نمط السلوك السياسي الذي تبناه الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش منذ تسلمه السلطة قبل 11 سنة تضمن دائماً اللجوء إلى المجازر وسيلة لتحقيق غايات سلطوية ضيقة أو "وطنية" صربية واسعة. فرض أمراً واقعاً تلو الآخر ب "تطهير عرقي" أو تراجع عن التصدي في آخر لحظة، وتمكّن دائماً من كسب الوقت والتلاعب بانذارات الفرصة الأخيرة التي اطلقها أعضاء حلف الأطلسي. فليس مدهشاً أن ترتكب القوات الصربية مجزرة أخرى كتلك التي نفذتها هذا الأسبوع في قرية راتشكا في كوسوفو. وليس جديداً ان تنطلق الانذارات الأميركية والأوروبية ملوحة بالخيار العسكري وهي تلهث وراء ابتكارات وبدع سياسية لتجنب تنفيذ الانذار. المدهش أن يُعطى ميلوشيفيتش جرعة أخرى من وهن حلف الاطلسي فتكون ذخيرة لنمط سلوكه المعروف. لذلك توجد حاجة ملحة لتقوية الأكثرية الألبانية المسلمة في اقليم كوسوفو كي لا تنتصر مجدداً أساليب الإبادة والتطهير العرقي في البلقان. وفي هذا دور مهم للدول الإسلامية، على أكثر من صعيد، تجاه أهالي كوسوفو، ذلك ان تحصينهم سياسياً وعملياً ضروري لئلا يقعوا فريسة الصرب، كما حدث في البوسنة، أو ضحية المقايضات السياسية القائمة على معادلات القوي والضعيف. تطورات السنة الماضية اثبتت أنه كما انتصار كوسوفو على ميلوشيفيتش مستبعد، كذلك انتصار ميلوشيفيتش في حربه على كوسوفو. أمام هذه المعادلة، تكثر النظريات في شأن أهداف الزعيم الصربي من جولة التصعيد التي أسرت انتباه العالم بعد المجزرة التي ذهب ضحيتها 50 رجلاً وامرأة وطفلاً. بعض النظريات يتحدث عن رغبة ميلوشيفيتش بأن يفرض عليه التدخل الأجنبي عبر قنوات حلف الأطلسي الخضوع أمام حتمية استقلال كوسوفو. فالاقليم، بحسب القائلين بهذه النظرية، يشكل عبئاً اقتصادياً على يوغوسلافيا الاتحادية، وهو عبارة عن حزام لا استقرار يهدد الاستقرار الصربي المرجو من الخريطة القائمة. نظرية أخرى تقول إن هدف التصعيد الأخير هو الضغط على جيش تحرير كوسوفو للمشاركة في اجتماع الفئات الألبانية، المزمع عقده برعاية منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في 25 الشهر الجاري في فيينا، لتوحيد مواقف ألبان الاقليم في المفاوضات مع الحكومة الصربية. وبحسب هذه النظرية، هناك ضوء أخضر دولي للعملية الصربية كي يؤدي الضغط العسكري إلى ايجاد تسوية للمشكلة. بالطبع هناك النظرية الثابتة التي تقول إن أهداف بلغراد في اقليم كوسوفو، الذي حرمه ميلوشيفيتش من الحكم الذاتي عام 1989، تتضمن تشريد الغالبية الألبانية المسلمة التي تمثل 90 في المئة من السكان، إما إلى خارج الاقليم، وإما إلى المناطق الأفقر فيه. وهذا يسمح بتقسيم كوسوفو، كأمر واقع، إلى منطقة صربية فاعلة، ومنطقة ألبانية مسلمة مهمشة. وبحسب هذه النظرية، المجازر والتشريد وسيلة ضرورية لتحقيق الأهداف الديموغرافية. القاسم المشترك بين هذه وغيرها من النظريات ان استراتيجية ميلوشيفيتش المخضرم وتكتيكه يصبان دائماً في احتفاظه بالسلطة وتوسيع افق أهدافه الشخصية. بعضهم يعتقد ان هذه أولوية حتى على حساب الاعتبارات الصربية "الوطنية". وهناك من يرى ان الاعتبارات الشخصية تتلازم مع معاودة خلط الأوراق كي تصبح البوسنة ومقدونيا تحت نفوذ صربيا وأكثر اعتماداً عليها. وجرت العادة، بعد كل مجزرة وكل حملة تشريد، ان ينطلق التحذير من امتداد أزمة كوسوفو إلى البلقان وتزداد المخاوف من دخول الدول المجاورة الصراع، ليس فقط ألبانيا،بل أيضاً اليونان وتركيا. جرت العادة أن تتواصل الإدانات الدولية والانذارات بموازاة جهود ضبط الأمور لايجاد مخرج للجميع من الأمر الواقع الجديد الذي يفرضه حاكم بلغراد. وكما جرت العادة، بدأ البحث في فوائد القصف الجوي وأخطاره، إذا قررت قوات الناتو تنفيذه، وتوافدت المقترحات البديلة المتضاربة، وبينها جعل اقليم كوسوفو تحت "وصاية" حلف الأطلسي بحماية القوات البرية الغربية. لكن فكرة ارسال قوات برية إلى الاقليم لا تلاقي اجماعاً لدى اعضاء الحلف، شأنها شأن اللجوء إلى القصف الجوي للمواقع الصربية. أما أفكار الحل السياسي وعناصره، فإنها مشتتة تفتقد العزم الجدي على مواجهة بلغراد. ميلوشيفيتش راهن على الانقسامات داخل حلف الأطلسي ومجلس الأمن بمنتهى الثقة، فأخل بوعوده إلى المبعوث الأميركي ريتشارد هولبورك الخريف الماضي، وأهمها وقف الهجوم على كوسوفو. منع المحققين في جرائم الحرب من الدخول وطرد رئيس بعثة المراقبين الدوليين. بقيت قواته في كوسوفو في انتهاك للاتفاق الأخير. نفذت القوات ؟؟؟؟؟ المجزرة، ثم منع المدعية العامة في محكمة جرائم الحرب في لاهاي، لويزا اربور، من الدخول إلى الاقليم للتحقيق في مجزرا راتشكا وغيرها من المجازر. وضمن "الانجازات" الأخرى للقوات الصربية التابعة لحاكم بلغراد تعذيب الآلاف، ومنع دخول الغذاء والمعونات الطارئة للأقليم، إلى جانب تسليح الأقلية الصربية في كوسوفو، فيما يطلقب الاحتجاجات على تزويد دول إسلامية جيش تحرير كوسوفو أموالاًس لشراء الأسلحة. أمام مثل هذه الانتهاكات التي تأتي بعدما استهلك ميلوشيفيتش صديقته وحسن النية به، على الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي عدم اعطائه فرصة أخرى مغلفة باجراءات تراجع عن مواقفه الأخيرة. فمن الغباء، أو سوء النية، ان تقرر هذه الدول اعطاء فرصة اضافية، وخطير جداً أن يستمر هولبروك في خطب ود ميلوشيفيتش، مما يعرقل السياسة الضرورية ازاء بلغراد وازاء كوسوفو. أول ما على هذه الدول أن تفعله ان تكف عن المساواة في إلقاء اللوم على طرفي النزاع في كوسوفو، تحت غطاء العمل من أجل تسوية سياسية. فلا مجال للمقارنة بين مجازر الاقلية الصربية وبين عمليات تهريب الأسلحة وخلاق وقف النار التي تقوم بها الأكثرية الألبانية. فإذا كان للتدخل الأوروبي - الأميركي أن يتخذ طابع الجدية، لا بد من وقف مطالبة ألبان كوسوفو بدفع ثمن مساوٍ لما على الصرب دفعه هناك، ليس فقط لأن الأقلية الصربية في الاقليم مجرد 10 في المئة من السكان، بل لأن الاقليم كان يتمتع بالحكم الذاتي قبل أن سرقه منه الرئيس اليوغوسلافي ثم بدأ عمليات التشريد والمجازر فيه. الكلام على توجيه ضربة عسكرية جوية إلى مواقع صربية تتوازى معها اجراءات اغلاق الحدود بين البانية وكوسوفو، بقوات أرضية، لمنع تهريب الأسلحة، لا يعالج المشكلة، بل قد يزيدها تفاقماً على حساب المسلمين. والموقف الذي يتبناه اعضاء حلف الاطلسي الذي يمتنع عن دعم مطالبة كوسوفو بالاستقلال، ويضع سقفاً محدداً بالعودة إلى الحكم الذاتي، موقف خاطئ، أولاً لأن فكرة التعايش مجدداً وكأن شيئاً لم يحدث في البلقان فكرة خرافية، وثانياً لأن الانطلاق من معارضة أكثر من الحكم الذاتي لن يؤدي إلى استعادة هذا الحكم في معادلات المساومات مع بلغراد. فلو لمجرد خلق هامش منطقي للمساومة بهدف تحقيق الحكم الذاتي فقط، يجب أن تكف دول الناتو عن معارضة هدف الاستقلال ان لم يكن البدء بدعمه. وإذا كانت هذه الدول تريد حقاً ان تحدق في وجه ميلوشيفيتش بحزم، عليها - بدءاً بواشنطن - ان تكشف المعلومات التي تمتلكها والتي تورّط زعيم العنف الصربي بجرائم حرب بهدف توجيه التهمة رسمياً إليه. فالكشف عن مثل هذه المعلومات قد يفيد في اقناع روسيا بالكف عن الاعتذار نيابة عن بلغراد والبدء بالضغط الجدي على حليفها الصربي. أما وأن الحلول الخلاقة ليست في المتناول، بسبب سياسات الدول والسياسات الدولية، يبدو ان النتيجة الوحيدة للصراع في كوسوفو هي عملياً انتصار طرف على الآخر. والانتصار ليس محسوماً لأي من الطرفين في هذا المنعطف، ولن يتحقق إلا بعد هدر قدر كبير من الأرواح. خيارات الأكثرية الالبانية في كوسوفو ليست عديدة، إنما من المهم دعمها في هذا المنعطف، لعل تحصينها سياسياً وعملياً سيساهم في دفع المعنيين بملف كوسوفو إلى اتخاذ الاجراءات الضرورية.