لو أننا ندري متى سنموت لما فعلنا شيئاً سوى الانتظار، ولتحولت حياتنا إلى خواء مطلق، حيث لا مكان الا لأحساسيس الألم التي تطلقها النفس التواقة للحياة، المتعلقة بأهداب الدنيا حتى رمقها الأخير. ان شبح الموت حين يخيم على النفس يصيبها بالاضطراب ويحولها الى كتلة من مشاعر متضاربة يمتزج فيها الرعب بالغضب باليأس بالرجاء وبرغبة عارمة في القتال حتى النفس الأخير على أمل النجاة من المصير المحتوم. هذا ما يرسمه فيلم (اغتيال جيسي جيمس بواسطة الجبان روبرت فورد - The Assassination of jesse james by the Coward Robert Ford الذي بلغ حداً من الفخامة الشكلية ما يجعله واحداً من افضل الأفلام التي انتجت في السنة الماضية. الفيلم الذي قام ببطولته النجم المعروف "براد بيت" بشخصية "جيسي جيمس"، يبدو استثناء فريداً وذلك من جهة عنوانه الذي يفضح النهاية منذ البداية ويعلن ان الشخصية الرئيسية في الفيلم ستموت حتماً على يد رفيقها الجبان، قاضياً بذلك على كل بارقة تشويق يمكن ان يعثر عليها المشاهد في عالم المجرمين المثير، ومدمراً "بنية" الحدث، تاركاً الشخصيات وهي تهيم في عماء مطلق تخترق فضاء فارغاً خلا من كل شيء الا من مشاعر الترقب والهلع من لحظة الموت. يذهب بنا الفيلم الى امريكا القرن التاسع عشر، الناجية من حرب أهلية طاحنة، ليلتقط من بين ركامها قصة موت المجرم الأسطورة "جيسي جيمس" على يد رفيق له يدعى "روبرت فورد". ومع ان حياة "جيسي" ومغامراته الأسطورية خلال الحرب وبعدها تمثل روح الغرب الأمريكي بجدارة وتحفل بالكثير من الإثارة الا ان الفيلم - وهذا ما يميزه - يهمل كل ذلك ويصور فقط حكاية الموت وما صاحبها من قلق وتوتر. تبدأ الحكاية من اللحظة التي يعلن فيها المجرم العجوز "فرانك" عن نهاية نشاط عصابته ليذهب بعيداً عن رفاقه تاركاً خلفه اسطورة خلقتها عمليات السطو الجريئة التي نفذها مع شقيقه "جيسي" وحفنة من الرعاع الباحثين عن المجد. من هنا يبدأ الفراغ بالتشكل، وتحيط بأفراد العصابة المتبقين غمامة من الشك منبعها الخوف من الخيانة ومن تعاون بعضهم مع السلطات التي تطارد الجميع بشراسة، اربعة من هؤلاء مازالوا قريبين من "جيسي" لأسباب مختلفة، منهم من يبحث عن البطولة مثل الشاب الصغير "روبرت فورد"، اما البقية فمن اجل اتقاء شر "جيسي" الذي احسوا برغبته في تصفيتهم حماية لنفسه من الوشاية. من البداهة ان الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم هما المذكورتان في العنوان، المجرم "جيسي جيمس" الذي قام بدوره النجم "براد بيت"، والمجرم الصغير "روبرت فورد" الذي ادى شخصيته الممثل "غيسي أفليك" ببراعة لافتة منحته ترشيحاً لأوسكار افضل ممثل مساعد، والى جانب هذين هناك ثلاث شخصيات اخرى تلعب ادواراً محورية في الفيلم، وكل هؤلاء الخمسة يرتبطون مع بعضهم البعض برباط غامض، حيث لا يزالون يحومون حول انفسهم رغم انتهاء نشاط العصابة، دون ان يدركوا ان دافع هذا التصرف هو فقط الخوف من الموت والهلع مما يضمره زعيمهم "جيسي"، والوحيد الذي يملك دافعاً آخر يجبره على الاقتراب من "جيسي" هو "روبرت فورد" - الجبان - الباحث عن المجد والذي لا يخفي اعجابه المطلق بهذا المجرم الأسطورة. ان اول ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو الفراغ.. الفراغ في كل شيء.. حيث لا حدث، ولا تطور، ولا نمو لأي شيء، لقد تم تحييد العناصر التقليدية لأي حكاية، والشخصيات تحوم في العماء ولم يبق امامها سوى ان تتمدد في هذا الفراغ ناثرة كل القلق الذي يعتريها من موت محقق قادم. وفي فراغ كهذا كانت الفرصة سانحة للمشاعر ان تبسط سيطرتها، وللعامل النفسي ان يعلن عن حضوره الطاغي، وكأن ذلك مقصود من صانع الفيلم حين حطم الحدث وأعلن ان فيلمه سينتهي بهذه الطريقة من دون مفاجآت، معطياً الإذن للشخصيات ان تنثر مشاعرها على سطح الشاشة الخالي؛ لأنه ليس امامها الا ان تفعل ذلك كي تشعرك بحياتها!. وقد كان للعامل النفسي حضوره اللافت في العلاقة التي تربط "جيسي" بقاتله ورفيقه "روبرت فورد"، فالاثنان يكنان اعجاباً ببعضهما البعض، وفي نفس الوقت يمتلئ قلب احدهما حقداً على الآخر، ولا تفسير لهذه الحالة، انها تشبه حالة الموسيقار "سيليري" مع "موزارت" في الفيلم العظيم (أماديوس). احداث الفيلم رغم انها تعتمد على حقيقة تاريخية ثابتة الا انها تنطلق من رؤية الكاتب الأمريكي "رون هانسن" التي وضعها في روايته الناجحة التي حملت نفس الاسم ونشرت عام 1983، حيث تناول بأسلوب شاعري حياة الخارج عن القانون "جيسي جيمس" مركزاً على أيامه الأخيرة، وهنا يفعل مخرج الفيلم "أندرو دومينيك" الشيء نفسه اذ يصنع لوحة شاعرية، بهدوء ساحر، وموسيقى بديعة، وبصورة جميلة ذات فضاء واسع، تصور حالة القلق التي انتابت "جيسي" ورفاقه قبل وفاته عام 1882.وربما لا تكون أسئلة الموت مقصودة بذاتها الا ان اسلوب الفيلم وعزفه على وتر "الشعور" بقسوة يترك في نفس المشاهد احساساً بظلال الموت الخانقة التي تملأ الجو، ويشفع لذلك عنوان الفيلم الذي فضح كل شيء من البداية وأعلن النهاية بتفاصيلها الرئيسية، من سيموت ومن القاتل، وكأن ذلك اعلان أولي لكل من يبحث عن فيلم كاوبوي تقليدي ان لا ينتظر هنا مطاردات ولا قتالا ولا حتى مسارا طبيعيا يسير عليه حدث طبيعي، بل مجرد مشاعر وزفرات يطلقها اناس عرفوا فقط متى سيموتون.