شهد الاقتصاد اللبناني تطورات ايجابية عدة في الاعوام الاخيرة اذ تمت اعادة بناء البنى الأساسية ووضع الأسس الكفيلة بتمكين القطاع الخاص من زيادة نشاطه باطراد بما فيها وجود نظام ضريبي يعتمد معدلات متدنية عشرة في المئة، وحرية تحويل الأموال وعدم التمييز بين المستثمر المحلي والاجنبي وحماية الدستور للملكية الفكرية ووجود قانون صارم للسرية المصرفية، وسياسة نقدية مستقرة ومصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية أثبت قدرته على توفير رقابة فعالة للقطاع المصرفي وحافظ على استقرار الليرة اللبنانية. كما ان الدعم المالي القوي الذي يقدمه المواطنون والمغتربون اللبنانيون والذي انعكس في نجاح السندات التي اصدرتها الحكومة اللبنانية في الأسواق العالمية ساهم في ما يتمتع به لبنان من استقرار نقدي. وبدأ قطاع الخدمات في اكتساب زخم يضمن له دوراً رئيسياً في حركة النمو المستقبلية وتراجعت معدلات التضخم والفائدة الاسمية وارتفع احتياطي العملات الاجنبية ليصل الى 6.5 بليون دولار بنهاية عام 1998. كذلك نجح لبنان في مواجهة عواصف العام الماضي، فلم يتأثر كثيراً بالأزمات المالية التي أصابت الاقتصادات الناشئة وتخطى عوامل عدم اليقين في المرحلة الانتقالية التي سبقت انتخاب العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية، كما لم يتأثر بالتغيير الحكومي الاخير الذي شهد خروج السيد رفيق الحريري من رئاسة الوزراء بعد فترة حكم دامت ستة اعوام. وعلى رغم احساس المستثمرين بالقلق ازاء احتمال تأثر الاقتصاد اللبناني بهذه التغيرات، لا سيما وان رئيس الوزراء السابق كان القوة الدافعة وراء الخطط الطموحة التي تبناها لبنان على صعيد الاقتصاد وإعادة الاعمار، الا ان مخاوفهم انحسرت بعد تشكيل الحكومة الجديدة وتأكيد رئيسها الدكتور سليم الحص منح عملية الاصلاح المالي والاداري اولوية مطلقة. لكن مستقبل الاقتصاد اللبناني يبقى مقيداً بالعجز الكبير في موازنة القطاع العام. ففي الاعوام الستة الاخيرة ادت عجوزات الموازنة الى نمو سريع في مديونية الحكومة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وباتت الفاتورة السنوية لخدمة الدين تشكل نحو 75 في المئة من موارد الموازنة ونحو 40 في المئة من اجمالي الانفاق. ويبقى ميزان المدفوعات عرضة للتأثر بالصدمات الخارجية بسبب اعتماده الكبير على تحويلات المغتربين اللبنانيين والتدفقات المالية القصيرة الأجل ذات الطبيعة الهشة. ومع انخفاض معدل اجمالي نمو الناتج المحلي بالأسعار الثابتة الى أقل من ثلاثة في المئة العام الماضي وصعوبة تقليص الانفاق الحكومي عن معدلاته الحالية اذ يذهب الجزء الأكبر من الايرادات لخدمة الدين ودفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام، فان تحقيق المزيد من التحسن في الوضع المالي يتوقف على النجاح في تطبيق خطة شاملة خلال السنوات الثلاث او الخمس المقبلة تتضمن العناصر الرئيسية التالية: الإسراع في تقليص عجز الموازنة واعادة ترتيب الأولويات في ما يتعلق بتنفيذ مشاريع الاعمار المتبقية وفقاً لتوافر التمويل لهذه المشاريع. تعميق دور القطاع الخاص عن طريق التوسع في عمليات التخصيص وتشجيع تنفيذ المشاريع على طريقة البناء والتشغيل ثم اعادة التسليم BOT. الحد من الهدر والقضاء على الفساد وإصلاح الخدمة المدنية وتحسين الجباية الضريبية. وضع حد للارتفاع المتواصل في سعر صرف الليرة اللبنانية والسماح بمرونة أكبر في اسعار الصرف لمنح القطاعات الموجهة للتصدير وقطاع الخدمات ميزة تنافسية. السماح بنظام ضريبي تصاعدي في ما يتعلق بالأرباح اذ ان معدلات الضريبة الحالية محددة بمستوى عشرة في المئة، وإحداث ضريبة مبيعات عامة. تخصيص بعض انشطة القطاع العام التي من شأنها خلق فرص استثمارية جديدة للقطاع الخاص من جهة، وتكون مصدراً للأموال التي يمكن استخدامها في دعم الموازنات العامة وتغطية العجوزات المتراكمة من جهة اخرى. العمل مع المصرف المركزي لإحداث خفض تدرجي في معدلات الفائدة في السوق المحلية، بعد الحد من تفاقم عبء الدين العام، ووضع موازنة الدولة على المسار الصحيح. وأدت الأزمات التي ضربت الأسواق الناشئة الى قيام كل من المغرب ومصر والأردن وقطر بتأجيل خطط لاصدار سندات في السوق العالمية في وقت نجح لبنان في اصدار سندات مقومة بالدولار والعملة الجديدة اليورو تزيد قيمتها عن بليون دولار. وبلغت القيمة السوقية للأسهم المدرجة في بورصة بيروت بحلول نهاية 1998 نحو 2.4 بليون دولار ووصل عدد الشركات المدرجة الى 12، وكان أداء البورصة جيداً عام 1997 اذ ارتفع مؤشر المصرف المركزي للأسهم بما نسبته 46 في المئة، الا ان سوق الأسهم اللبنانية تأثرت عام 1998 بالتطورات السلبية التي سيطرت على غالبية الأسواق الناشئة فضلاً عن ارتفاع معدلات الفائدة على السندات الحكومية. وأنهى مؤشر البورصة العام الماضي منخفضاً بنسبة 27.8 في المئة، وبلغ متوسط حجم التبادل اليومي عام 1998 نحو 1.36 بليون دولار مقارنة بنحو 2.61 بليون العام السابق. وأدت السياسة المالية الحازمة التي اتبعتها الحكومة اللبنانية منذ عام 1992 الى تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف وخفض الضغوط التضخمية وعودة النمو الاقتصادي الى معدلات مقبولة، لكنها ادت الى تفاقم اعباء خدمة الدين وارتفاع اسعار الفائدة على الليرة اللبنانية ما اثر سلباً في استثمارات القطاع الخاص. ومن شأن تبني السياسات المالية الاكثر توازناً وكذلك الاصلاحات الهيكلية المطلوبة زيادة الثقة بالسوق المحلية وتشجيع الاستثمار وتحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل اضافية. ولا بد للسلطات اللبنانية من الاسراع في اعطاء اجزاء كبيرة من برنامج اعادة الاعمار الى القطاع الخاص ليقوم بتنفيذها على طريقة "بي. او. تي" ودعم التقدم الذي امكن تحقيقه اخيراً على صعيد تعميق وتوسيع تجربة اسواق المال والمضي قدماً في خفض اسعار الفائدة في السوق المحلية والعمل بسرعة على استكمال مشروع الاصلاح الاداري. وكان أداء المصارف اللبنانية على مدى الأعوام الاخيرة جيداً اذ حققت واحدة من اعلى مستويات الربحية في المنطقة، الا ان نسبة كبيرة من دخلها تأتي من الفائدة المرتفعة على السندات الحكومية التي استثمرت بها بشكل مكثف. ففي نهاية عام 1998 بلغت حصة سندات الخزينة نحو 28 في المئة من أصول النظام المصرفي اللبناني ونحو أربعة اضعاف اجمالي رؤوس أمواله واحتياطاته. ومع انه لا يتوقع ان تعجز الحكومة عن سداد قيمة السندات المصدرة الا ان هناك احتمالاً ان تتأثر ربحية المصارف سلباً اذا ما نجحت الدولة في تقليص الهامش بين عوائد السندات الحكومية وكلفة الودائع للمصارف. ولم يحدث هذا عام 1996 والنصف الأول من 1997 حين انخفضت عوائد السندات، اذ تمكنت المصارف من خفض كلفة الودائع لديها بنسبة موازية. وخلال عام 1998 زادت المصارف من استثماراتها في سندات تصدرها الحكومة اللبنانية، اذ انها اضافة الى شراء سندات صادرة بالعملة اللبنانية قامت ايضاً بالاستثمار في سندات اليورو دولار التي اصدرتها الحكومة في اسواق المال العالمية، ويقدر ان تكون المصارف اللبنانية اشترت نصف السندات التي تم طرحها في اصدارين متزامنين في نيسان ابريل بمبلغ 500 مليون دولار، علاوة على ثلثي الاصدار المطروح في ايلول سبتمبر بمبلغ 350 مليون دولار. ويعود انفتاح شهية المصارف اللبنانية على الاصدارات المشار اليها الى توافر فائض في السيولة الاجنبية لديها. وعوضاً عن اقراض هذه الاموال للقطاع الخاص ودعم النشاط الانتاجي في البلاد فضلت استثمارها لدى الحكومة لتمويل العجز لترفع بالتالي من خطورة انكشافها لأحد أكبر الدائنين لديها. وأدى الاقتراض الداخلي والخارجي بهدف تمويل العجز في الموازنة الى تراكم الديون الداخلية فأصبحت في نهاية 1998 تعادل نحو 80 في المئة من اجمالي الناتج المحلي فيما ارتفعت نسبة عجز الموازنة للناتج المحلي الى 24 في المئة عام 1997 قبل ان تتراجع الى 14 في المئة عام 1998. وهناك في اوساط السياسيين وصناع القرار اليوم اجماع على ضرورة خفض عجز الموازنة وتقليص عبء خدمة الدين والسيطرة على معدلات التضخم وتمكين الاقتصاد من تحقيق معدلات النمو المستهدفة. وفي حال نجحت الحكومة في خفض عجز الموازنة وتوسيع قاعدة الدخل العام ليشمل عمليات التخصيص المدروسة وادخال نظام ضرائبي اكثر عدلاً، فان هذا سيدعم بقوة الثقة في مستقبل الاقتصاد اللبناني وسيتيح للمصرف المركزي ان يقلص الفائدة المحلية في شكل تدرجي من دون ان يؤدي ذلك بالضرورة الى حدوث تراجع في سعر صرف الليرة اللبنانية. وسينتعش الاستثمار في اسواق السندات والأسهم اللبنانية. غير ان عملية تخصيص المرافق العامة والمؤسسات المملوكة من القطاع العام كشركة الطيران الوطنية وشركة الاتصالات والكهرباء وكازينو لبنان وغيرها، ينبغي ان تسبقه اعادة هيكلة لهذه المرافق والمؤسسات، لتخضع لمعايير الانتاجية والربحية التي تُراعى عادة في قرارات الاستثمار الخاص. واعادة الهيكلة هذه تتطلب تسعير الخدمات كالكهرباء والمياه والهاتف مثلاً بسعر السوق او السعر الذي يعكس الكلفة ومستوى معيناً من الربحية، كما انها قد تتطلب خفض عدد العاملين في هذه المرافق. ولا يزال هناك تردد من قبل البرلمان والحكومة في اتخاذ القرارات الصعبة في هذا المجال. ولعل من المفيد التذكير بأن رفع أسعار الخدمات العامة وخصوصاً الكهرباء في هذه المرحلة، سيؤثر سلباً ايضاً في النشاط الخاص في قطاعات عدة ومنها الصناعة والخدمات، وهو عكس ما تتطلبه جهود تشجيع القطاع الخاص. وعلى أي حال، فإن الحكومة في سعيها وراء التخصيص كوسيلة للخروج من مأزقها المالي يجب ان تعطي اهمية كافية لبعض المحاذير الأساسية لهذه العملية. فهل ستؤدي مثلاً الى نشوء امتيازات في القطاع الخاص وترسيخ قوة بعض كبار رجال الأعمال على حساب المجتمع ككل؟ وماذا ستكون ردود الفعل الاجتماعية والسياسية في هذه الحالة، خصوصاً وان التخصيص قد يرافقه، كما سبق ذكرنا، ارتفاع في الأسعار وزيادة في معدلات البطالة. أليست هناك حاجة لانشاء مؤسسة رقابية او مجلس اعلى للتأكد من عدم نشوء او تمادي الامتيازات. ومع اتباع سياسة مالية تقشفية هذه السنة والانخفاض المتوقع في تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والاستثمارات المباشرة خصوصاً من دول الخليج سيكون لهذه العوامل تأثير سلبي على معدل النمو الاقتصادي اذ يتوقع له ان يتراجع الى نحو اثنين في المئة عام 1999. وفي ضوء هذه الخيارات يتبين ان ليست هناك حلول سهلة لمشكلة المديونية والعجز المرتفع والمتواصل في الموازنة، فلبنان يواجه مرحلة تأقلم صعبة يعتريها الكثير من العقبات والمحاذير والأهداف المتناقضة، لذلك لا بد من ارسال رسالة واضحة الى الاسواق والمستثمرين بأن الدولة جادة لمعالجة العجز في الموازنة ووضع حد للمديونية المرتفعة وانها ستضع موضع التنفيذ خطة تظهر كيفية تحقيق هذا الهدف خلال السنوات القليلة المقبلة، وهذه قد تكون الفرصة الأخيرة للحفاظ على الاستقرار النقدي في البلاد. * كبير الاقتصاديين وعضو منتدب، مجموعة الشرق الأوسط للاستثمار MECG.