ليس من الوارد عادة في عالم الرواية أن ترفق الكتابة عن أيّ عمل روائي بقاموس يعرّف الشخصيات وليس فقط ضمن إطار موقعها ووظيفتها في الرواية نفسها، بل كذلك بالمقارنة مع الشخصيات الحقيقية التي منها استقى الكاتب شخصيات هذه الرواية. بالكاد عادة يفصح عن الشخصيات الحقيقية، لأن الأمر يترك لمخيلة القارئ وللمحللين. ولكن، في رواية الكاتب الكندي - الأميركي جاك كيرواك «على الطريق» التي أضحت مع مرور الزمن إحدى أكثر روايات القرن العشرين أسطوريّة، وجاذبية لملايين القراء، وجد الناشرون دائماً أن هذه المقارنة التي حوّلت إلى ما يشبه القاموس، ضرورية ومن الصعب دخول عالم الرواية من دونها. وهنا، في السياق ذاته سيكون من المفيد أن نذكر أن معظم الكتب التي صدرت عن جاك كيرواك منذ صدور روايته هذه، وجدت لزاماً عاليه أن تنشر مثل ذلك القاموس موسّعاً ليتحدث عن شخصيات كثيرة اخرى يرد ذكرها في بقية روايات كيرواك وقصصه. ولعل السبب في هذا بسيط ومنطقي، فإذا كان كيرواك اعتبر دائماً من الروائيين الكبار في تاريخ الأدب الأميركي المعاصر، فإنه في الوقت نفسه اعتبر «مؤرخاً» لجيل بأسره من الكتاب والشعراء الأميركيين هو جيل «البيت» (بيت جينيرايشن) الذي هيمن على الحياة الفكرية الأميركية وربما أيضاً على إرهاصات الشبيبة خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية... ففي نهاية الأمر ليس أدب كيرواك سوى تعبير عن ذلك الجيل وربما تاريخ له أيضاً، وهو تاريخ يضم عدداً من الأسماء الأميركية اللامعة التي برزت في العقود التالية، مجتمعة أو مستقلة، وأثّرت في الفنون والآداب، ولا سيما في الغناء حيث يقال عادة إن مغنين كباراً من الأميركيين والإنكليز كانوا يتفاخرون بانتماء ما إلى ذلك الجيل وفي مقدمهم بوب ديلان وفريق البيتلز وبوس سبرنغسترين وصولاً إلى ليونارد كوهين... والحقيقة أن رواية «على الطريق» تكاد تختصر هذا كله... طالما أننا نعرف الآن أنها رواية في السيرة الذاتية، أو لنقل بالأحرى إنها رواية شاء كيرواك من خلالها أن يقدم سيرته ولكن، في ظل شخص آخر كان صديقاً له لفترة من الزمن وترافقا معاً في رحلات عبر مناطق أميركا. وما الرواية سوى سرد لتلك الرحلات ناهيك برحلات أخرى قام بها جاك كيرواك من دون صديقه. والصديق هو نيل كاسيدي – الذي يحمل في الرواية اسم دين موريارتي، فيما يسمي كيرواك نفسه في الرواية سال بارادايس، ويختار أسماء أخرى كثيرة لرفاق وأهل آخرين يمرون في فصول الرواية من ويليام بوروز الذي يضحي أولد بيل لي، وآلان غينسبرغ الذي يسمى كارلو ماركس وكارولين كاسيدي التي تصبح كاميل إلى غيرهم... ومنذ البداية يبدو بطل الرواية منبهراً بموريارتي إذ يتعرف إليه. ومن هنا، يكاد يجعل من بعض أجمل فصول الرواية انعكاساً لذلك الانبهار. وعلى طول الرواية وإذ لا يتوقف الكاتب عن الحديث عن هذا الصديق لا يفوته بين الحين والآخر أن يصف موبقاته ومساوئه ومغامراته وغرامياته، التي يحدث لها كثيراً أن تتقاطع مع غراميات سال – كيرواك – نفسه، غير أن هذا كله يبقى ثانوياً في «على الطريق» مهما كانت أهميته فيها. وذلك لأن الرواية تبدو لدى القراءة أكثر كثيراً من مجرد عمل كتابي عن الصداقة وخيباتها، كما تبدو في الوقت نفسه، أكثر كثيراً من مجرد سرد لرحلة أو أكثر من رحلة عبر أميركا... وبعض المناطق الأخرى أيضاً. فهي بعد كل شيء رواية حياة بأسرها ورواية روح جيل عند لحظة انعطافية من تاريخه... رواية ذهنيات. فالحال أن كيرواك خلال تجواله، في الرحلات الكثيرة التي يقوم بها، حيناً مع صديقه وحيناً مع عدد آخر من الأصدقاء ثم مع فتاة من هنا وأخرى من هناك، إنما يرصد حياة كل هؤلاء وذهنياتهم وعشرات غيرهم سواء كانت لهم أدوار أساسية أو يمرون في فصول الرواية عابرين. وفي هذا المعنى جرى، ومنذ البداية، وصف الرواية بأنها رواية طريق... لا يمكن بالطبع تلخيص أحداث هذه الرواية التي، في شكل أو في آخر، اخترعت أو أعادت اختراع أدب الطريق في الحياة الأدبية الأميركية ثم العالمية أيضاً... فهي – كما الحياة نفسها - رواية من دون أحداث مركزية. هي رواية أماكن وأشخاص. رواية تتسلل إلى دواخل الأشخاص ودواخل نفسياتهم راسمة ذلك المناخ الغريب الذي كان يهيمن على بلد «الحلم الأميركي» في وقت كانت فيه كوابيس ذلك الحلم قد بدأت تظهر. وهنا، حتى وإن كان من الصعب القول إن مناخ الرواية درامي أو مناخ خيبة أو ما شابه، يمكن الإشارة إلى أن الخيبة والفراغ والخواء الروحي أمور تهيمن تماماً على فصول الكتاب، من دون أن تكون هناك في المقابل أية مساع لمجابهة ذلك الواقع. إنه أشبه بالعبث الوجودي الذي يدفع إلى تقبّل الحياة كما هي من دون أي تساؤل عما كان يمكنها أن تكون. والحقيقة أن هذه الذهنية كانت هي الذهنية المهيمنة على كتابات، بل كذلك على حيوات كيرواك وأصحابه في ذلك الزمن الانعطافي... ذهنية تفتقر إلى الأمل ولا تحاول حتى العثور على السعادة أو مجرد البحث عنها، لكنها في المقابل تعيش يومها في ترحال دائم هو أقرب إلى أن يكون هروب عبثي من الذات. ومن هنا، تكوّن العلاقات ثم تصدّعها: علاقات الحب والعلاقات العائلية، علاقات الصداقة وعلاقات المصلحة والعلاقات الجنسية. إن كل شيء يتغير في رواية الطريق هذه، وليس الرحلات والأماكن فقط... وحده الزمن يبدو جامداً مهما كان حجم التغيّرات، ووحده الموت لا يجد من يأبه به. وقس على ذلك مسائل مثل منظومات القيم والنسق الأخلاقية. إن كل شيء هنا يبدو نسبياً وابن يومه. وهكذا مثلاً، حتى حين يفاجئ سال صديقه في مواقف قد تعتبر في عرف النسق الأخلاقية السائدة، معيبة، لا يبالي بالأمر كثيراً، يتجاوز مفاجأته وينسى. إنها، كما أشرنا اعلاه، الحياة كما هي بحلوها ومرّها، بسعاداتها الصغيرة ولحظات الهروب منها إلى المخدرات والشرب والجنس والغدر. وليس هذا لأن الرواية تفترض أن كلّ شيء مسموح وتدافع عن ذلك... بل لأن الرواية تفترض أن الحياة تمرّ هكذا ونحن نحتاج إلى كلّ شيء كي نصنع الحياة والوجود... وحتى هنا، لا يتعين علينا أن ننظر إلى هذا على أنه درس أو عبرة. ليس ثمة هنا أي شيء من هذا: هكذا هي الدنيا وهذا ما يحدث فيها ولسان حال الرواية يكاد يقول: وما عليّ سوى أن أحوّل هذه «الأحداث» إلى صفحات مكتوبة. والحقيقة أنه من الصعب حتى القول إنه كانت لدى كيرواك رغبة حقيقية في أن يرمي ما حدث معه وما فكر فيه، خلال سنواته الصاخبة تلك على الصفحات. بل لم تكن هناك حتى صفحات. وهذا يدخلنا هنا إلى «حكاية الحكاية». فالحال أن ثمة هنا حكاية تقول إن جاك كيرواك الذي كتب الرواية خلال النصف الأول من سنوات خمسينات القرن العشرين، عن سنوات عاشها وجولات ورفاق عايشهم، أواخر سنوات الأربعين، تردد كثيراً قبل كتابة روايته... ثم في نهاية الأمر استقر رأيه وكتبها على الآلة الكاتبة ولكن، ليس صفحة صفحة بل على لفافة طويلة من الورق قائلاً إنه لو لم يعمد إلى ذلك لما كان كتبها أبداً. وهذه اللفافة التي يبلغ طولها عشرات الأمتار موجودة الآن وتعتبر تراثاً أدبياً، وهي عرضت خلال الشهور الأخيرة في باريس كما في نيويورك ضمن إطار معارض استعراضية لحياة جاك كيرواك وأعماله. ونعرف أن هذا كله تزامن خلال الربيع والصيف الفائتين من هذا العام مع العروض العالمية للفيلم الذي اقتبسه البرازيلي والتر ساليس عن الرواية وكان عرضه الأول خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي. وإذا كانت مسألة أفلمة الرواية قد شغلت ومنذ سنوات الخمسين كثراً من السينمائيين وأهل الأدب والفن بمن فيهم كيرواك نفسه، الذي يروى أنه أواسط سنوات الخمسين، قد بعث برسالة إلى مارلون براندو يطلب منه فيها إخراج فيلم عن الرواية يكتب له السيناريو بنفسه – فلم يكلف براندو نفسه مشقة الرد عليه - ، فإن الفيلم الذي عرض في «كان» لم ينل الكثير من الإعجاب، ما أكد موقف السينمائي الكبير فرنسيس فورد كوبولا الذي كان اشترى الحقوق لنفسه ثم سكت عن الأمر سنوات ليتنازل عنها لساليس معتبراً أنها «رواية تصعب على التحوّل إلى فيلم». [email protected]