مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    وزير الصناعة من قلب هيئة الصحفيين بمكة : لدينا استراتيجيات واعدة ترتقي بالاستثمار وتخلق فرصا وظيفية لشباب وشابات الوطن    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    استقرار أسعار الذهب عند 2625.48 دولارًا للأوقية    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    ألوان الطيف    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    القتال على عدة جبهات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    كلنا يا سيادة الرئيس!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لماذا أعتمت إلى هذا الحد ؟" رواية دومينيك إده . عن شقاء الذات المنقسمة والحياة إذ تبدو مسلوخة
نشر في الحياة يوم 29 - 04 - 1999

في أواسط السبعينات، على ما أذكر، عُرض فيلم سينمائي فرنسي بعنوان "الملصق الأحمر"، وقيض لكاتب هذه السطور مشاهدته في فرنسا. وعنوان الفيلم هذا مأخوذ من قصيدة للشاعر الفرنسي لوي أراغون قبل أن تتحول القصيدة الى أغنية على يد المغني الفرنسي، الفوضوي والمنتفض ليو فيري. وكانت القصيدة تتحدّث عن ثلاثة وعشرين مناضلاً شيوعياً ويسارياً أعدمهم النازيون في باريس أيام الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب الثانية.
جاء الفيلم ليحاول نقل حكاية حياة ومقتل أفراد المجموعة اليسارية هذه والتي عرفت بإسم قائدها الأرمني الأصل ميشال مانوكيان. والحال أن الفيلم كان يدور في معظمه، لا على تقديم رواية سينمائية بصرية لمقتلة المقاومين المذكورين، بل على مشاعر التجاذب والتأرجح والشك والقلق التي انتابت الممثلين أثناء محاولاتهم لتأدية أدوار المقاومين وظروف الإجهاز عليهم. وعلى النحو هذا راحت حبكة الفيلم تتنامى على إيقاعين مختلفين إذ تتناوب على الظهور في المشهد وجوه السرد السينمائي لما حصل ووجوه الشك بل التشكيك في مصداقية أو حقيقية التمثيل والعرض لأن هذه مدعاة "أسطرة" وإسقاطات خيالية وتوظيفات عاطفية وانفعالية لاحقة قد لا تكون أمينة ووفية للواقع ولا تتطابق مع مجريات الأمور كما حصلت بالفعل. وفي أحد المشاهد يطلب المخرج من الممثل أن يؤدّي دور قائد المجموعة لحظة إعدامه وأن يتقدم هذا الأخير الى موته في صورة بطولية.
يؤدي الممثل الدور المطلوب إلا أنه سرعان ما يعترض على هذه التأدية قائلاً بأنه قد لا يكون صحيحاً هذان التوصيف والتقديم البطوليين، إذ ربما خاف الرجل وبكى لحظة إعدامه. قصارى القول هو أن الفيلم يقدم في آن معاً "رواية" عن مصرع المقاومين و"رواية" أخرى عن صعوبات وعثرات هذا التقديم، وهي صعوبات تبلغ في بعض الأحيان حدّ التعذر والاستحالة.
ما يحملنا على العودة الى الفيلم هذا، بالأحرى الى وجوه الصراع والتمزق الحميمين التي تلابس نسيجه السردي البصري، هو كتاب الكاتبة اللبنانية بالفرنسية دومينيك إده، والصادر حديثاً عن دار "سوي" في باريس في عنوان "لماذا أعتمت الدنيا الى هذا الحدّ؟"، ذلك أن "رواية" الكاتبة اللبنانية فيها شيء من هذا القبيل، ان لم يكن الكثير منه، مع وجود فوارق جوهرية، فالراوية التي تتحدّث في صيغة المتكلم في معظم صفحات النص، تنقل نتفاً ومزقاً من حكايات شخصيات لبنانية وعذاباتها في الحرب والسلم اللبنانيين، وهي تفعل ذلك بلغة ونبرة محمومتين وعلى حدود الهذيان والألم العاري والخام، وهذا ما لا نجده في عملها السابق الصادر منذ عشر سنوات بعنوان "رسالة ما بعد الوفاة" حيث تفصح الكاتبة عن خفر وحياء كبيرين. وإذا كانت حكايات وشخصيات نصها الجديد تأتي متفرقة ومبعثرة، وتدخل وتخرج كيفما اتفق، فذلك لأنها مشدودة كلها الى وعي وذاكرة الرواية الموغلة في انقسام واصطراع ذاتيين وحميمين. والحق أن المدار الفعلي لرواية دومينيك إده هو هذا بالضبط، أي تحرير دفقات من السرد المشحون والدائر على ذات منقسمة ومسكونة بهاجس التبدّد والتفرّق.
والحق كذلك أنه يندر أن نقع في الرواية الفرنكفونية على مجازفة كتابية من هذا النوع، حيث يبلغ التساؤل والارتياب في حقيقة الذات، المعيوشة والمكتوبة، حدوداً قصوى في التعبير عن هشاشة الذات الفردية اللبنانية وغيرها ربما في مجتمعات انتقالية ومضطربة، بالأحرى عن هشاشة اختبار وتجربة الفرد لفرديته. تتوالى إذاً، في غضون كتاب دومينيك إده تساؤلات قصوى عن ماهية الأنا والآخر والواقع والعالم، ولا نحتاج الى جهد كبير للتعرف على وجوه الشقاء والتمزق والتنازع والقلق التي تلابس هذه التساؤلات حتى عندما تركن وتستسلم الى لغة المثلية الحكمية المكثفة والمقتضبة أفوريزم. ذلك أن دومينيك إده تعلن منذ العبارة الأولى عن "شخصية" نصها القلقة: "أولاً، جلست على قبعة من القش" ثانياً، أنا قبعة القش التي جلست عليها" ... سادساً، لكم أتوق الى كتابة الفرنسية بطريقة تكون غريبة عليّ" سابعاً، عندما أفكّر بالعالم لا أجرؤ على أن أكون فيه وعندما أكون فيه لا أجرؤ على التفكير فيه"" ومن شأن العبارة الأخيرة أن تجعل صاحب "الكوجيتو" العتيد، أي ديكارت القائل أنا أفكر إذن أنا موجود وقائم على كينونة، تجعله يتململ في قبره.
ما دام نص دومينيك إده دائراً على استنطاق ومحاكمة ذات مسكونة بهواجس التأرجح والتعذر والاستحالة، فإنه سيكون من العبث أن نبحث عن سياق تنتظم فيه الحكايات والشخصيات بما في ذلك صرخات ولوعات الراوية نفسها، بل الراجح لدينا أن مساحة الكلام عن الحرب والذكريات والمرض والغربة، هي بالضبط مساحة من العلامات والوجوه والاستفاقات المأخوذة "بالمفرّق" أي في حال من التبعثر والتشتت والفوضى. وهذا ما يجيز الظن بأنه كتاب "لماذا أعتمت الى هذا الحد؟" لهو بامتياز نصّ حار ودافق عن اللاسياق وعن الشعور باستحالة أن يتألّف سياق للذات الكاتبة وللبلد والحرب اللبنانيين فالكاتبة ترى غريباً "أن يواصل المرء حياة بعد أن رآها توقفت، إذ هي أكثر قابلية الى الانتهاء منها الى معاودة الابتداء، وهكذا هي الحال مع لبنان ومع كتابي، إذ الناس يأتون ويذهبون من دون سبب للذهاب ومن سبب للبقاء، أجدهم كما أتركهم عند حافة رصيف، مرّة في بلد ومرّة في بلد آخر، في مهلة تكفي بالكاد لتدخين سيجارة، يقول لي أحدهم عما يتحدّث كتابك؟ وأنا أقول لنفسي "عما تتحدّث حياته؟"، ليس هناك ذكرى تقوى على البقاء...".
ومع أن بعض حكايات الكتاب تتحصل على قدر من الحبكة والنمو، مثل حكاية المجموعة المختلطة من المغامرين المناضلين الذاهبين على متن باخرة لاختطاف جنرال اسرائيلي من مرفأ حيفا، ومثل الأجزاء المقتطعة من روايات عائلية للشخصيات التي تتحدث عنها دومينيك إده أبو علي وأبو رورو وانطوان وانجيل وعليا، مع ذلك فإن هذه الحكايات سرعان ما تتعرض لحاجز مفاجىء يحول دون استقرارها وارتياحها الى سياق يوضب ويجمع عناصرها. يحصل ذلك، أي امتناع السياق وتعثر الحبكة، لأن الرواية تبقى مأخوذة بهاجس التذرّر الذي يلازم نظرتها الى ذاتها والى ما ترويه وتتحدّث عنه. فهي ترى أن "بيروت غير موجودة، أنا من يبتكرها تدريجياً، السماء تنقل مثل طائر أجزاءها من غصن فاسد الى غصن آخر، إنها مراجيح أطفال محطمة والناس من حولها، مدينة تدور بين أربعة جدران، نموذج للكبّ والرمي، إنها مكبّ العالم". ما من شيء، تقريباً، ومهما كان شأنه ودرجة مثوله، إلا ويتقدّم في صورة مسرح لتنازع نظرتين اثنتين تتناوشان بضراوة وبلا هوادة داخل ذات واحدة. تبتكر دومينيك إده ثم ترتاب في ابتكارها، لماذا؟ لأنّها تحمل الابتكار والتخيل على معنى التلفيق والتحوير، لذا تروح تفسح المجال لذاتها ولشخصياتها للاعتراض على مصداقية كتابها وصولاً الى الشك في جدوى الكتابة عن لبنان باللغة الفرنسية، والشك في جدوى الحديث المتخيل عن شخصيات صودر وعيها وكلامها فيما يجري استبعاد شخصيات أخرى عادية وطيبة. وهذا النوع من الإرتياب البليغ إنما هو من مستلزمات وعي يتوخى شدّة الوضوح، أي الوضوح الذي يعمي البصر والبصيرة، بسبب تسليط الضوء الشديد على ملمح أو وجه واحد لحياة تحفل تعريفاً وبداهة بوجوه وملامح أخرى. الراوية تغص وتتعثر بذاتها مثلها مثل سائق العجلة الهوائية الذي ينظر الى قدميه بدلاً من النظر أمامه، فيصطدم بالتأكيد بأي شيء كبيراً كان أم صغيراً. وإذ تمعن الذات في الالتصاق بذاتها، يصبح العالم والذات على طرفي نقيض، ينتصب الواحد قبالة الآخر مثل جدار سميك، ويتشعب التقابل هذا بحيث يلابس وجوه الكائنات ومشاعر البشر على النحو هذا تصبح الأرض جداراً بالنسبة الى الطائر، "بالنسبة الى الليل النور جدار، بالنسبة الى الابتسامة الألم جدار، بالنسبة الى الألم الجسد جدار، بالنسبة الى العيش الموت جدار،...". على أن الأمور تزداد تعقيداً، إذ ما من عبارة وتوصيف متعلقين بتقلبات الكاتبة "على جمر النار" مع الاعتذار من أم كلثوم إلاّ ويجدان ما يقابلهما لدى الكاتبة نفسها التي تعلم جيداً بأن "الوضوح كان يعميني". تنمو جملة دومينيك إده على إيقاع حرب داخل الذات حيث يتناوب على المثول الشيء ونقيضه: "كلما أميل نحو شيء يتوجب الانفصال، حسبت بأنني كنت بمفردي إلا أنني أخطأت في تقديري، ثمة دائماً شخص ما أنظر اليه وهو يرحل هامسةً بكلمة أحبك، جذوري تنمو في أغصاني لافتقاد الأرض، الحب ورقتي بدلاً من أن يكون نسغي، إلا إذا كانت هذه الصورة هي أيضاً كذبة، لم أعد أعرف، أتراني أستخدم ذاتي كي أصنع منها أحداً يسعه خدمة الآخرين؟".
إنها رواية عن اللارواية، عن حرب بيضاء تدور داخل ذات منقسمة تقيم مع الواقع والعالم علاقة مرآوية، عن التأرجح المتوتر والمكهرب والمرتعد بين وعيين ونظرتين داخل ذات واحدة. وبين الوعيين هاذين تحصل هدنة من وقت لآخر، على أنهما يظلان عموماً مدار حرب ومناوشة، كما هي حال إحدى شخصيات الكتاب، وهو رجل "تعلّم أن يعيش من دون أن يصدّق ذلك، ليس في معنى أنه يعيش تماماً ولا أنه لا يصدّق ذلك تماماً، مثلي بعض الشيء، في أحسن الأحوال وفي أسوأها. كان يعامل نفسه كما يعامل الأب ابناً له، ابناً سيئاً، شخصاً ينتظر منه ما هو أفضل، كان إذاً مهماً فعل أباً وابناً في الوقت ذاته، والإثنان كلاهما في حال من السخط، يتيمان كلاهما، متأهبان كلاهما... كان الإثنان يتعذبان، كان الإثنان محبطين، إنها الحرب من دون أن يصحبها، حرب وديّة، لا نار فيها ولا دم، لا شاهد ولا غالب وينتج عن ضرباتها كلّها ضحيتين اثنتين".
يستطيع المرء أن يرى يده وسائر أطراف جسده لكنه لا يستطيع أن يرى العين التي يرى بها، إذ هو يحتاج في هذه الحالة الى شخص آخر أو الى مرآة، بحسب ما قال سارتر عن بودلير النازع الى أن يكون شخصين اثنين في ذات واحدة، الجلاد والضحية. وفي رواية دومينيك إده الكثير من "البودليرية" هذه وهي تنقلها بعبارة راجفة تذكرنا بأحوال المسلوخ جلدهم وروحهم وهم أحياء. على أن المفارقة تلف النص إذ يتنقل بين الكبرياء وبين التواضع، بين الطفولة الممتلئة والكلية القدرة وبين انتقالها الى ذكاء ناضج ومؤلم ومعذِّب.
تقلّبات الصفحة الأولى
الصفحة الأولى في رواية أولى:
ترددتِ طويلاً لكتابة كتاب في صيغة المتكلّم. كنتِ تريدين أن تكوني فيه، كما هي الحال في حياتك، واضعة قدماً في الداخل، وقدماً في الخارج، مطمئنةً الى قدرتك على أخذ أو مغادرة القطار أثناء سيره. كنت تعاندين كي تصدّقي، فهل كنت حقاً تصدّقين ذلك؟ بأنك كنت تقدرين على مواصلة الرؤية من دون أن تكوني مرئية، على حذف خوفك عبر احتقار الخوف، على تجشم الأخطار كلها كدليلٍ على شجاعتك وعلى التأجيل المتمادي للشجاعة في أن لا تكوني سوى ذاتك. لقد كنت الفتاة "نور" أثناء النظر الى "نور"، حبيسة ويتيمة صورتك بالذات، أشبه بالفراشة التي تصطدم وتكافح ضدّ مصباح مضاء.
الصفحة الأولى في رواية ثانية:
الى من وكيف أقول مبلغ عنائي في أن أكون هنا، واقفة عند نافذة غرفتي أيام كنت طفلة، مسربلة بالأعمار كلها ومحدّقةً النظر بثبات، من دون أن أراهما، في شجرتين متطابقتين جداً مع ذكرياتي عنهما الى حدّ أنّهما تتسمّران بلا حراك بالرغم من الريح، تنقطعان عن سائر العالم وتنتصبان داخل رأسي كأنهما وحشان وثنيان سارعت السماء الى ارسالهما؟ لا شك في أنه لم يحن الوقت للكتابة. ينبغي الانتظار، الانتظار، مع كل القوة التي يستلزمها الانتظار عندما يروح يقلّد من دون تردّد ضرورة الفعل، الانتظار مثل امرأة حيّة تتصنّع الموت كي تبقى على قيد الحياة، انتظار أن تأتي صورة أو صوت كي يذكرني بألعاب ذبابة ضد الزجاج وكي يجعل قطار المشهد ينطلق ثانية.
الصفحة الأولى في رواية ثالثة:
ما هذا الكتاب الذي ليس هو برواية ولا هو أدب محاولة، ولا هو قصيدة ولا هذا ولا ذاك، والحال بالضبط هو أنني لا أعرف، إذ ثمة ماضٍ يهرب في ذاكرتي وذاكرتي لهي مثل المرحلة، تتخلّع من دون أن نقدر على فعل أي شيء، الوصلات تقطعت ولا أرى في الوقت الراهن أي شخص يسعه صراحة تصليح الوصلات.
الصفحة الأولى في رواية رابعة:
أكتب؟ لا، لا أكتب، أكتب نفسي، أكتب ذاتي من فوق ذاتي، أصرخ ذاتي، أصرخ من تحت، أكتب داخل الصرخة، داخل الثنية، داخل ما يبقى، إنني الكلمة داخل الكلمة، إنني الألف، والواو، والياء، والنقطة التي على الحرف، إنني الحياة بمواجهة الموت مع مثول الموت فيها الحياة، إنني تلك التي تلعب لعبة الآلهة من دون أن تؤمن بذلك، لا أقول شيئاً، أقول، أقول بأنه لا يوجد أحد وبأن هذا هو بداية وجود أحدٍ ما، أتحايل على السماء باسطة ألواناً زرقاء، أضيع نفسي من دون أن أستسلم للأمر، لا أخسر، أخسر وأربح عبر اكتشاف خسارتي، أترك نفسي هنا كي أعثر على نفسي هناك، هناك حيث يمكن الالتقاء بكلمات تتقاطع وتجابه الفراغ، أتمتّع بالحياة التي تتحرك داخل جملة ثم أطردها في الحال، هذا هو معنى الكتابة بالنسبة إليّ، إنه التعامل مادياً وجسدياً مع الغياب وإعطاء قوام محسوس لشيء يأسف لعدم وجوده، إنه الرغبة في كل شيء ومن دون أن ننتظر شيئاً أو بالأحرى بلى، إنه الانتظار لأرى من بعد ومن ثم أن أرى من دون انتظار، إنه القاء اللحظة داخل اللحظة، الإنزلاق داخل المدّة الفاصلة، الاختفاء بسرعة والعودة ثانية كي لا أموت، أن أعيش وأن أموت فوق ذلك، أن أغض الطرف، أن أنسى ما رأيت وأن أظهره على الفور أمام شخص غير موجود وماثل، وهذا أمر غير ممكن، إنه سعي الى توليد عالم زائد عن اللزوم ووضعه داخل العالم، حمولة من الألوان النازعة الى السواد ونقلها الى داخل السواد أو الظلمة، إنه اعطاء الموت فسحة للاجتراح من دون أن أقتل نفسي.
الصفحة الأولى في رواية خامسة:
غريبة هذه الطريقة التي لديّ والتي تحملني من جهة على الفرار من ذاتي، ومن ثم على الجري خلف ذاتي من جهة أخرى وإذا ما قدّر لي أن أعثر على ذاتي لا أعود أعرف ما أصنع بها. وقد يحسب البعض أنني لا أوجد إلاّ بقدر ما أفاجىء نفسي وأنا أتظاهر بالاعتقاد بوجودي. والحال كذلك مع الكتابة، كذلك بالضبط، إذ أريد تقريباً أن أكون في حال تستوجب عدم الكتابة كي أكتب، وإذا ما تجرأت على إحصاء عدد الكلمات التي تتلاشى تحت تشطيباتي قبل أن تخرج الى النور جملة مثل هذه، فإنني أكون بذلك أعطي بالتأكيد أفضل مثال على هذا الهذيان الأصم والأخرس.
والحق أنني أمضيت أسطع فترات حياتي وأنا أخسر بسبب الحذر ما كنت أربحه بواسطة الوضوح، أي في التأسف على الزمن الضائع من جهة وفي تبخيس الزمن الذي يمكن استخدامه بعد من جهة أخرى، كما لو أنني الى حدّ ما، وبسبب عدم القدرة على إيقافه، كنت أصرّ بضراوة على مشاهدته في سباقه ضدّي. كان يسعني بكل سرور أن أقرّ بأن في الأمر نوعاً من الكسل أو من الغفلة في حال ما كنت مقتنعة بذلك، إلا أنني لست مقتنعة" بل على العكس أعتقد بأنني ألزمت نفسي في شكل من الجمود المنهك والمضني. لا أملك كلمات لقول مبلغ الجهود التي بذلتها كي لا أمضي قدماً نحو الأمام، ومبلغ الانضباط الذي فرضته على نفسي كي لا أكتب، كي لا أقوم بفعل، وخصوصاً كي لا أضع قدمي حيث يسعني المجازفة بالخروج سالمة، ولئن أراني الآن في حلّ من الرقابة، ومن يعلم كم ستدوم هذه الحال؟ فإنني أتشهى تقريباً إذ أنا الوحيدة القادرة على فعل ذلك أن أحيي في طريقي مقادير من الثبات والشجاعة اللذين لا طائل منهما.
ذلك أنني، باستثناء جدارتي في معرفة الأمر وفي قوله، لا أذكر بأنني سعدت بنفسي ورضيت عنها، راضية هكذا بكل بساطة، مثلما يمكن أن يكون المرء راضياً وسعيداً في يوم من أيام الربيع، أو سعيداً بمذاق ثمرة طيبة أو في صورة أكثر بساطة بشيء صغير بعد انجازه جيداً. وفي قولي هذا ما يدلّ على مدى مغالاتي في تقدير نفسي، ويستفاد من قولي هذا ما يدل على مسارعتي وإبكاري في الاستسلام بمواجهة هذا القدر الكبير من التطلّب. وضوحي كان يعميني، كان يعطيني اللون الأزرق فاصلاً بيني وبين البحر، هذا ما كانت عليه اللوعة الباردة لذكائي، منارة الكبرياء المسلّطة في العين المنذهلة لرغبتي، الانتصار القاتل الذي يجعلني، مهما حصل، أتقدم بأشواط عن نهاية الحكاية ....
الصفحة الأولى في رواية عاشرة:
لدى الخروج من الطفولة، أخذ الضباب يجمّل ويمتص مخاوفي، إنه لحظة لقائي وأنا فتاة صغيرة قبالة الفراغ، ولم يكن لي أن أجد ما هو أفضل. في الثالثة عشرة من عمري كنت لا أزال بعد في الثامنة وكنت كذلك قد دخلت في العشرين. ربّما أنا أفضّل عومان الضوء على الأشياء التي يضيئها، إنها بداية التشوش، الخطوة المتعثرة الأولى لذكائي، وهي في كل الأحوال اللحظة الأكثر تسبباً بأثقل النتائج. أكتسب الذائقة المبكرة لصياغة المعادلة وللتجريد، أخشى المرايا والزمن اللازم للتعلم، أستمع الى معزوفات باخ حاسبة نفسي "باخ" بدلاً من صناعة نسق الأنغام. أريد أن أبلغ طرف العالم بسرعة كبيرة ومن دون أن أسلك الدرب الموصلة اليه، إنه ضرب من الجنون ولكنه ليس مستحيلاً، إذ يكفي بذل بعض الجهد الإضافي كي أحلم لا كي أعيش. باختصار إنني أسيء التصرّف مع ذاتي لكنني لست من دون دفاعات، لديّ فكرة عما ينبغي للأشياء أن تكون وأنا أتناولها، كما هي حال هذا الكتاب، غير معتقدة بشيء وان كنت أعتقد بالمعجزة بعض الشيء. آخذ العالم مخلوطاً ببعضه البعض من دون التمييز بين موسم الخوخ وموسم الكرز. الحق أنني أفكّر بدلاً من أن أرسم. المناظر تتلاشى وتغرق في ألوانها بالذات، الشمس التي تغرب إنما هي ذكرى قبل أن تكون شمساً. والأمر كذلك مع الغابة، إذ لا أعرف أسماء الأشجار التي أحبّ. البطء والدقة يجرحاني. أوراق الصفصاف والغار تتلخص في فوارق وتنويعات دقيقة للون الأخضر. إنني مفتونة الى حدّ التعصّب بالاختصار المتسرّع والابتسار ومفتونة بالتوليف والتركيب.
عن الفرنسية: حسن الشامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.