"ذلك أنَّ الأبيات أبيات الشعر ليست صنيع المشاعر، ... بل هي صنيع التجارب المعيشة". غير أن الشاعر ومؤلف "دفاتر مالته لوريدز بريغّه"، راليز ماريا ريلكه 1875 - 1926 يضع على لسان الشاعر الشاب بريغه عبارة قد تكون نقيض العبارة، فهذا الأخير يرى أنه "يكفي أن تكون لك ذكريات" لتصبح شاعراً، بل الأحرى أن "تقدر على نسيانها". ونسيان الذكريات يجعل الحياة ابتداءً مستديماً ما يحيل خبرها، في الأغلب، الى حيّز الإغفال أو التغافل. رالف فريدمان، الأستاذ الجامعي والمختص بالأدب الألماني، والمترجم، لم يأخذ بوصيّة الدفاتر، كما لم يأخذ بتوصيات "النقد الحديث" آل على نفسه وعلى آلته أن "يقصي عناصر السيرة" عن أي قراءة محتملة للنص، وكرّس فريدمان إذاً عقداً من زمنِ بحثه وعمره لينجز "ترجمة" لحياة راينرماريا ريلكه "ريلكه: حياة شاعر" التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن دار نشر أكت سود بالتعاون مع الناشر "سولان" باريس. نكث رالف فريدمان بالوصية وأخلَّ بها، معلِّقاً شروط السجال: سانت بوف/ مرسيل بروست" كومبانيون/ جينيت، متذرعاً بما اعتبره قرينة لا تدحض على "اتصال" السيرة بنتاج الكاتب المعنيّ" فكانت التسوية التي اقترحها، وهو الأستاذ والناقد، تنطلق من أن كتابة السيرة "ممكنة" إذا كانت وفقط إذا كانت ترجمة للأنا العميقة الغور في تجلياتها المكتوبة أو المعيشة على حدٍّ سواء" وبالفعل جمع فريدمان في تقصّيه جوانب سيرة ريلكه بين الخبر والوثيقة والرسالة وشهادات الأقارب والأصدقاء وبين قراءة متأنية، وفي أحيان كثيرة، حاذقة للنصّ وكانت النتيجة نحو 900 صفحة من الحجم الكبير، بحسب الترجمة الفرنسية، هي رحلة ممتعة في "عالم" ريلكه الذي يبدو، في العادة، مستغلقاً على القارىء العادي. كتب رالف فريدمان "مسودّة" لروح ريلكه، كما يقول بول فاين في وصف "السير" أو "اليوميات" أو "الاعترافات"، والفارق هنا أن هذه المسودة جمعت بين صورة الشاعر كما صنعها لنفسه وبين الصور التي صنعها آخرون له، ولم يتمّ تظهير الصورة الأخيرة موقتاً عبر توليف قسري، بل عبر دمج تلقائي، فلم تبدُ متآلفة، متطابقة، على أحسن ما يكون عليه الاتساق، بل جاءت متناقضة، متنافرة وعلى جانب من الشقاق الغامض. وفي زعم رالف فريدمان أن شقاق الصورة، وعلى الضدِّ ممّا هو شائع، لا يتأتى من صلة الشاعر بذاته أو بالآخرين، بل هو حاصل لبس، جوهري، لطالما لابس صلة الشاعر بشعره، أوّلاً، وصلته بالقارىء. ما يجعل الشروع بتدوين "ترجمة السيرة" أمراً شبه مستحيل إلاّ باعتبار التواطؤ الحاصل بين الشاعر والقارىء، منذ البداية، على إغواءٍ أول في حياة ريلكه، كإنسان وكشاعر، وهو يتمثل بإدراك "شبه استحالة العيش". إذ، على الرغم من ميثاق "شفافية القلوب"، وهو شرط الإنشاء على أوجه، فإن "الأنا" الصميمة تلوذ، دوماً، في بئر عميقة ولا يُعثر على أثرٍ منها إلا مبعثراً في ألف انعكاس خادع. غير أن الميثاق المعلن بين ريلكه والقارىء، على زعم رالف فريدمان، يتخذ شكل الخطط المرسومة بتعرجات حاسمة، ولن يعثر المترجم مترجم السيرة بسلوكه خيط التعاقب الزمني إلاّ على الصورة الشائعة لحياة الشاعر وموته. وبذلك تكون محطات "السيرة" الطفولة، الصبا، سن النضج، الأيام الأخيرة... متقاطعة لا متعاقبة، بتقاطع مسارات التجوال براغ، باريس، فيينا، روما، موسكو... وتعاكس الوجوه كلارا وستهوف، لو اندرياس سالوميه، رودان، تولستوي... في مرايا الخُبْر الذي لا يعقل أن يكون ذاتياً صرفاً أو موضوعياً برانياً صرفاً. إذ ليس من قبيل المصادفة أن يكون ريلكه قد اختبر، وعايش وأدرك في نشأته الأولى مزيجاً من الإحساس بالدونية والنقص الذي يولّد شعوراً باليتم وانقطاع النسب والانتماء فشله في أن يرث "المهنة العسكرية" وألقاب الأسرة، والإحساس بعدم التطابق مع الصورة التكوينية بالتربية التي جعلت منه أشبه بفتاة، أي بالوهم الخنثوي الذي يمنحه هويّة ملتبسة ويحول دون تمام "أناه" في هوية ناجزة" وكل هذا يُجمع الى الإحساس الديني العميق الذي زكّته رحلته المبكرة الى روسيا والذي غلّبت على رؤاه أطياف "الملاك". حول هجنة هذه الأحاسيس والتباسها واصطراعها، يُفرد مترجم السيرة ما يقارب نصف كتبه، مستنداً الى الوقائع الكثيرة والشهادات وقرائن الاستقصاء، ولكن أيضاً الى تحليل الى قراءة وافٍ، وليس بديهياً بأية حال، لنصوص كتبت ونشرت في مراحل حياة ريلكه، الشاعر والناثر المختلفة. يُسهبُ فريدمان، في فصولٍ لاحقة، في مساءلة العلاقة التي قامت بين شاعر "المراثي" وبين امرأة هي لو اندرياس سالوميه، عبر كمٍّ هائل من الرسائل المتبادلة" وعلاقة أخرى بين الشاعر ومدينة هي باريس ونحّاتها هو رودان. وإذا ترجم فريدمان أثر هاتين العلاقتين في حياة ريلكه وأعماله، مال الى الاعتقاد غير جازم بأنهما ترتبطان بنحو إدراك الشاعر والإنسان صورته عبر صورتين صنعتا له بعيني ويدي آخَرَيْن. وليس من قبيل الحماسة أو المبالغة، إذا خلص فريدمان أن وعي ريلكه، المتعثر، لصورته ناجمٌ عن "تحوّلات" الصورتين الأخريين، تلك التي صنعتها سالوميه بإدراك وتصميم تامين، وتلك التي جُبلت بيدي رودان دون قصد أو تعمّد. وبذلك تضاف الى هجنة النشأة الأولى وصورتها الملتبسة، التباسات أخرى لا تعني، على الإطلاق، في تعيين الهوية الواحدة. وكأن القارىء كلما تقدم في سلوك معارج السيرة لم يعثر على الخيط الذي يبحث عنه، بل أوغل في شعابٍ تفترق، وإذا أفضت إنما تفضي الى شعابٍ أخرى" وأدرك أنه في تقليبه صفحات هذه الترجمة لن يعثر على الصورة، بل على الصور وكلّها ممكنة للشاعر الذي أقام مع قارئه ميثاقاً يفترض، منذ البداية"، شبه استحالة الحياة. ثم أن ريلكه لا يكتفي، على زعم فريدمان، بأن يمثل في تعدد الصور والوجهات والأمكنة والوجوه، بل يسحب منطق عدم التطابق هذا الى لغته المنطقية ويقيم على عتبة التعبير المتعدِّد. فهناك اللغة الألمانية و"الأشياء الألمانية" خلال إقامته في براغ حيث هي لغة أقلية" وهناك "الأشياء الروسيّة" ولغتها خلال "إقاماته" المتعددة في روسيا. وهناك "الأشياء الفرنسية" في روحاته وغدواته الى باريس واقاماته المتقطعة فيها. وهناك أيضاً "أشياء الروح" التي طالما أقام فيها متخلّلة إقاماته الأخرى، خارجها. طوبوغرافيا الروح، ليس مقابل بل بالتقاطع مع طوبوغرافيا الأمكنة، وخططها الواقعية أو الممكنة التي يرسمها التجوال. غربة الانتماء وغربة الإقامة، وغربة الحياة الحقّة المعلقة، على الدوام، على حافة المرض سرطان الدم. ألا يكفي هذا العدد من اللغات وهذه كلّها "لغات" لكي يجعل من ريلكه، هو نفسه، خيال شاعر، تنطلق رحلة البحث عنه لا من حقيقة وجوده بل من احتمال وجوده في غمرة هذا التعدُّد الهائل؟ "أليس أبعد ما في لقاء الفن / هو الوداع الأرقّ؟ / والموسيقى: تلك النظرة الأخيرة / التي نَلقي بها نحن الى ذات أنفسنا؟". ربّما، بلى! ليس سعياً لاكتشاف بل للذة السَّعي وراء هذا السعي. ولن يكون الميثاق الذي أنشىء بين ريلكه والقارىء معرضاً لأي خيانة. لأن الترجمة التي وضعها رالف فريدمان لسيرة ريلكه بوصفها "حياة شاعر"، ليست سوى رواية، وقد تقرأ بمتعة كبيرة، على أنها كذلك.