ظهر الصرب في الازمة الحالية حول كوسوفو اكثر تحدياً للتحذيرات والتهديدت الموجهة اليهم من اي وقت مضى، اذ ابلغ الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش كل من قابله في هذا الشأن من اصدقاء الصرب واعدائهم بأن لبلاده "الحق في مكافحة الارهاب اسوة بكل دول العالم ذات السيادة، وان الضغوط الخارجية غير المنصفة لن تفلح في تغيير هذاالموقف المبدئي". وحسب وسائل الاعلام الصربية، فان عملية يقوم بها حلف شمال الاطلسي ضد اهداف عسكرية واقتصادية يوغوسلافية "لن تكون نزهة يستهان بها" وانما ستكون مؤثرة جداً وتزيد الاوضاع الاجتماعية في البلاد صعوبة "لكن ذلك قدرا مر به الصرب كثيراً ولا بد ان يتحملوه من اجل ان لا يضيع مهد الحضارة الصربية ومآثرها في كوسوفو الى الابد". ولم يفقد الصرب الأمل في تجنب الضربة الجوية للحلف الاطلسي، كما حصل سابقاً، اعتماداً على تأثير اصدقائهم وخصوصاً روسيا واليونان ومخاوف غالبية دول البلقان من ان تنعكس اضرارها على المنطقة بأسرها كما كان حال العقوبات التي فرضت على صربيا اثناء الحرب البوسنية، اضافة الى التقويم العام بأن القصف الجوي، وهو الخيار العسكري الوحيد حتى الآن، يفتقر الى اهداف سياسية محددة لاحقة له. ولذا فهو لن يأتي بحل مضمون للمشكلة، وعلى الارجح سيزيدها تعقيداً نتيجة التوقعات بأنه سيؤدي الى فوضى في كوسوفو يستغلها الصرب لتنفيذ ابشع انتقام ضد البان كوسوفو، اذ حشد الصرب في الاقليم نحو 80 الف جندي وشرطي نظامي مع عدد مماثل من عناصر الميليشيات التي شاركت في حروب البوسنة وكرواتيا، وتم ايضاً تسليح المدنيين الصرب وغيرهم من الموالين لبلغراد، في حين ان مقاتلي جيش تحرير كوسوفو لا يتعدون الخمسين الفاً 20 الف نظامي و30 الف مدني للدفاع المحلي مع الاخذ في الاعتبار التفوق الصربي في نوعية السلاح والخبرة في استخدامه. وفي هذه الاجواء المبلدة، فان الانقسام الشديد يسود دول الحلف الاطلسي ذاتها، فعلى رغم الاندفاع الاميركي الشديد نحو معاقبة الصرب، فان اقرب حلفاء واشنطن، وهي بريطانيا، تحفظت عن الضربة الجوية ما دامت غير مقرونة باهداف سياسية محددة تتم في اعقاب الضربة، لأنها في هذه الحال لن تكون مجدية واقعياً، كما ان دولاً رئيسية اخرى لا توافق عليها ما لم تكن بتفويض من مجلس الامن وهذا غير وارد عملياً بسبب معارضة روسيا والصين ومنها اليونان لعلاقاتها الوثيقة مع الصرب وايطاليا التي تخشى تدفق اعداد كبيرة من اللاجئين الالبان الى اراضيها والمانيا نتيجة سياسة حكومتها الحالية وفرنسا التي تحبذ اسلوب الضغط والنفس الطويل مع المساعي الديبلوماسية انطلاقاً من رغبتها بتبوء مكانة متنفذة في البلقان وتجنب القطيعة مع الصرب. وفي كل الاحوال، فان الضربات الجوية، اذا صارت خياراً غربياً لا بد منه، فانها لن تكون آنية، لانها تتطلب استعداداً عسكرياً، اضافة الى اجلاء 700 مراقب دولي موجودين في الاقليم مع مغادرة رعايا الدول التي ستشترك في العملية العسكرية من انحاء يوغوسلافيا وأخذ احتياطات كبيرة في الكيان الصربي الجمهورية الصربية في البوسنة، تحسباً للانتقام الصربي المتوقع. واللافت ان الكثير من وسائل الاعلام يقع في خطأ جسيم حين يروج وجود قوات اطلسية في كوسوفو، ولعل سبب ذلك عدم الدقة في التمييز بين القوات العسكرية من جهة وبين المراقبين غير المسلحين، نتيجة المتابعة البعيدة غير الميدانية. فوجود قوات لحلف شمال الاطلسي يقتصر على البوسنة لحفظ السلام في داخلها ومقدونيا لمهمة حماية المراقبين الدوليين في كوسوفو واجلائهم عند الخطر فقط وتوجد قواعد للحلف في ايطاليا واليونان، وكلا الدولتين ليستا متحمستين لعمل عسكري ضد بلغراد من دون تفويض مجلس الامن، اما ما يتعلق بالبوارج وحاملات الطائرات في البحر الادرياتيكي، فانها غير كافية، عدداً واستعداداً، لعمليات القصف الآنية وانزال ضربة موجعة ببلغراد. وعلى الرغم من انه لا يمكن تبرئة الصرب من العنف الذي يخيم على اقليم كوسوفو، فان اعتبارهم "الشيطان الوحيد" لا يتفق مع الحقيقة والواقع، اذ ان الالبان يتحملون ايضاً مسؤوليات كبيرة في فشل مساعي التسوية السلمية لأزمة الاقليم، وهو ما اكده الوسطاء الدوليون، وذلك بسبب تشبثهم بالاستقلال واصرار جيش تحرير كوسوفو على عدم القاء السلاح حتى تحقيق ذلك، على ان الصرب لا يقبلون بهذا الهدف ولا يحظى بعطف دولي. كما ان محاولات المقاتلين الالبان فرض سيطرتهم على كوسوفو من دون منازع الباني او صربي، ساهمت في تشديد المصاعب التي اعترضت تنفيذ وقف النار. واذا تناولنا الازمة الراهنة الناتجة عن المجزرة التي تعرض لها الألبان في قرية راتشكا جنوب العاصمة بريشتينا، فانه مهما بدت الاتهامات الموجهة الى الصرب في شأنها جلية ودامغة، فان رئيس بعثة المراقبة الاوروبية ويليام ووكر اميركي تجاوز صلاحياته عندما دان الصرب شخصياً ووجه دعوة الى المدعية العامة لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي لويزا اربور للقدوم الى كوسوفو والتحقيق "في جريمة بشعة ارتكبها الصرب" حال مشاهدته جثث القتلى، بينما التفويض الممنوح له تطلب منه الابتعاد عن اصدار الاحكام. فمهمته تتطلب تشكيل لجنة تحقيقية من المراقبين الذين يعملون معه تقوم بتدوين البيانات التي تتجمع لديها، ثم ترفع القرائن الى منظمة الأمن والتعاون الاوروبية باعتبارها الجهة الدولية المخولة بالمراقبة، وهي من حقها ان تعلن النتائج وتطلب اجراء مناسباً دولياً، اما اذا كان ووكر تصرف - كما يقول الصرب - باعتباره اميركياً، له ما لا يحق لغيره، فان ذلك لن يخدم تهدئة الاوضاع في كوسوفو، ويربك الامور ويجعلها تتيه في شعاب المواقف والمصالح. وفي منطقة البلقان، الكل يترقب الامور واستعدادات الضربات الجوية، من دون ان يعرف احد اين يتجه مسارها، رغم انه لا يوجد من يثني عليها، بمن فيهم الالبان، اذا خلت من مخطط عسكري على ارض الاقليم، يفرض حلاً دولياً للصراع الصربي - الالباني ويتجنب كارثة لا محالة.