تبشيرياً مقاتلاً يسائل الواقع ويشتق الجواب من: اللامتوقع، معلناً أن وراء الواقع، وهو مرجع الرواية، واقعاً محتمل فيه حكاية عن سرير «أخضر»، وفيه أصوات تلغي الحدود بين ما يأتي ولا يأتي معاً. أعاد البساطي كتابة رواياته السابقة وأضاف إليها جديداً. غير أنه وهو يعيد كتابة ما كتب يضيء ويستكمل كتابات غيره من الروائيين المصريين الذين دافعوا عن مصري جدير بالحياة: بهاء طاهر الذي قرأ مأساة المغترب في جميع الأزمنة، وصنع الله ابراهيم الذي يفضح الواقع بقوة الوثيقة ويصيّر النص الروائي وثيقة نوعية تجابه حياة السلطة بسلطة الحياة، وجمال الغيطاني الذي قرأ التحولات المريضة متوسلاً الاستعارة والمجاز، ورضوى عاشور الحالمة بمصر المتحررة من الضياع والتبعية، ومحمود الورداني الذي كتب عن هامشيين يسكنون في مركز الحياة، ويوسف القعيد الذي رصد خراب الوطن في «التعصب الديني» وفيضان الطائفية. ويوسف أبو ريّا، الذي رحل قبل الأوان، وكتب عن مأساة الصادق الأخرس وابراهيم عبدالمجيد الذي يفاجئ باجتهاد لا يكف عن التجدد، وعزت القمحاوي الباحث عن مثال في الكتابة وخارجها... في سلطة الحياة ما يقوّض حياة السلطة، حتى لو كانت محوّطة بالحديد والنار. هذا ما قال به البساطي، وما تقول به الرواية المصرية.