تتجه أنظار المخرج الأفغاني عتيق رحيمي الى حفلة الأوسكار، التي قد تكون له فيها حصة، بعدما رُشّح فيلمه «حجر الصبر» لجائزة أفضل فيلم أجنبي باسم أفغانستان. ويبدو ان حظوظ رحيمي كبيرة في خطف الجائزة، خصوصاً ان الفيلم مقتبس عن رواية بالاسم ذاته، حققت نجاحاً كبيراً، ووصلت بالمخرج والروائي الأفغاني الى نيل جائزة «غونكور» الفرنسية عام 2008. ولكن شتّان ما بين عالم الأدب والسينما. ومع هذا، استطاع رحيمي ان يجمع بين الإثنين، الروائي والسينمائي في وقت واحد. وليست الأصداء الإيجابية على فيلم «حجر الصبر» منذ عرضه الأول في مهرجان تورونتو إلا دليلاً، خصوصاً انه يصوّر بشفافية عالية وحسّ إنساني كبير، قصة شابة تجد نفسها في أحد الأيام وحيدة أمام زوج عاجز عن أي حركة بعد تعرضّه لإصابة في الرأس أثناء عمله الجهادي، فتبوح بالمسكوت عنه طوال سنوات لتتحرر من عبء مجتمع يكبّل النساء، ولا يجد فيهن إلا متمّمات لملذات الرجال. رحيمي الذي هجر وطنه الأم أفغانستان عام 1984 بعد الاجتياح السوفياتي، واختار المنفى الباريسي، ظل مسكوناً بقصص بلاده، إن في رواياته او في فيلميه («أرض ورماد» المقتبس أيضاً عن رواية له و «حجر الصبر»)، أو حتى في الحديث الذي خصّ به «الحياة». لماذا هجرت أفغانستان، ولجأت الى المنفى الباريسي؟ - سأخبرك حكاية قد تكون معبّرة جداً. يُحكى انه في إحدى الليالي وجد أحدهم الملا نصرالدين (جحا) يبحث تحت ضوء قنديل عن شيء ما، فسأله: هل فقدت شيئاً. أجابه الملا: نعم... فقدت مفتاح بيتي. قال له عابر السبيل: حسناً... سأساعدك في البحث. مرّت دقائق ولم يجدا شيئاً، فاحتار عابر السبيل وعاد وسأل الملا: هل انت متأكد من أنك فقدت المفتاح هنا؟ وكان الجواب صاعقاً على مسمع الشاب، إذ قال الملا: كلا. فقدته في بيتي. هنا استغرب الرجل وسأل باستنكار، ولكن لمَ تبحث عنه خارج البيت؟ وكان جواب الملا نصرالدين: لأنّ لا ضوء في منزلي... أفغانستان، وطني، منزلي، دخلت في نفق مظلم... في حرب وإرهاب... بالتالي، فقدت مفاتيحي. مفاتيح الحرية والهوية، ولجأت الى فرنسا بعدما قادني الضوء اليها... أي الحرية. لست متأكداً، إن كنت سأجد مفاتيحي ام لا، ولهذا عدت الى أفغانستان لأصنع هذا الفيلم، وأتكلم عن وطني أملاً بأن أجد مفاتيحي التي ما زلت أبحث عنها. ماذا عن الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم في تاريخ أفغانستان؟ - هنا سأخبرك أمراً أقوله للمرة الأولى امام الصحافة. في جينيريك البداية تسمعين أصواتاً كثيرة تشعرك انك أمام إعلان حرب، لكنها في الحقيقة أصوات حقيقية لزعماء أفغان تلاحقوا منذ بداية الحرب حتى اليوم. أصوات لشيوعيين، وأصوات لمجاهدين وأصوات من طالبان... إذاً، تاريخ أفغانستان اختصرته كله في هذه الدقيقة؟ - هذا ما قصدته بالضبط، علماً أنني ترددت كثيراً في وضع ترجمة لما يُقال. لماذا؟ - عند شمس - وهو متصوف فارسي - حكاية تدور حول لؤلؤة مكسورة. تسأل الحبيبة حبيبها: لماذا كسرتها، فيجيبها لتسأليني لماذا؟ المهم في السينما ان تجعلي المشاهد يطرح الأسئلة على نفسه بعد ان يشاهد الفيلم، ويسأل لماذا؟ الحرب حافز للإنسان إذاً، لماذا اخترت ان تصوّر حرب أفغانستان في الإطار العام لقصتك التي تدور في شكل أساس حول المرأة في المجتمع؟ - صحيح ان أفغانستان عاشت 30 سنة من الحروب، بالتالي هناك ألف حكاية وحكاية لنرويها. ولكن بالنسبة إليّ الحرب هي وضع شديد التطرف حيث نفهم أكثر فأكثر الكائن البشري في عظمته واضمحلاله، الجانب الانساني منه، ولكن أيضاً الجانب الحيواني. الحرب في اعتقادي هي حافز للإنسان. وبما انني أعرف حرب أفغانستان جيداً، وضعت كائناً حياً في بيئة مماثلة وجعلت الحكاية مفتوحة للتفكير بكل الاحتمالات. لا أدّعي شيئاً في هذا الفيلم. فما أرويه هو من صميم الواقع الأفغاني. طبعاً لا أقول ان المرأة التي اخترتها بطلة فيلمي تمثل كل النساء الأفغانيات، بل هي امرأة تعيش مأساتها الشخصية في مجتمع منغلق. يقوم الفيلم في شكل أساس على أهمية الكلمة والبوح بمكنوناتنا الدفينة. فما الذي دفعك الى هذا التوجه؟ - في الغرب، المشكلة الوجودية هي «تكون او لا تكون». ولكن في بلاد مثل بلادنا تتحول العبارة الى «تقول او لا تقول». فالكلمة عندنا قادرة على خلق مشكلة كبيرة، بل مشكلة وجودية. لماذا؟ لأن الديكتاتور الذي يحكم والثقافة التي تشربناها، فرضا علينا رقابة، بل اقنعانا برقابة ذاتية. وعندما نحاول ان نتكلم ونبحث عن كلمات، نتوخى الحذر والدقة كي لا نجرح حساسية الآخرين، ولكن أيضاً كي لا نفقد حياتنا. عندما نرى المشهد من هذه الزاوية، نفهم أهمية الكلمة التي هي موجودة في ثقافتنا منذ أقدم العصور، وكلنا نعرف رمزية قصة مثل قصة شهرزاد التي حافظت على حياتها من خلال سرد القصص. احياناً لنستمر بحياتنا علينا ان نتكلم على رغم اننا نعرف اننا قد ندفع الثمن غالياً، وقد يكون حياتنا. ومن خلال هذا التناقض تصبح الكلمة وجودية. جعلت القصة مفتوحة، ما يحمل تأويلات عدة. هل في إمكانك ان تلخص ما أردت قوله؟ - صحيح. التفسير الأول الذي قد يخطر في بال المتفرج بعد رؤية الفيلم هو انه لتتمكن المرأة من البوح بمكنوناتها في مجتمع كالمجتمع الأفغاني، على الرجل ان يكون مشلولاً. التفسير الثاني يخصّ الغرفة حيث تدور غالبية الأحداث، والتي تمثل دواخلنا. اما المرأة بطلة الفيلم فتمثّل حميميتنا ورغباتنا وقوتنا وحاجتنا لنكون أحراراً ونخطو في حياتنا. وفي الجهة الثانية، هناك الرقابة الذاتية والسلطة التي داخلنا. يجب في لحظة ما أن نُسكت الآخر في داخلنا ونقتله في النهاية. هذا ما حدث في نهاية فيلمك حين قتلت البطلة زوجها بما يمثله من سلطة؟ - داخل كل فرد منا شيء من هذا الرجل سواء كنا نتحدث عن امراة او رجل. السلطة الخارجية تسكن فينا وتعشش. وهي التي تدفعنا أحياناً نحو أفعالنا الأكثر بربرية. من هنا، قد نتجه نحو المحظورات والخطوط الحمر او ما يسمى «الوعي الجماعي». الى أي درجة، يسهّل التصوير داخل أبواب مغلقة، على المخرج مهمته؟ - القصة فرضت عليّ ان أصوّر فيلمي داخل اربعة جدران لأنها تنبش في دواخلنا. هناك أفلام كثيرة صوّرت داخل أبواب مغلقة. أفلام برغمان أو رومان بولانسكي الذي اعتبره أستاذ الأبواب المغلقة. وفي «حجر الصبر» يمكنك ان تلاحظي انه حتى حين تخرج الكاميرا خارج أسوار المنزل نبقى داخل جدران مغلقة. حتى في فيلمي «أرض ورماد» كل الأحداث تدور في الخارج ومع هذا يشعر المشاهد انه امام أربعة جدران. لماذا هذا التوجه؟ - في رواياتي أحب ان أطوّر موقفاً ما أو ان أقترب من منبع التراجيديا، أي وحدة المكان والزمان والفعل. كل لحظة في حياتنا هي فيلم. وأنا احب ان أبتعد عن الضخامة والديكورات الكبيرة. فهذا أسلوب آخر في التصوير قد أدنو منه حين أصوّر أفلاماً من اقتباس آخرين. اما انا، فإذا عدت الى رواياتي الأخرى لأحوّلها الى افلام، فإن الأمر لن يختلف كثيراً، بل حتماً ستكون داخل ابواب مغلقة. عندما تُحوّل رواية من الأدب الى السينما، غالباً ما يطرح السؤال، إلى اي حدّ ظل الفيلم أميناً للرواية الأصلية. في «حجر الصبر» انت المؤلف والمخرج، فهل يصبح مثل هذا السؤال غير مبرر؟ - لا أفصح لك سراً حين أقول إنني خنت نفسي في الفيلم وأنا سعيد بذلك. حين قابلت كاتب السيناريو جان كلود كارييه وسألني ماذا تريد في هذا الفيلم؟ أجبته بسرعة أن أخون نفسي، وكان جوابه على الفور: اطمئن سيكون لك هذا. اكتشاف مناطق مخفية ولكن قد يخالفك كثر من الأدباء في هذه النظرة، انطلاقاً من مبدأ الأمانة في نقل الأدب الى الشاشة؟ - كل ما أريد قوله قلته في الرواية. اما في الفيلم، فما هو مهم هو انني اكتشفت مناطق مخفية ومظلمة في الشخصية. مناطق لم يكن لي منفذ إليها ككاتب وظلّت عالقة في الرواية، إن لناحية غموض الشخصية أو تناقضاتها. كل هذا لم أكتشفه إلا وانا أعمل على الفيلم، بعدما أعدت اكتشاف بطلتي. ففي السينما، لا بد من ان تكوني محيطة بكل تفاصيل الدور لتقنعي الممثل الذي يطرح عليك ألف سؤال وسؤال ليقتنع بما يقدّمه. ولكن، عندما تكتبين يكون الأمر مختلفاً. ولحسن الحظ، الكتابة تقبل الغموض. اليوم عندما أعيد قراءة روايتي أفهم لماذا كتبتها بجمل قصيرة وبهذا الإيقاع. كما بات باستطاعتي ان أحلل الشخصية. وأشكر الرب لأنني عملت مع جان كلود كارييه الذي وضعني على مسافة مع رواية تحمل توقيعي. هو أستاذ في السيناريو... هو أستاذي. في الرواية كما في الفيلم لا تحمل الشخصية اسماً. ما السبب؟ - (يقول ضاحكاً) هل هذا صحيح؟ لم أتنبه لذلك. في الرواية هناك فقط «هو» و «هي»... اما في الفيلم فهل فعلاً لا تحمل الشخصيات أسماء؟ هنا اريد ان اطرح عليك انا السؤال. بحكم عملك، تشاهدين أفلاماً كثيرة، فهل يمكنك ان تتذكري اسم البطل في آخر فيلم شاهدتِه. ستفكرين وتحتارين لأن الاسم هو رمز فحسب. من هنا، في الرواية نُجبر على استعماله للتمييز بين الشخصيات، ولكن في السينما لسنا بحاجة لذلك. في روايتي هناك «هو» و «هي» لأن لا شخصيات أخرى، بالتالي لن نُخطئ بينهما. طبعاً إذا كانت الهيكلية تفرض ان تكون للشخصيات أسماء، لم لا. ولكن إن لم تكن هناك ضرورة، فلماذا حشرها؟ هل الهدف هو تسهيل عملية التماهي مع الشخصية؟ - لا اعتقد ان غياب الأسماء يُسهّل فكرة التماهي او ان تكون الشخصيات شمولية. فالهيكلية والسرد والمضمون والرواية تعطي فرصة للجميع لرؤية شخصية شمولية او لا. في العادة، بعض الشخصيات الثانوية يكون لا اسم لها وإن كان لها دور. وهناك شخصيات أضحت أسماؤها رموزاً مثل أنتيغون وأوديب وشهرزاد، لأن الرواية فرضت اسماً ما. بالحديث عن شهرزاد، هل حرصت على ان تكون بطلة فيلمك شهرزاد معاصرة؟ - طبعاً، هي استمرارية لشهرزاد، ولكن بطريقة مختلفة. وهنا نعود الى فكرة ان الكلمة تُنقذ حياتنا. في الفيلم جرأة في الحديث عن الجسد، خصوصاً في مجتمع شرقي لا يحبذ أموراً كهذه؟ - في تقاليدنا، الجسد هو دوماً مصدر عذاب، خصوصاً ان الفكرة التي تترسخ في أذهاننا منذ نعومة أظافرنا هي ان الجسد فانٍ وأن الروح هي المهمة. مع تعاظم الحريات في الغرب، أضحت للجسد عوامل أخرى، عامل جنسي ولكن أيضاً عامل تفاوضي-تبادلي. فعندما نريد ان نبيع سيارة يُستعمل جسد المرأة كسلعة. من هنا اطرح سؤال الجسد. وفي فيلمي هناك تدرّج. في البداية يكون الجسد مصدر تعاسة ثم يصبح عاملاً للتفاوض عندما تقدم نفسها كغانية لتتفادى ان يغتصبها المقاتل الذي لا ينظر إلا الى العذارى. ثم شيئاً فشيئاً تكتشف الرغبة. وفي النهاية لا يعود الجسد أداة بل يصبح الموضوع SUJET. يبدو ذلك جلياً في المشهد الأخير حيث ضحكة ترتسم على شفتي البطلة تنضح بانتصار كبير؟ - الوعي بما نحن عليه وبهويتنا مهم جداً. وفي النهاية تتحرر البطلة من كل القيود التي كانت تكبّلها. فالمهم عندي ليس الحقيقة الصادمة التي كشفتها في النهاية، بل تحررها من ثقل هذه الحقيقة. الهدف هو التحرر. المرأة كشفت عن نفسها، عن داخلها وأسرارها، ولكن ليس لأجل ان تعيش مع الحقيقة ولكن لتتحرر منها. كتبت رواية «حجر الصبر» بالفرنسية بينما الفيلم صغته بالفارسية. ما الذي منعك من ذلك في الرواية؟ - نعم. هذه القصة بالذات لم أتمكن من كتابتها بالفارسية اول الأمر، فلجأت الى الفرنسية. ولا أدري ما السبب. هل لأن بعض المواضيع التي تندرج تحت خانة الممنوعات يصعب علينا خوضها بلغتنا الأم؟ - نعم أكيد. اللغة الام تفرض علينا حدوداً وقيوداً واحتراماً. مع لغتنا الأم نسمع صوت الوالدة والوالد والمجتمع. لذا عندما نريد ان نعبّر عن بعض المسكوت عنه، نعجز، في حين تكسرين مثل هذه التابوات في لغات أخرى. هذا الحاجز الذي تتكلم عنه كسرته في الفيلم الذي نطق بالفارسية؟ - حتماً إن قارنت الفيلم بالرواية فستجدين انني كنت رقيباً على نفسي. لا شك في ان تحويل رواية فازت بالغونكور الى فيلم سينمائي تحدٍ كبير؟ - نعم. كان التحدي كبيراً. ولا أُخفي عليك انني طرحت ألف سؤال قبل الإقدام على هذه الخطوة. كنت متردداً جداً. ولم أقبل الفكرة بسرعة. كنت أريد ان أفهم السبب. وكنت أريد زاوية جديدة ومساحة اخرى للقصة. ولهذا ترين ان مساحة الحديث عن الجسد واضحة اكثر في الفيلم منها في الرواية. حوار مع الصمت لنتحدث عن المونولوغ في الفيلم... - (يقاطعني) هل تظنين فعلاً انك كنت امام مونولوغ. في الرواية يمكن قول ذلك ولكن في الفيلم كنا امام حوار لا مونولوغ. لكنّ البطلة تكلّم نفسها طوال الفيلم؟ - كلا. كان هناك حوار مع الرجل المشلول القابع امامها. حوار مع الصمت. وانتظار للإجابات. من يشاهد الفيلم، يشعر انه مكتوب بحسّ أنثوي عالٍ. هل يزعجك هذا القول؟ - أبداً. أولاً، احب النساء. أحب والدتي وشقيقاتي. أحب ابنتي، وكل امرأة لعبت دوراً في حياتي. وحتماً في داخلي مكان لامرأة تعيش فيّ. كتبت الرواية بحب للمرأة، وسعيد بأن هذا بادٍ في الفيلم. بين عتيق رحيمي الروائي وعتيق رحيمي السينمائي، أيهما الأقرب إليك؟ - السينمائي هو طفل مدلل وأناني. يتصرف كما لو أنه مع ألعابه وكل شيء في خدمته. في المقابل، في الكتابة ليس هناك سوى الكاتب. من هنا، «الأنا» تتلقى صفعة كبيرة. فعندما تكونين امام مشكلة ولا تخرج الكلمة المناسبة، لا احد موجود في خدمتك لمساعدتك. هنا انت وحدك في مواجهة الكلمات، وهذا يجعلك متواضعة. باختصار، لتكوني روائية عليك ان تكوني متواضعة ولتكوني سينمائية عليك ان تكوني أنانية. إذاً، ماذا تفضل ان تكون؟ - نحتاج الى الاثنين معاً لنحيا.