تشكّل تجربة الفنان محمد الجالوس مقطعاً أساسياً من المشهد التشكيلي في الأردن. وهذا المقطع الذي يجسّده الجالوس مغاير وذو خصوصية آخذة في التبلور والتمحور في اتجاه تجريدية تنطلق من مناخات ورؤى وذكريات شديدة الواقعية. فمنذ انطلاقته في معرضه الأول بعمّان عام 1981 حتى الآن، قطع الفنان مسافة تشكيلية متنوعة ومتعددة المستويات، إن على صعيد استخدام اللون أو على صعيد التكوينات التي يؤول إليها عالمه. كان محمد الجالوس قد انطلق من رسومات تصوّر عالم المخيم الفلسطيني كما تجلى في مخيم الوحدات الأردن الذي عاش فيه الفنان سنوات امتدت من طفولته حتى وقت متأخر من دخوله مراحل الإنجاز الفني، وانتقاله من ثم الى الاقامة في اجواء العاصمة التي تضم المخيم من ناحية، وتختلف عنه من ناحية ثانية، اختلافاً أساسياً وكبيراً. في رسوماته الأولى كانت هوية المخيم، بيوته وأزقّته وأطفاله وعلاقاته، هي الطابع الطاغي على اللوحة ذات الألوان الحارة والخشنة التي كثيراً ما كان يبدو تأثرها بالتشكيل العراقي من حيث الألوان والخطوط الباعثة على الحزن. وعلى مدى تجربته الغنية بالمحاولات والتجريب، كان الجالوس يسعى حثيثاً الى تطويع الألوان الزيتية حيناً، والمائية والأكريليك حيناً آخر، والمواد المختلفة من قماش وورق .. من اجل التعبير عن دواخل مسكونة بقلق المشرد وذكرياته وأحلامه وآلامه. ويستمد مشروع الجالوس الفني فرادته وأهميته من رغبة جامحة في تطوير شكل من الأداء يربط البدايات بالنهايات عبر جسر وطيد من المفردات الفنية القادرة على الانتقال من الخاص الشخصي والوطني الى العام الإنساني. وهذا ما تعبّر عنه أعمال المعرض الجديد وهو الثاني في دمشق للفنان لجالوس، الذي يشتمل على 25 عملاً منفّذة بالأكريليك على الورق، مع استخدام خاص لمادة الكرتون المخصص لصنع الصناديق، وهي مادة قادرة - بلونها الترابي، وبوجود طبقتين متراكبتين فيها احداهما ملساء والثانية ذات خطوط نافرة - على منح إمكانات للتشكيل والتكوين بلا نهاية. وفي معرضه هذا، ووسط مساحات التكوينات التجريدية، بألوانها وتشكيلاتها الفاتنة، يفسح الفنان حيزاً للتعبير الغامض عن عوالمه الحميمة. يعبّر حتى بالتجريد عن بيوت وشوارع وأدراج هي تفاصيل في مدينة - أو مدن - تشكّل عالمه ومخزونه من الذكريات. ولكنها التفاصيل المعبّر عنها بالألوان في صورة اساسية، إلا انها الألوان المجسّدة في كتل وتكوينات يسهم في صنعها التعامل الحاذق مع مادة الكرتون، سواء بالقص والكشط، أو بإتقان تلصيق الكتل وتنسيق القطع الكرتون على نحو يقيم بنياناً مفتوحاً لآفاق توحي برؤى وتحيل الى عوالم غير محددة نهائياً. وأبرز ما تنطوي عليه تجربة الجالوس عموماً، وتجربته في هذا المعرض خصوصاً، هو هذه التشكيلات البصرية اللانهائية. ففي كل عمل من اعمال المعرض يمكن ان يقف المتفرج ساعات طويلة محتشدة بالمتعة البصرية المتأتية من انفتاح الألوان وتدرجاتها على تعددية ثرية. هذا من جهة اللون، اما التكوينات فهي على مقدار من الإنفتاح واللامحدودية بحيث لا يمكن استنفاد آفاقها المفتوحة على التخيلات والذكريات والمشاهدات الواقعة بين المشاهدة الواقعية والحلمية. فالمشهد الواحد يجمع الواقعية والشاعرية في صورة باهرة التكوين، وخصوصاً في توزيع الألوان وضربات الفرشاة التي تراوح بين ضربة عريضة وأخرى نحيلة. وإلى ما تتمتع به الأعمال من شاعرية، يمكن إضافة الإيقاع الموسيقي المتولّد من تدرّج الألوان حيناً، ومن تناغم التكوينات حيناً آخر. وفي الحالين، يلتقي العنصران - الشعر والموسيقى - ليجسّدا ذلك اللقاء الفاعل بين الملموس والمحسوس، بين المادي والروحي، كي تنجم عن لقائهما تلك المتعة الروحية العميقة. ورغم ما في اللون الترابي، الطاغي على الأعمال، من مشاعر الحزن، استطاع الفنان ان يستخدم هذا اللون في صورة تنفي عنه الى حد بعيد هذه السمة، فجعل من لقاء الترابي مع الألوان الأخرى لقاء فرح، وصخب هادئ، وتحرر من المعاني والدلالات التقليدية. فالتدرج من الأرضية الترابية الفاتحة الى الفضاء البني المحروق في خلفية كل مشهد، يجعل تلقي الألوان الأخرى مفتوحاً للعين والمخيلة البصرية على احتمالات جمالية شتى. وقد تمكن الفنان من مزج مجموعة ألوانه وصوغها على نحو متين يصنع الأبيض والأسود في صراع يتجلى فيه الأبيض ويطغى عبر ضربات فرشاة عريضة ومتدفقة، ويظهر الاسود في خطوط تجعل حضوره قوياً وفاعلاً من دون طغيان. ويمتزج الأحمر الفاتح الزهري بالترابي امتزاجاً يفجّر مشاعر متناقضة من الفرح والجفاف والإنبثاق والولادة. ويتدخل الأخضر الفاتح احياناً ليكسر حدّة وبرودة المشهد، او لتفتحه على آفاق أوسع. اما لطخات الأصفر القليلة والصغيرة، وتأتي غالباً في شكل نقاط مصفوفة مثل أزرار القميص، فهي تضيف بعداً جمالياً وتفجّر مشاعر جديدة. وعلى نحو آخر تأتي تكوينات الفنان المحتشدة بالصور شديدة التحرر وخارجة على السكونيات التي تحيل اليها الكتل الصمّاء. فالكتلة الضخمة هنا على درجة من الحركة والإنطلاق، لا تتيح الإكتمال، ولا تلجأ الى الجاهز. ثمة بناء وإعمار يحيلان في لحظات الى التصميم والدقة، إلا أن ثمة لحظات تهشيم لهذا البناء وذلك المعمار، وتكسير لمنظور العمل وزواياه، وتركها للهدم والقرض والإنكشاط والإنكسار. ثمة روحية اقرب الى الانشاء النحتي ذي الأبعاد والمنظورات المتعددة. هكذا يضعنا الفنان الجالوس في حال من القلق والتساؤل عن مصير هكذا يضعنا الفنان الجالوس في حال من القلق والتساؤل عن مصير العناصر والأشياء. عن تحررها واكتمالها. عن نشوئها وتقلباتها. عن حضورها وغيابها. فندخل مع الألوان والتكوينات مغامرة إعادة صوغ المعالم صياغة قائمة على رؤى وأحلام تحكمها قوة كونية تحرك عناصرها في اتجاه ثنائية: البناء والهدم، التشكيل واللاتشكيل، الشكل واللاشكل. وحتى هذه الثنائية تبقى قابلة لعمليات الهدم والبناء بحسب مزاج تكويني هو اقرب الى ما يمكن تسميته ب"مزاج الغيم". فهو مزاج مائل الى اللعب المتحرر من اليقينيات والثوابت، والى الرغبة في التشكيل المفتوح على مناطق غير مطروقة من روح الفن والإنسان. وتبقى تجربة الجالوس متنوعة وخصبة، وتبقى مفتوحة لتأويلات وقراءات تتطلب استعادة مراحلها كي يمكن متابعة ما حصل فيها من تحولات وتطورات ينم عليها معرضه الراهن، وبعد ما يقارب 15 معرضاً شخصياً وعشرات المشاركات الجماعية في عدد كبير من عواصم العالم. لأنها تجربة تسعى الى إيجاد جمالياتها الخاصة، وقيمها الجمالية الخارجة على مألوف الفن العربي. وربما كانت اقامة المعرض هذا في دمشق تنطوي على شيء من المغامرة، لا لشيء سوى لأن دمشق ما تزال تتحفظ امام هذا المقدار من التجريد المغامر في معرض الجالوس. فدمشق التي تعرف اشكالاً كثيرة من الفن المعاصر، لا تزال متحفظة في هذا المجال، وخصوصاً كما يبدو ومن خلال تفاعل الجمهور مع هذا اللون التشكيلي، مع ان نخبة الجمهور المثقف والفنانين عموماً كان لهم رأي ايجابي في المعرض، وأشاد به كبار الفنانين في سورية أمثال نذير نبعة ونذير اسماعيل وغياث الأخرس وخزيمة علواني. غير ان سوق الفن السورية ومقتني اللوحات لا يزالون يبحثون في اطار غير هذا الإطار.