بالقصف او بتسوية، بانفصال اقليم كوسوفو دولة مستقلة عن بلغراد او باستمرار سعيه وراء الاستقلال، بتخلي الجيش عن الرئيس الصربي او بتوسع رقعة الحرب في البلقان، سلوبودان ميلوشيفيتش يجب ان يخرج من المواجهة مهزوماً ومقزَّماً ان لم يكن مكبّلاً لمواجهة محكمة دولية تعاقبه على ارتكاب جرائم حرب. وأي نتيجة اخرى للحزم الذي ابدته اخيراً الدول الاعضاء في حلف شمال الاطلسي، اذا لم تحجّم فكر الزعيم الصربي ونمط سلوكه فانها ستشكل نصراً له. فاذا اكتفى "الناتو" باجراءات لانقاذ صدقية الحلف وسمعته، عبر "توبيخ" ميلوشيفيتش عسكرياً، فان ذلك يساهم في اعطاء الاخير نفساً لاستعادة زخم الحقد ومضاعفة "التطهير الاثني" الذي يتلذذ به ويعتمده سياسة لتحقيق الوطنية الصربية بأسفل معانيها. فالقضية ليست قضية "وطنية" الألبان من اهالي كوسوفو او مبدأ حق تقرير المصير والاستقلال، انها قضية ايقاف تطرف "وطنية" الصرب التي تتحقق على جثث المدنيين لمجرد انهم من عرقٍ او دين آخر. القصف الجوي، كوسيلة دولية لتحقيق الغايات السياسية، ليس فقط أداة خاطئة كمبدأ، وانما هو ايضاً اسلوب فاشل في معظم الحالات استثناءً، في البلقان، بات القصف الجوي الخيار الوحيد بعدما استُهلك خيار الحوار والتفاوض كذلك خيار استخدام العقوبات ورفعها كمكافأة. فعكس الأمر مع بغداد، يستند التعامل مع بلغراد الى الحوار ومحاولات الاقناع لدرجة رجاء ميلوشيفيتش ان يستدرك ويقتنع ويوافق على مقترحات اخذت تطرّفه في الحساب، أكان ذلك في "اتفاقية دايتون" بشأن البوسنة والهرسك او في "اتفاقية رامبوييه" في شأن كوسوفو. المبعوث الايمركي ريتشارد هولبروك لم يكف عن الحوار والترغيب والوعود بمكافآت لحاكم بلغراد، فيما ترفض واشنطن قطعاً اي حوار مع بغداد. وعندما تجاوب ميلوشيفيتش نسبياً مع الأممالمتحدة اسرع مجلس الأمن الى مكافأته بتجميد العقوبات التي فرضت على بلغراد من عام 1992 الى عام 1995، فيما فشل مجلس الأمن حتى الآن في اي اجراء يخفف العقوبات على العراق رافضاً تقويم ما نفذته بغداد لئلا يضطر الى مكافأته. كأن ميلوشيفيتش تعلّم من دروس التعامل الدولي مع الرئيس العراقي صدام حسين ومن اخطاء القيادة العراقية، فتعامل دائماً بمبدأ خذ وطالب، وساوم على الحوافز والمكافأة، وتلاعب بمعادلة العصا والجزرة، وتحايل على الانذارات والتهديدات لفرض امر واقع تلو آخر مستفيداً من كل فرصة زمنية استرقها لتحقيق مآربه. واليوم، وقد طفح الكيل من هيجان ثأره واتخذ حلف "الناتو" قرار وضع حد له، يتوعد ميلوشيفيتش بكلفة غالية على المشاركين في القصف الجوي، وفي ذهنه على الأرجح، اسقاط طائرة اميركية تشعل الهوس الاميركي بعدم تعرض طيار او جندي لأذى فيحقق أمنية يعتقد انها حلم عصى على بغداد وربما لا يعصى على بلغراد. هذا، اذا قرر التصعيد ونفّذ الوعيد بتوسيع الحرب في البلقان الى درجة اضطرار حلف شمال الاطلسي لاعادة النظر… وربما التراجع. لكن ميلوشيفيتش قد يقرر استيعاب ضربات عسكرية محدودة في وقعها ثم يعود الى المساومة لشراء الوقت واعادة خلط الأوراق. وفي هذا الاطار، فان نوعية الضرر الذي يفترض ان يلحقه القصف الجوي بالقدرات العسكرية الصربية، خصوصاً الدفاعات الجوية، سيساهم في نوعية القرار. أمنية "الناتو"، اولاً، تجنب تصعيد الخيار العسكري بموافقة بلغراد على مقترحات السلام التي وقّعت عليها الاطراف الألبانية في كوسوفو ورفضها ميلوشيفيتش. وعند وضوح استحالة ذلك فان الأمنية الثانية ان يؤدي القصف المركز الى تراجع بلغراد واستسلام ميلوشيفيتش للحلول السلمية. في غياب الامنيتين يرجح ان تسفر عن القصف استراتيجية الاحتواء العسكري كأمر واقع… اي ما يشابه ما يجري في العراق، ربما ايضاً بأمنية اسقاط النظام. الناطق باسم وزارة الدفاع الاميركية قال ان هدف عمليات القصف الجوي، الى جانب "تحييد الدفاعات الجوية"، ان تؤدي الى ادراك الصرب انهم ارتكبوا خطأ. ولذلك سيكون القصف مستمراً، بدون توقف او انقطاع الى حين وصول خبر من ميلوشيفيتش بأنه عدل عن تعنته "وهو يعرف ارقام هاتف حلف شمال الاطلسي". وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت تحدثت عن "المصلحة القومية الاميركية" النابعة من ضمان "استقرار" اوروبا لئلا تُجر الولاياتالمتحدة الى القارة الاوروبية مرة ثالثة بكلفة غالية، اشارة الى الحربين العالميتين الاولى والثانية. كما تحدثت عن ضرورة "تدمير" قدرة ميلوشيفيتش على الاستمرار في هيجان ثأره في كوسوفو والبلقان عامة بالغزو والمجازر والاستئساد. اما الرئيس الاميركي فتحدث عن "القيم" التي يعتنقها الغرب عموماً والتي تفرض عليه التعرض لامثال ميلوشيفيتش بهدف اجهاض اساليبه واجهاض اي اعتقاد بأن هذه الأساليب ستمضي بلا عقاب. الشركاء الاوروبيون في حلف "الناتو" توصلوا اخيراً الى موقف موحد في شأن القصف الجوي، والفضل في ذلك يعود الى تعنت الرئيس اليوغوسلافي الذي رد على رسالة من وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، بصفتهما رئيسي مفاوضات باريس، قائلاً: "اما في شأن تهديداتكم بتدخل حلف شمال الاطلسي عسكرياً، فلا بد أن تشعر شعوبكم بالخجل والحياء، لأنكم تعدون العدة لاستخدام القوة ضد شعب اوروبي صغير لأنه يدافع عن اراضيه من الانفصاليين، وعن مواطنيه من الارهاب، وعن كرامته العريقة من الأوغاد الذين لا يعرفون ما هي الأمجاد وأين تكمن الكرامة". اذا كانت للصرب كرامة عريقة وأمجاد فان سيرة ميلوشيفيتش، كما سيسجلها التاريخ، فانه ساهم جذرياً في تلطيخها. فالمجازر ليست في قاموس الكرامة. والتطهير الاثني ليس مجداً سوى للأوغاد. ومهما دافع القائلون بوحدة الاراضي ورفض الانفصالية في تاريخنا الحديث عن التجربة الصربية بالقول انها، شأنها شأن اية "وطنية" مماثلة، في القارة الآسيوية او الافريقية، اعتمدت المجازر والمذابح سياسة، ويجب الا يُسمح لها بأن تكون منتصرة. قد يقال ان مذابح عديدة تقع في افريقيا وبقع اخرى في العالم لا تلاقي عزماً على نسق عزم حلف "الناتو" لايقافها. هذا صحيح. انما هذا لا يبرر التقاعس في احباط هذه الوسائل والسياسات في مكان من دون آخر، ازدواجية؟ لا. فلو كان في المستطاع تفعيل حلف مشابه لحلف الاطلسي في افريقيا او غيرها لكان ذلك امراً جيداً. لكن عدم وجود هذه الامكانيات الا عبر الاطلسي لا يعني ان على حلف الاطلسي التقاعس في التصدي لمثل هذا النمط من السلوك والفكر والسياسات القبيحة. النقاش والحوار في شأن تداخل الاعتبارات الانسانية والاعتبارات الاستراتيجية يتخذان ابعاداً متناقضة في عهد ما بعد الحرب الباردة. وكان تغليب الاعتبارات الانسانية قد بدأ في الصومال، وفشل. هذا بحث يستحق التمعن فيه لاعطاء كل رأي حقه. انما، في اطار البحث في مسألة البلقان، لا مانع ابداً، ان تُستخدم الاعتبارات الانسانية لتحقيق غايات استراتيجية. ذلك ان الضرورة الملحة هي لوقف النزيف والاستنزاف حتى وان كان لغاية استراتيجية اخرى. وللتأكيد، هذا الكلام ليس دعماً لغايات "الوطنية" و"الاستقلال" لاقليم كوسوفو او غيره. اذ ان دعم غايات الاكثرية الالبانية في كوسوفو هدفه اولا وقبل اي شيء آخر الحاق الهزيمة بپ"وطنية" الصرب، وليس تحقيق النصر لغايات الانفصال كمبدأ. الدعم لألبان كوسوفو يأتي رداً على قهر واستبداد الصرب لهم. فكوسوفو كانت دولة مستقلة عام 1912 ثم الغي استقلالها لتصبح اقليماً يتمتع بالحكم الذاتي الى حين اتخاذ الصرب قرار الغاء الحكم الذاتي عام 1989. ورغم ذلك، ليس هذا الأهم في دعم كوسوفو. الأهم ان التهجير عبر التطهير العرقي اسفر عن تشريد اكثر من 750 الف مدني، والمجازر اسفرت عن مقتل آلاف. فاذا كانت استراتيجية الصرب تهدف الى تقسيم الاقليم عبر اجراءات التشريد، فلا مانع من ان تكون الاستراتيجية الاوروبية الاميركية المضادة تفكيك الحلم الصربي بالتوسع عبر البعثرة والانفصالية بما يعيد صربيا الى "حدودها" مطلع القرن، اي بانفصال كوسوفو الى جانب انفصال سلوفينيا ومقدونيا والجبل الاسود وكرواتيا والبوسنة. مثل هذه الاستراتيجية قد يؤدي الى سقوط ميلوشيفيتش علماً بأن صعوده بني على اساس عقلية التوسع والتفوق الصربي. لكن هناك نظرية تقول ان زعيم بلغراد يرغب ضمناً في فرض حلف الاطلسي استقلال كوسوفو ليتخلص من حزام يشكل عبئاً اقتصادياً يهدد الاستقرار الصربي المرجو من الخريطة القائمة. بذلك يمكنه الاحتفاظ بالسلطة وهو "يتحدى" و"يقاوم" حلف الناتو متمسكاً ظاهرياً بأسس "الوطنية" الصربية التي ترى كوسوفو أساساً منها. فيكتسب الذخيرة لتوسيع آفاقه الشخصية للاحتفاظ بالسلطة بينما يخلط الاوراق لتعزيز نفوذ صربيا في البوسنة ومقدونيا. وبالطبع هناك النظرية الاكثر رواجاً التي تقول ان الهدف الضمني لبلغراد ان يسفر تشريد الغالبية الألبانية المسلمة التي تمثل 90 في المئة من سكان كوسوفو اما الى خارج الاقليم او الى المناطق الأفقر فيه. وهذا يسمح بتقسيم كوسوفو، كأمر واقع، الى منطقة البانية مسلمة مهمشة، اومنطقة صربية تنظم الى بلغراد بدلاً من اثقالها بأعباء لا حاجة لها بها. عندئذ تتحقق الاهداف الديموغرافية بوسائل المجازر وحرق القرى والتشريد واستفزاز الناتو الى عمليات قصف ليست خالية من الاخطار العسكرية والسياسية. اثبت ميلوشيفيتش انه يتقن تكتيك المناورة كما استراتيجية الاستفادة من تردد حلف شمال الاطلسي في استخدام القوة العسكرية. لذلك ليس مستبعداً ان تكون في ذهنه خطة متكاملة تضمن "انتصاره"، في نهاية المطاف. ولهذا السبب بالذات فان انهزامه ضروري مهما كانت الكلفة غالية لأن انتصاره هو الثمن الاغلى الذي تدفعه اوروبا وشريكها الاميركي في حلف شمال الاطلسي.