المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تدهور الاسواق العالمية الاخطر منذ الحرب العالمية الثانية . الافراط في العولمة وتحرير الاسواق والاقتراض وراء الازمة الاقتصادية
نشر في الحياة يوم 08 - 10 - 1998

يمرّ العالم حالياً بأسوأ ازمة مالية منذ الحرب العالمية الثانية. ويختلف الكثيرون حول ما اذا كانت قد بدأت فعلاً ام انها في مرحلة التكوين. كيف بدأت الازمة الحالية وهل من امكان لاحتوائها؟ وما هي الدروس التي سيتعلمها الجميع منها؟ وإذا فشلت الدول الصناعية الكبرى من احتوائها، فما هي المضاعفات لذلك؟
بدأت الازمة في تايلند نتيجة انهيار القطاع المصرفي الناجم عن اقراض القطاع الخاص من دون قيود، وانتقلت الى اندونيسيا وماليزيا وكوريا والفيليبين وهونغ كونغ. وهذه الأخيرة حافظت حتى الآن على سعر الصرف فيها. ونجت الصين الشعبية من حملات المضاربين بسبب عدم انفتاح اسواقها المالية.
وتعاني اليابان من أسوأ ركود اقتصادي منذ خمسين عاماً، فالمصارف اليابانية شبه منهارة بسبب سياستها الاقراضية في الاسواق الناشئة خصوصاً الدول الآسيوية اضافة الى سوقها المحلية. وتقدر الديون المشكوك بتحصيلها بپ800 بليون دولار اي ما يساوي مجموع رأس مال المصارف مجتمعة. وتجدر الاشارة الى أن الوضع السيئ في اليابان لا يشكل انعكاساً لوضع دول جنوب شرق آسيا فهو نتيجة سوء الادارة والرقابة الذاتية والحكومية، اضافة الى الترابط القوي بين المحاور السياسية والقطاع الخاص، الى درجة ان المصارف كانت تقدم قروضاً الى الكثير من الشركات من غير التدقيق والاهتمام بوضعها المالي.
ولا تزال الازمة المالية تعصف بآسيا منذ سنة ونصف، وانضمت اليها روسيا حيث خسر المستثمرون نحو 200 بليون دولار في اربع سنوات فقط. ولجأت موسكو أخيراً الى اغلاق الباب على اصحاب الاموال وفرضت اعادة جدولة ديونها المستحقة على 3 و4 و5 سنوات متتالية وبالعملة المحلية الروبل. واصبح صعباً على المستثمرين الأجانب استرداد اموالهم. ومع ان الاقتصاد الروسي لا يوازي بالحجم اقتصاد ولاية اميركية، الا ان انهياره خصوصاً بعد الذي حصل في آسيا، ادى الى انتقال العدوى وفقدان الثقة في اسواق المال لاقتصادات سليمة في اميركا اللاتينية. ونتيجة ذلك انخفضت اسعار الاوراق المالية من اسهم وسندات بنسبة تزيد على 50 في المئة، وفي بعض الحالات 70 في المئة كما في فنزويلا. والمؤسف ان اميركا اللاتينية مؤلفة من كتلة دول اعتمدت على اعادة هيكلة اقتصاداتها منذ اواسط الثمانينات وجذبت استثمارات خارجية ضخمة خصوصاً من الولايات المتحدة وأوروبا ساعدتها على تحسين انتاجها حتى غدت تشكل اكبر مجموعة انتاجية بعد مجموعة الدول السبع، فالبرازيل مثلاً تعتبر ثامن اكبر اقتصاد في العالم.
ومن غير ان نتطرق الى التقنيات الخاصة بالوضع المالي في البرازيل يمكن القول اليوم ان هذا البلد يعتبر ميزان الاختبار لاستمرار الاسواق التمويلية Capital Markets او انهيارها بالكامل والتسبب في ازمة مصرفية عالمية، ذلك ان انهيار نظامه المالي بسبب عجزه عن ايجاد مصادر تمويل جديدة واضطراره الى اغلاق حدوده المالية كما حصل في روسيا، فسيلحق به جميع دول اميركا اللاتينية بلا استثناء.
وانتقال الأزمة المالية الى هذه الدول التي تشكل 27 في المئة من سوق التصدير للولايات المتحدة سيؤدي الى حصول ركود اقتصادي في أميركا التي بدأت تشعر الآن بمضاعفات الازمة الآسيوية.
وتتمتع الولايات المتحدة بفورة اقتصادية وارتفاع في الاصول المالية لم تشهدها منذ 29 عاماً. لكن الخوف من ركود اقتصادي في هذا الوقت قد يعود الى انه خلال السنوات العشر الماضية أصدرت المصارف الاميركية سندات لشركات بفوائد مرتفعة بسبب قلة نسبة رأس المال Leveraging. وهذه الشركات تعتمد على نمو مستمر في الاقتصاد وبالتالي في ايراداتها لخدمة الديون، لذلك فإن الركود الاقتصادي المحتمل نتيجة ازمة مالية في اميركا اللاتينية قد يتسبب في افلاس عدد كبير من الشركات الاميركية المدينة بنسب عالية على رأسمالها. ما قد يتسبب بكارثة مصرفية اميركية تنعكس سلباً على الساحة المالية العالمية.
لذلك يجب المحافظة على الاستقرار المالي في البرازيل وعدم دفعها الى خفض عملتها ووضع قيود على تحويل العملات الاجنبية. ذلك ان البرازيل خسرت نحو 20 بليون دولار أخيراً اي نحو بليون دولار يومياً نتيجة خروج الرساميل منها خوفاً من ازمة مالية محتملة. وانخفض احتياطها من العملات الصعبة الى دون الپ50 بليون دولار بعد ان وصل الى 76 بليون دولار.
ما سبب الأزمة الحالية اذن وكيف يمكن معالجتها؟
هناك ثلاثة عوامل وتطورات خلال الأعوام العشرة الماضية أدت الى الوضع السيئ حالياً وهي: العولمة السريعة بالمفهوم الاميركي والتحرير من القيود في الاسواق المالية، والاقراض غير المسؤول، وسنعالج كلاً من هذه العوامل على حده.
أ - العولمة السريعة:
غدت العولمة أخيراً مفهوماً مسلّماً به. وأصبح الكثيرون من السياسيين ورجال المال يعتقدون أنها أمر لا مفر منه. وعملت الولايات المتحدة على فرص العولمة على طريقتها وبمفهومها لغرض تخفيف الضغط عنها لانقاذ العالم الثالث إذ انها اعتقدت ان العولمة ستساعد على دخول الرساميل الى الاسواق والاقتصادات المحتاجة في العالم المتطور والثالث مما سيساهم في تحسين الدخل الفردي وارتفاع المستوى المعيشي لتلك الدول. وهذا يعني الاستغناء عن دور الولايات المتحدة لضخ اموالها في نقاط التوتر الاقتصادي في العالم واستبداله برساميل دولية. وتمادت الولايات المتحدة في فرض مبدأ العولمة باستعمال نفوذها في صندوق النقد الدولي واصبح واضحاً اليوم انها اساءت استعمال هذا النفوذ عن طريق معاقبة من لا يلتحق بالعولمة وتطبيق مطالب صندوق النقد، معتبرة ان العولمة ستحل مشكلة انتقال التكنولوجيا او معالجة البطالة والفقر تلقائياً.
وأصبح واضحاً اليوم ان هذه النظرية فشلت، وهناك مطالبة اليوم بعودة القيود على حركة الرساميل حتى ان ماليزيا اخذت قراراً بهذا الشأن ففرضت قيوداً على المصارف الاجنبية بالنسبة الى عملتها بعدما ثبتت سعر الرينجت على 3.80 للدولار. اي انها خرجت من نظام العولمة، ويرجح ان تكون هناك دول عدة قد تضطر الى اخذ الاجراءات نفسها اذا فشلت في الدفاع عن عملاتها والحد من خروج الرساميل منها، كالبرازيل وفنزويلا وبعض دول الشرق الأقصى.
وتبين ان العولمة ونظام السوق الواحد لم يحل مشكلة روسيا بعد نهاية الشيوعية. كما انه لم يأت بجديد على صعيد الاستثمار وتخفيف الفقر والمرض عن القارة السوداء. بل على العكس أدت العولمة الى انخفاض حاد في اسعار المواد الأولية التي تنتجها الدول المحتاجة الى درجة لم تشهدها سابقاً، مما ضاعف الضغوط على الاوضاع المالية لتلك الدول، ناهيك من ان العولمة كانت وما تزال السبب الرئيسي وراء محاولة الكثير من دول العالم الثالث اللحاق بالتطور في الدول الصناعية في وقت ضيق وبكلفة عالية مما اوقعها في نتائج عكسية قد تؤدي الى اندلاقها للداخل من جديد.
ب - تحرير الاسواق المالية من القيود
أدت دعوة الولايات المتحدة ووراءها بريطانيا الى العولمة، الى تسابق الدول الناشئة على فتح اسواقها المالية بعد انضمامها الى منظمة التجارة الدولية اسوة بسوق نيويوك ولندن في الثمانينات. وصدرت دعوات عدة للمتقاعسين مع تهديدات مبطنة فحواها أن عدم تحرير الاسواق من القيود المختلفة قد يحجب بلايين الدولارات عن الدخول الى تلك الاسواق.
وبفضل تلك الدعوات فتحت الاسواق المالية أبوابها في دول عدة صغيرة وكبيرة على حدّ سواء. ووصل حجم الرساميل التي اقبلت على الاسواق الناشئة الى 247 بليون دولار في سنة 1997.
وبدأت الانعكاسات السلبية للانفتاح السريع تظهر في اواخر 1997 مع بروز ازمة شرق آسيا. فقد بات واضحاً ان سبب الانهيار المباشر لأسواق الدول الآسيوية كان المضاربة على عملاتها والذي اصبح ممكناً بسبب تطوير الاسواق المالية فيها، واتاحة الفرص أمام المستثمرين الاجانب للمضاربة. وبدأ التأثير السلبي لذلك واضحاً إذ انخفضت كمية الرساميل الى 186 بليون دولار، ومن المتوقع ان لا تزيد عن 90 بليون دولار في 1999. ويتفق الخبراء اليوم على ان تحرير الاسواق السابق لأوانه هو احد اسباب الازمة الحالية. هذا التحرير الذي سمح لدول وشركات بالاقتراض المفتوح ودخول الرساميل وخروجها بالسرعة نفسها والتسبب في الانهيارات التي نشهدها. فماليزيا وهونغ كونغ وتايلاند وأندونيسيا وروسيا واكثر الدول التي تأثرت سلباً في الاشهر الاخيرة لها قاسم مشترك: وجود مشتقات مالية كالعقود والخيارات والصفقات الآجلة في اسواقها DERIVATIVES.
وإذا ما قارنا تلك الاسواق بالاسواق المالية العربية نجد ان غياب العنف المالي هو الذي وقّى الاسواق العربية من الازمة المالية.
ويجب عدم الاغفال عن دور المصارف الاستثمارية والصناديق في التدهور الحاصل. فالمصارف الاستثمارية اصبحت لاعباً رئيسياً تصدر نشرات اسبوعية عن العملات المحلية في الاسواق الناشئة وتعطي توصيات بشراء عملة معينة مقابل بيع عملة اخرى، وتأخذ مراكز مالية مضاربة لحسابها في تلك الاسواق. وكذلك حال الصناديق الاستثمارية كجورج سوروس وغيره، والتي اصبح حجم مضاربتها يساهم في رفع او انهيار عملة معينة.
اذن الانهيار الحاصل في العديد من الدول نتيجة العولمة وتحرير الاسواق هو الذي يدفعها اغلاق حدودها المالية مرة اخرى حتى انه هناك دعوات جريئة للامتثال بمحمد مهاتير لوضع قيود على حركة الرساميل وتثبيت سعر الصرف بعد ان اتهم هذا الرجل بعدم التماشي مع عصر العولمة.
ج - الاقتراض المضاعف LEVERAGING:
مفهوم الاقراض هنا او التسليف المضاعف هو ان تتوفر تسهيلات ائتمانية للمستثمرين تفوق اضعاف رأس المال الذي يجازفون به حتى وصلت النسبة في بعض الاحيان الى 1.20. والمقترض قد يكون فرداً او شركة او دولة، وكان معظم الدول المدينة حالياً لا يرجو يوماً الاقتراض من الاسواق العالمية. ولكن في الأعوام الخمسة الماضية تزاحمت المصارف الاستثمارية مع بعضها البعض للفوز بعقد ادارة اصدار سندات هذه البلدان بفوائد متدنية جداً، ودخلت في مجموعة الدول المقترضة حديثاً دول مثل الاكوادور والتشيلي والبيرو وكولومبيا وباناما وكرواتيا وأوكرانيا وكازاخستان ولبنان وتونس والمغرب وقطر وتايلاند وأندونيسيا وماليزيا والفيليبين وكوريا الجنوبية.
وعلى صعيد الشركات أصبح مندوبو المصارف الاستثمارية يجولون الاسواق الناشئة متصلين حتى بالمزارعين او معامل السكر او شركات تأجير السيارات عارضين عليهم ترتيب قروض للتوسع في اعمالهم. ولم يكن في حساب اصحاب ومدراء تلك الشركات الاعتماد على الاقتراض. ولكن مع انفتاح الاسواق والعولمة ادخلت المصارف الطمع في نفوسهم حتى انهم صدقوا أن العالم أصبح كتلة واحدة وأنه من الضروري التوسع للمحافظة على موقع فيه.
لكن للأسف، ما لم يحسبه الكثيرون هو ان معظم هذا التسليف جاء من مستثمرين يبحثون عن العائد المرتفع من غير مخاطرة، وعند ظهور بوادر الازمة المالية، بدأ اصحاب السندات البيع مما احدث انهياراً في الأسعار لم تشهده الاسواق منذ نشأتها، وأخطر ما في الامر ان العوائد على السندات بالاسعار المتدهورة ستضع الشركات او الدول في وضع يكاد يستحيل معه الاقتراض مرة اخرى عند استحقاق السندات السابقة. وبالتالي الحرمان من التسهيلات المصرفية التي تمكنها من الاستمرار وهذا بدوره سيؤدي الى ازمة نقد CASH FLOW لعدم وجود رأس مال تشغيل OPERATING CAPITAL ما يؤدي الى انهيارها كما حصل في اندونيسيا مثلاً. وهناك العديد من المصانع والشركات السليمة في كثير من دول الاسواق الناشئة، التي ستنهار نتيجة تقلّص التسليف.
والشركات او الدول الضعيفة هي التي تقع في مطبات كهذه لأن للدول الكبيرة حكومات قادرة على اتخاذ اجراءات فورية لمنع التدهور كما حصل في بريطانيا مثلاً في 1990 - 1992 عندما حصلت شبه أزمة مصرفية نتيجة اقراض المصارف القوي في سوق العقارات، لكن تدخل الحكومة البريطانية منع تفاقم الوضع في حينه.
ويذكر ان سوق الاقتراض افسدت شركات ودولاً عدة. ذلك ان اكثر هؤلاء اعتمدوا خدمة الدين من غير اعتبار سد القرض عند الاستحقاق. إذ ان اغلبهم كان وما زال يعتقد ان الدين يمكن تسديده عند الاستحقاق عن طريق اصدار قرض جديد، كما لو أن مدة القرض أمر رمزي أو كأن القروض حالة ابدية.
ما هو مصير العولمة الرأسمالية اذن؟
هناك شبه اجماع اليوم بعد الذي تعرض له المستثمرون والمصارف الاستثمارية كمقرضين من جهة، وما تعرضت له الدول والشركات كمقترضين، ان النظام الرأسمالي انتهى الى أمد غير منظور، وأصبح المطلوب اليوم ايجاد صيغ لاحتواء الازمة الحالية الى ان يتم ايجاد نظام مالي جديد كبديل عن نظام السوق الحالي.
وصدرت اقتراحات عدة من خبراء عالميين في هذا الاطار كان آخرها من اوسكار لافونتين المرشح لمنصب وزير المال في المانيا ومن دومنيك شتراوس وزير المال الفرنسي اللذان أشارا الى ان الازمة الحالية دلت على انه ليس من السهل اعتماد اقتصاد السوق بسرعة وان محاولات روسيا وكوريا وتايلاند وماليزيا كانت كمن يحاول السباحة في بركة ماء بارد جداً. ومن الافضل اعتماد التحول المنظم مع التركيز على الاصلاح والشفافية والمعلوماتية.
ويلاحظ انه في السنوات الاخيرة طرأ تحول على الكثير من اقتصادات العالم التي أصبحت خدماتية بعدما كانت انتاجية مما ادى الى اعادة تعريف للقيمة Value إذ تضاعفت قيمة العديد من الاصول بسبب تغيير مفهوم الربحية، وأصبحت اسهم الشركات تتداول على اساس الربحية السنوية، ومستقبل الربحية كما هو الحال في اسهم شركات التكنولوجيا، ساهم في ارتفاع ضغط المضاربة على الاسواق بايجاد قيم ورقية للشركات. وارتفاع هذه القيم أو انخفاضها يتعلق نسبة الثقة عند المستثمرين، لذلك بات من الضروري وضع خطة دولية للتخفيف من سلبيات التحول من الانتاج الى الخدمات، من دون الاستخفاف بدور الاخيرة، لكن مع العودة الى تعريف للقيمة مقابل اصول ملموسة.
ومن الحلول المطروحة او الدروس المستلهمة من الوضع الحالي ضرورة فرض قيود تتعلق بالاقتراض على المؤسسات والشركات المحلية، بحيث ان لا تكون عرضة لمخاطر الاقتراض القصير الاجل في حال خروج الرساميل من البلد. وهنا يجب على السلطات الرقابية في الاسواق الناشئة فرض اذونات مسبقة على المقترضين محلياً ودولياً، وتقديم بيانات تعلل الضرورة، وعلى الهيئات المالية ان تقرر في ضوء وضع الخزينة العام ونسبة الاحتياط الاجنبي فيها ما إذا كانت ستسمح بهذا الاقتراض ام لا.
وكما هو الحال للاقتراض، يجب على الهيئات الرقابية في الدول الكبرى اعادة النظر جذرياً في تركيبة وممارسة المصارف الاستثمارية فيها والتي كما ذكرنا لعبت دوراً كبيراً موازياً لدور صندوق النقد الدولي في تفاقم الازمة. فتلك المصارف مدفوعة بالطمع وبزيادة ارباحها السنوية وارتفاع ارقام موازناتها طرحت البلايين من السندات للاكتتاب من غير الالتفات الكافي لنوعية وصدقية المقترضين من جهة، ومن غير تنمية مواردها المالية في التداول وبنيتها الاساسية لاستيعاب تقلبات تؤثر في اسعار الاصول المالية كما حصل أخيراً.
فالمطلوب اذن احياء دور المؤسسات الرقابية الحكومية وتفعيلها وتقليص حرية القطاع الخاص من مقرض ومقترض في تكوين الاسواق المالية. وإلا، ستكون النتيجة انغلاق الاسواق بعضها على بعض والإفلاسات الضخمة التي قد تسبب انهيارات عالمية، ولم يعد سيناريو أزمة 1929 الاميركية مستبعداً على مستوى عالمي هذه المرة. ومن بين الاقتراحات لعدم اطالة الازمة الحالية لسنوات، أن تعمد المؤسسات المالية والصناديق بتغطية من الحكومات الى تخفيف مطالبتها بالديون عن طريق السماح بجزء منها وتحويل جزء آخر الى اسهم، والا ستبقى شريحة كبيرة من المقترضين تترنح تحت طائل الدين لسنوات عديدة يصعب خلالها النهوض باقتصاداتها.
ولا يتوهم احد ان هناك حلولاً سريعة يمكن اعتمادها لأي دولة تتخبط اليوم ضمن هذه الازمة. فالمحافظة على سعر الصرف برفع الفوائد القصيرة المدى لا جدوى منه، كما رأينا في امثلة سابقة. بل على العكس فالمستثمر يشعر بعدم الثقة في مناخ استثماري عالي الفوائد وقد يستعجل الخروج برأسماله.
من جهة اخرى، يعتبر اغلاق الحدود ووضع القيود على الرساميل كما حصل أخيراً في ماليزيا، لا يفي بالغرض لأن ذلك يسرع الركود الداخلي ويزيد البطالة ويسبب حالاً من اليأس يصعب على السلطات السياسية معالجتها، ناهيك عن الخوف من ان تمتد هذه الممارسات الى دول أخرى.
إذن الانفتاح او الانغلاق الكامل لا يشكلان حلاً. وكذلك اللجوء الى اجراءات فورية لرفع الفوائد للحد من هبوط العملة او خروج الرساميل قد تتسبب في ضرر قوي على المدى البعيد ولو ساهمت مرحلياً في تجميد الوضع، ويجب على الدول الناشئة ان تدير عملية انكماشها بطريقة سليمة، والعودة الى داخل حدودها ولكن بلباقة ودراية. وهذا يتم عن طريق الخفض التدريجي للعجز في الموازنة السنوية والحد من الاقتراض الداخلي أو الخارجي الى ان يتم خفض الدين العام. وقد تتصاحب هذه الاجراءات مع ركود نسبي يمكن ادارته.
هكذا يمكننا الحفاظ على النظام الرأسمالي في شكل نسبي بعدما افلتت العولمة من كل عقال، وإذا فشلت الرأسمالية بعد انهيار الشيوعية سيكون من الصعب ايجاد بديل.
فتحدي العولمة الرأسمالية يكمن في اجرائها المصالحة بين الضغوط التنافسية للأسواق العالمية وبين حاجات التناسق الاجتماعي. والتقنيات التي تسوق الاقتصاد الكوني لها شروط كثيرة ومعقدة ولم نبدأ حتى الآن بفهمها وتلمس جوانبها، كما أن المؤسسات التي تراقب مخاطرها الجانبية أو توازنها لا تزال مفقودة.
أما الطريق الثالث الذي دعا اليه رئيس الحكومة البريطانية توني بلير فليس سوى مشروع مستقبلي لم تتضح ملامحه بعد.
* خبير مصرفي ومالي ومستشار محافظ استثمارية في لندن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.