بعدما تم اقرار الموازنة أخيراً من قبل مجلس الوزراء واحالتها الى المجلس النيابي، على ان تلحق في وقت قريب بالخطة الخمسية التي من المتوقع ان يقرها مجلس الوزراء خلال الأيام المقبلة، يبقى السؤال الأهم: ما الذي أوصل لبنان الى هذه الحال المالية والاقتصادية؟ وما هي النظرة الى مستقبله ودوره في السنوات المقبلة؟ لقد بات واضحاً ان الوضع اللبناني الحالي لا يمكن ان يستمر، وهو يتطلب، بسبب طبيعة النظام النقدي، جهوداً غير اعتيادية أو تقليدية بالمفهوم اللبناني للخروج من تعقيداته بهدف تطوير انتاجية الاقتصاد اللبناني. تخلف لبنان في كثير من المجالات خلال العقود الثلاثة الفائتة التي شهدت تطورات فاقت في أهميتها الثورة الصناعية الكبرى في القرن التاسع عشر وظهور الشيوعية في القرن العشرين. فخلال هذه الحقبة، خصوصاً فترة الريغانية والثاتشرية، تم تحديث واعادة هيكلة البنية الصناعية في أكثر دول العالم من اميركا الشمالية الى اللاتينية مروراً بأوروبا والشرق الأقصى وصولاً الى دول الخليج وافريقيا. وظهرت ثورة المعلوماتية والتكنولوجيا والاتصالات التي ما زالت مستمرة بشدة حتى اليوم. وبرزت العولمة بكل محاورها وجوانبها وحركة التجارة العالمية، مما ألغى الحدود بين الدول لانتقال المعلومات أو البضائع أو الرساميل. ومن خلال هذه التطورات التي كان لبنان في حال شبه غياب كامل عنها، انتقل المحيط العربي من مستورد للمنتوجات والخدمات اللبنانية الى مصدر لها، وفقد لبنان الكثير من مواقعه التي كان يتمتع بها في العالم العربي لفترة طويلة والتي حظي بها، إما بسبب طبيعته وتركيبته من جهة أو بسبب تناقضات محيطه، من جهة اخرى. فاستفاد منها الى ان بدأت الحرب الاهلية التي انتهت باتفاق الطائف. بعد الحرب وحكومات الرؤساء الحص وكرامي والصلح، والتي كانت مهمتها تصريف الأعمال وتثبيت واقع الطائف، جاءت الحكومات التي ترأسها الرئيس الحريري، والتي قامت بانجازات اعمارية وبنية تحتية لا يستهان بها، ولكن انجازاتها تواكبت مع سياسة مالية ونقدية اوصلت الحال الى ما عليه لبنان اليوم. وبات لبنان، حتى في أواخر عهد الرئيس الحريري وباعترافه، يتنبه الى خطورة استمرار عجز الموازنة ونمو الدين العام. ويمكن تلخيص الوضع في ثلاثة مفاصل رئيسية: وضع المالية العامة - الخزينة. عجز الميزان التجاري والحساب الجاري وميزان المدفوعات. تراجع النمو الاقتصادي والحركة الانتاجية في لبنان. وكما يعلم الجميع فإن لبنان اليوم بلد غير منتج بالمفهوم الدولي، ويعتمد في صورة رئيسية على حركة خفيفة للاقتصاد الداخلي، وعلى قطاع الخدمات وعلى التحويلات من الخارج. هذه الوقائع المؤلمة مصحوبة، ولأول مرة في تاريخ لبنان، بدين عام يبلغ 19.5 بليون دولار من المتوقع ان يرتفع الى 21 بليون نهاية السنة الجارية. مفاصل الأزمة هذه، والتي عنوانها الرئيسي هو المديونية العامة، تحث الجميع على التفكير: ماذا بعد الآن وما هو الحل؟ للأسف، وباستثناء بعض المسؤولين في الحكم اليوم، فإن أغلب السياسيين في البلد ما زال يتعامل ويتفاعل مع هذه المواضيع عن طريق مناورات وتجاذبات على طريق الممارسات السياسية التقليدية في لبنان، وكأنهم لم يروا ما حصل في الاكوادور منذ اسبوعين أو في روسيا منذ سنة، أو في المكسيك عام 1994 أو في البرازيل منذ شهرين أو في بلغاريا عام 1997 أو في اندونيسيا وكوريا والفيليبين وماليزيا وتايلاند منذ سنة ونصف السنة. ولا يتوهم أحد أن لبنان حال فريدة كما اعتقد حتى بعض المصرفيين فيه، الى ان استفاقوا على الحقيقة بعد قدوم الرئيس لحود الى سدة الرئاسة. من هنا تأتي اهمية تجاوز اخطاء الماضي من غير التغاضي عن ملاحقة المسؤولين عن الهدر والفساد، والتطلع الى سبل مواجهة الوضع للخروج من هذه الأزمة الخطيرة، اي ان اقرار الموازنة والهدوء المتوقع بعد هذا الاقرار يجب ألا ينسي احداً ان النار الموقدة ما زالت تتقد من خلال تنامي الدين العام يومياً وبأن المعالجة المطلوبة يجب ان تبدأ فوراً، أي البارحة قبل اليوم. وقد يعتقد البعض بأنه تشاؤم مبالغ فيه. ولكن الواقع أننا عاصرنا دولاً اخرى وأزماتها وأملنا ألا يضطر لبنان الى السير في هذا الطريق. من هنا تأتي أهمية الاستقرار المالي والنقدي، فحصانة الدول لم تعد بالقوة العسكرية فقط، من غير التقليل بأهميتها، ولكن من خلال متانة أوضاعها الاقتصادية والمالية. وأهم مثل على ذلك، هو ما يحصل اليوم بين حلف الناتو ويوغوسلافيا من جراء كوسوفو، فروسيا، وهي القوة النووية، في الاحوال الطبيعية، لم تكن لتسمح ان يصل الوضع في كوسوفو الى ما هو عليه الآن اصلاً، ولكن بسبب انهيار الوضع الاقتصادي فيها وتخلفها عن سداد ديونها الخارجية، اصبحت روسيا اليوم أسيرة خارجياً لوضعها المالي، الا اللهم إذا حُشرت الى درجة تدفعها عنوة الى الدخول في تحالف مع يوغوسلافيا حيث تتخذ الحرب في البلقان وقتها منحاً آخر تماماً. وهناك أمثلة كثيرة تؤكد أهمية حصانة الوضع المالي للدول، وارتباطه بالاستقرار السياسي، منها الجزائر التي أدى اختفاء ما يقارب 40 بليون دولار فيها عن طريق الهدر والفساد الى تفاقم الوضع السياسي وظهور التيارات المعاكسة للنظام التي جزء منها ما هو الا تعبير عن النقمة على من أساؤوا الأمانة. ولسوء الحظ فتح، أهل الفساد السابق والناقمون عليهم، على السواء، الباب للتدخلات الخارجية، حتى اصبحت الجزائر تحتاج الى من يتوسط فيها لإنهار الوضع بعدما كانت الوسيط الأول في النزاعات العربية. منذ اسبوعين انهار الوضع في الاكوادور واضطرت حكومة معوض الى اعلان اجازة مصرفية قسرية لمنع المودعين من اقتحام المصارف. في اليوم نفسه اعتبر المراقبون ان الاكوادور لم يعد ضمن حلقة الدول الأولى في اميركا اللاتينية. وفنزويلا اليوم مرشحة للانهيار في أي لحظة، مما اضطر الرئيس الفنزويلي خافير الى الطلب من مجلس النواب اعطاء حكومته صلاحيات استثنائية لاجراء اصلاحات جذرية في النظام المالي والاداري لتأمين مصاريف تشغيل الدولة، وإلا سيضطر الى الدخول معه في معركة بإعلان حال الطوارئ. وحجة خافير ان خدمة الدين حتى مع ارتفاع اسعار النفط الذي تعتبر فنزويلا من أكبر المصدرين له في العالم، بات عبئاً على الخزينة لا تستطيع الحكومة ايجاد موارد كافية للانفاق الاستثماري، مما زاد البطالة وأضعف القوة الشرائية للمواطنين واضحت العملة الوطنية مهددة بالانهيار. غريب، وكأن السيناريو الفنزويلي ليس في فنزويلا وانما في لبنان. وإذا انتقلنا من فنزويلا الى باكستان نجد مرآة أخرى للوضع في لبنان، فسوء الأداء في العهود السابقة في باكستان جعل الحكم الحالي يعتبر ان كل ما حصل في السابق سيء يحتاج الى تغيير. طال هذا التصرف الشركات الاجنبية التي كانت تستثمر في باكستان والتي باتت عرضة لحملة اعلامية شرسة وكأنها مسؤولة عن الفساد السابق. نتيجة هذا التصرف حرم باكستان من دخول الرساميل الاستثمارية خلال السنتين الفائتتين ومن الشروع في أي عملية تخصيص جدية ذات صدقية. غريب، وكأن السيناريو الباكستاني ليس في باكستان وانما في لبنان. وتطول الأمثلة ولا تنفذ ويبقى المهم ان لبنان الذي يعاني اليوم من اهتراء البنية الادارية ويتطلب تحديثاً جذرياً للتشريع القانوني لا يمكن ان تستمر ادارته على هذه الحال، ففي نهاية السنة الجارية يكون لبنان دفع نحو 12 بليون دولار خدمة دين في سبع سنوات، وبلغ حجم دينه كما ذكرنا 21 بليون دولار. ولن ندخل هنا في سرد أرقام بات الجميع يعرفها. وقف الهدر، ترشيد الانفاق، تفعيل الجباية، الإصلاح الإداري... كلها عناوين جيدة، ولكن تبقى الآلية ومعها التطبيق. اعتمدت الحكومات السابقة خيار المساومة مع الفاعليات السياسية على أساس وحسب رأيهم ان المساومة وانجاز 50 في المئة من المطلوب أفضل من الانتظار وعدم فعل أي شيء حتئ تتم حلحلة العقد التشريعية والبيروقراطية ونقض الادارات. الوضع الحالي لم يعد يحتمل مثل هذه المساومات ويجب نفض الجرح ومعالجته فوراً. ومن المؤكد ان العهد الحالي واعٍ تماماً لهذا الواقع. من هنا تأتي أهمية الخطة الخمسية التي لن تكون فقط عناوين رنانة وانما ذات منهجية وآلية جديدتان للخروج من الأزمة. ومن هنا ايضاً تأتي ضرورة انفتاح الحكم بطريقة شفافة وموضوعية على القطاع الخاص والقطاع المصرفي والعكس صحيح، فكل سياسي وتاجر وصناعي ومصرفي ومحامي وطبيب وحانوتي وموظف مسؤول وطنياً للمساهمة في هذا الأمر وإلا كانوا مجتمعين على التدهور إذا ما حصل. لبنان اليوم غير لبنان السابق المدلل، وهو ينافس أخوياً ضمن محطة العربي، فسوقه المالية تتنافس مع سوق القاهرة. وسياحته تتنافس مع سياحة دبي وتصديره الانتاجي حتى الزراعي منه يتنافس مع دول عربية كثيرة. في هذه الأطر جميعاً وضمنها، تندرج أهمية الدعوة السورية أخيراً الجميع الى التهدئة، وفصل الوضع المالي عن السياسة وإدراك المسؤولين في لبنان وسورية حساسية الأوضاع وان ترابط الأمنين المالي والسياسي هو الضمانة الأولى للشروع في عمليتي الاصلاح المالي والاداري. يبقى على الحكم الحالي تأمين الاجواء الملائمة وايجاد الفريق المناسب للقيام بهذه المهمات المذكورة في الخطة الخمسية واهمها: تحويل القطاعات الخدماتية العامة الى شركات عامة تتبع نظام الشركات وقانوني التجارة الى ان يتم تخصيصها بأسعار أفضل، ووقف النزف في الكثير من مؤسسات الدولة، واصلاح ضريبي واداري شامل... ويأمل الجميع أنه اذا ما نجح العهد في تحقيق أهداف الخطة الخمسية، والتي سيكون أهم نتائجها اعادة هيكلة المديونية العامة وتخفيض حجم الدين العام، ان ينطلق لبنان لينضم الى مجموعة الأسرة العربية والدولية بدم جديد. * خبير مالي ومصرفي لبناني.