تجتاز مؤسسات الاتحاد الأوروبي أزمة ثقة خطيرة مع تقديم اعضاء المفوضية استقالاتهم الجماعية ليل الاثنين - الثلثاء وكشف حقائق الفساد الذي تفشى في بعض الدوائر الأوروبية وامتداد نفوذ مجموعات الضغط الى داخلها. قد تستمر ازمة الثقة الى ما بعد تشكيل فريق جديد يتولى شؤون المفوضية التي تمثل الجهاز التنفيذي للاتحاد. وتتركز الانظار الآن على الاتجاهات التي تسير صوبها جهود الخلافة والاستحقاقات السياسية المطروحة على الصعيد الأوروبي وتأثرها المحتمل بانفجار ازمة الاستقالة الجماعية وهي الأولى في تاريخ الاتحاد. تضم المفوضية الأوروبية 20 عضواً يتولون تسيير مختلف مجالات السياسات الجماعية في الشؤون الاقتصادية والمالية والصناعة وتنظيم الأسواق والبيئة والزراعة والطاقة ودوائر علاقات التعاون مع كل البلدان والتجمعات الاقليمية والمنظمات الدولية. وتمثل المفوضية الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي وتتمتع بصلاحيات تقديم المقترحات والمبادرات الى المجلس الوزاري والبرلمان الأوروبي وترعى تنفيذ المعاهدات الأوروبية وتقدم شكواها الى محكمة العدل الأوروبية ضد المؤسسة او البلد الذي ينتهك القوانين والتشريعات المشتركة. في المقابل يمتلك المجلس الوزاري صلاحيات القرار في ما يدلي البرلمان برأيه في العديد من القضايا ويتمتع بصلاحيات كبيرة في شأن تحديد الموازنة والموافقة على تشكيل اعضاء المفوضية ومسائلتهم بشكل فردي وجماعي، مثلما جرى في الازمة الراهنة. تم تشكيل لجنة ضمت خمسة من الخبراء المستقلين، بالتوافق بين المفوضية والبرلمان في كانون الثاني يناير الماضي للتحقيق الذي كانت نتائجه مدمرة للفريق الذي يقوده الرئيس جاك سانتير. وتضمن تقرير الخبراء جملة وصفت وضع المفوضية بپ"افلات الهياكل الادارية من سيطرة اعضاء المفوضية" في صفتهم مسؤولين سياسيين. وتلخص الجملة عمق الازمة التي تجتازها المفوضية وقد يكون الوضع نفسه داخل المؤسسة الوزارية او في البرلمان. ونسب التقرير اتهامات سوء التسيير والمحسوبية بدرجات متفاوتة الى نحو عشرة من اعضاء المفوضية واستهدف عضوة المفوضية رئيسة الوزراء الفرنسية السابقة اديت كريسون التي استقطبت انظار وسائل الاعلام والمراقبين لأنها انتدبت احد اصدقائها لمتابعة الابحاث العلمية عن مرض نقص المناعة المكتسبة ايدز على رغم قلة معرفته. فصديق كريسون كان طبيب اسنان. لكن محاباة طبيب الاسنان لم تكن السبب الرئيسي لاستقالة المفوضية. وتستند اتهامات الفساد والمحسوبية التي طاولت العديد من العقود التي نالتها مؤسسات تابعة للقطاع الخاص، بأساليب غير مشروعة، لتنفيذ برامج اقتصادية وفنية اوروبية او مشاريع التعاون مع البلدان الاخرى في وسط اوروبا وشرقها وبلدان جنوب الضفة الجنوبية للحوض المتوسطي. وعنت حالات المحسوبية العشرات من المؤسسات ومكاتب الاستشارة التي توصلت عبر السنين الى نسج شبكة من العلاقات مع كبار المسؤولين في المفوضية والبرلمان الأوروبي في بروكسيل. واستمال بعضها مسؤولين عن طريق الهدايا والوظائف الوهمية وأصبحوا يتمتعون بتأثير قوي لا يستبعد اختيار وانتقاء البرامج الانمائية وفق المصالح الخاصة لمجموعات الضغط. وفسرت رئيسة المجموعة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي اسباب الازمة بانتشار الثقافة البيروقراطية والسرية بعيداً عن الرقابة الديموقراطية. وستكون للأزمة الجارية بعض المحاسن لأن دروسها مفيدة بالنسبة لمستقبل الاصلاحات والشفافية وتحسين أداء الاجهزة الادارية في غضون الاعوام وليس الأشهر المقبلة. الوضع الانتقالي ستواصل المفوضية المستقيلة تحمل مسؤولياتها وفق الصلاحيات المحددة في المعاهدة وطالب المستقيلون دول الاتحاد باستعجال تشكيل الفريق الجديد من دون تأخر لتبديد مناخ الاحباط الذي يخيم منذ اسابيع على مؤسسات الاتحاد. وأكدوا ايضاً انهم سيتوقفون عن تقديم أية مبادرة او مقترحات سياسية. ومن البديهي ان تغطي الازمة المتواصلة على الاجتماعات المقررة على المستوى الوزاري او القمة المقررة منذ مدة لانهاء مفاوضات ما يسمى "مفكرة 2000" المتصلة بمسألة موازنة السنوات المقبلة وخفض انفاق السياسة الزراعية والقروض التي تمنحها الخزانة المشتركة الى المناطق والدول الفقيرة داخل الاتحاد. وتواجه المانيا صعوبات كبيرة في تسيير المفاوضات بين الشركاء تضاعفت جراء ازمة الاستقالة الجماعية. وتشارك المفوضية بشكل عادي في المفاوضات وواجه وزراء الخارجية في اجتماعاتهم اليوم وأمس في بروكسيل وضعاً جديداً لأن حضور الرئيس سانتير ومفوضيته المستقيلة كان قليل القيمة ورأيه منقوص الصدقية. وأوحت الرئيسة الحالية للاتحاد المانيا بأنها لن تقبل ان يسيطر موضوع المفوضية على اجتماعات القمة الاستثنائية التي ستحتضنها برلين الخميس والجمعة المقبلين لأن لقاء الزعماء كان مقرراً لحسم مفاوضات "مفكرة 2000". ولا يستبعد ان تضطر المانيا الى تنظيم لقاء جديد بين الزعماء الأوروبيين لاختيار خليفة الرئيس المستقيل. ويرجح المراقبون مقترح اعادة تشكيل مفوضية انتقالية، في غضون الاسابيع القليلة المقبلة، لتسيير شؤون المفوضية وتبديد مناخ الشكوك التي لا تزال تحيط بالجهاز التنفيذي والغموض الذي نجم عن استمرار نشاط الفريق المستقيل. وربما يتم اختيار الرئيس الانتقالي الجديد ضمن الاعضاء المستقيلين الذين لم تطاولهم اتهامات الفساد وسوء التسيير. وأعرب بعضهم عن استعداده للبقاء ومواصلة نشاطه حتى نهاية العام موعد انتهاء ولاية فريق الرئيس المستقيل. وقد لا يتجاوز الوضع الاستثنائي شهر ايار مايو لأن البرلمان الأوروبي سيكون انهى ولايته التشريعية ويستعد لخوض الانتخابات العامة المقررة في 13 حزيران يونيو المقبل. ويفترض تشكيل المفوضية الانتقالية قبل موعد انتخابات البرلمان الذي يتمتع بصلاحية الموافقة او رفض الشخصيات التي سيتم اختيارها لعضويته. وفي حال تأجل هذا الخيار فإن أزمة الثقة قد تستفحل مع استمرار نشاط الفريق المستقيل من ناحية وتكاثف الغموض السياسي من ناحية اخرى، لأن البرلمان سيبدأ الاستماع، منذ شهر تموز يوليو، الى شهادات المرشحين لعضوية المفوضية الجديدة التي ستتولى ولاية فترة السنوات الست المقبلة 2000 - 2006. تركة جاك سانتير يغادر جاك سانتير المفوضية محبطاً جريحاً وسيحفظ سجل تاريخ الاتحاد انه أول رئيس يسجل سابقة الاستقالة الجماعية. وكان سانتير تولى رئاسة المفوضية مصادفة لأن اختياره في منتصف عام 1994 لخلافة الرئيس السابق جاك ديلور تم بعد استخدام رئيس الوزراء البريطاني في حينه جون ميجور حق النقض ضد مرشح غالبية البلدان الاعضاء رئيس الوزراء البلجيكي جاك ليك ديهانه. وتم اختيار سانتير لأسباب موقعه الوسطي بين فرنسا وألمانيا من دون ان يزعج البريطانيين الذين عانوا انتقادات كثيرة من جانب الرئيس السابق ديلور الذي غادر المفوضية مرفوع الرأس. ويتذكر المراقبون لفائدته بعض الجرأة في الرأي واطلاق الافكار السياسية والاقتصادية عن المستقبل الجماعي بينما تنسب لسلفه اساليب التكنوقراط في التسيير والاصلاح. وكان سانتير واجه ازمة "جنون البقر" التي خدشت صدقية المفوضية لأنها تكتمت على تحذيرات الخبراء من عواقب المرض واحتمال انتقاله الى الانسان. واستعاد سانتير طلاقة لسانه بعد تقديم استقالة المفوضية ورد على نتائج تحقيقات الخبراء وقال: "إنها اعطت انطباعاً سيئاً عن المؤسسة ككل وهي صورة خاطئة مرفوضة وصدمته". ودافع عن أداء المفوضية خلال الاعوام الأربعة وانتقد ما سماه بتغييب المحققين الاصلاحات التي ادخلها. الا ان اتساع حجم الازمة الراهنة والسابقة التي احدثتها ستظل تطغى، خلال فترة طويلة، على كل المشاريع التي تم تنفيذها في عهده وأكبرها مشروع العملة الواحدة "يورو" التي اشرف كل من الرئيس المستقيل وزميله ايف تيبو دي سيلغي على مراحل اعدادها. كما شهدت المفوضية المستقيلة تجربة توسيع الاتحاد نحو شمال القارة في 1995 وأعدت كل الترتيبات لانجاز الشوط الأول من مفاوضات التوسيع التي انطلقت في ربيع العام الماضي مع خمسة من بلدان شرق أوروبا ووسطها وتهيئة الأرضية الاقتصادية في ستة بلدان شرقية أخرى كي تلتحق بركب العائلة الأوروبية. غير ان ازمة الاستقالة الجماعية ستحد من وتيرة تقدم مفاوضات التوسيع لأسباب تدهور الوضع السياسي داخل الاتحاد وانعكاساته السلبية على سير المفاوضات والرأي العام في الدول المرشحة.