في أواسط شهر أيار مايو 1919، كان مصطفى كمال وأنصاره قد تركوا اسطنبول، هرباً من دخول الحلفاء واليونانيين وكافة انماط الأعداء الذين تحلقوا يريدون تقطيع اوصال تركيا بعدما تمكنوا من البدء في تقطيع اوصال الامبراطورية العثمانية. في البداية توجه الهاربون الى الأناضول الشرقية ووصلوا الى سمسون في وقت كان فيه الجيش اليوناني يحتل إزمير. وفي وقت كان فيه الفرنسيون يحتلون قيليقيا مبدين رغبتهم في ان يقيموا فيها دولة أرمنية. في مقرهم الجديد، أخذ "الوطنيون" الأتراك - حسب الاسم الذي اطلقوه على انفسهم في ذلك الحين - يدعون الشعب التركي كله الى الثورة ويحاولون تنظيم صفوفهم. ومصطفى كمال نفسه راح يذيع الخطاب تلو الخطاب داعياً الى تلك الثورة، كما انه دعا الى عقد مؤتمر وطني عام في مدينة سيفاس يعقد خلال شهر ايلول سبتمبر من العام نفسه. وهو اصرّ في دعوته على ان يكون ذلك المؤتمر مؤتمر مصالحة عامة، لأن "الخطر الذي يواجه الأمة يتجاوز الخلافات والفروقات بين طوائفها وشرائحها السياسية" المتناحرة عادة. وفي شهر تموز يوليو عقد اجتماع في مدينة ارضروم غايته التحضير لمؤتمر سيفاس الذي عقد بالفعل خلال الاسبوعين الأولين من شهر أيلول. وخلال ذلك المؤتمر، تقرر من ناحية مقاومة الاجانب المتدخلين بشكل متواصل "مهما كانت التضحيات" كما تقرر رفض الاذعان الى رغبة فرنسا في اقامة الدولة الأرمنية في قيليقيا. وتقرر بعد ذلك كله، ان تنتقل القيادة الى انقرة. كثيرون لم يدركوا في تلك الآونة ان اختيار انقرة لن يكون، من ذلك الحين وصاعداً، اختياراً تكتيكياً، بل استراتيجياً، بمعنى ان انتقال القادة اليها كان دليلاً على اختيارها لتكون العاصمة المستقبلية لدولة تركيا، كما سيحاول مصطفى كمال ان يبنيها، وذلك بدلاً من العاصمة التقليدية اسطنبول، التي ترمز الى كل ما يريد مصطفى كمال وجماعته هدمه. مهما يكن في الأمر فإن انقرة بدأت تلعب دورها بالفعل اعتباراً من يوم 30 كانون الأول ديسمبر 1919، اي بعد يومين من انتقال المجلس النيابي المنتخب حديثاً في المنفى والحكومة الموقتة، الى المدينة. اذ ان ذلك اليوم كان يوم وصول مصطفى كمال. ولقد استقبلت جماهير تلك المدينة وصوله بالحفاوة والترحيب، كما كانت فعلت مع القيادات التي سبقته اليها. احتفال اهل انقرة، واللاجئين اليها بالقيادات الامنية، كان في حقيقته مؤشراً الى الدور الذي ستلعبه المدينة. وخاصة حين لوحظ بعد ذلك ان القادمين يختارون مراكز لهم في ابنية لها طابع الديمومة، ويركزون اوضاعهم بشكل يتجاوز اللجوء الموقت. وكان في استقبال القادمين الجنرال علي فؤاد ومساعد المحافظ يحيى غالب اللذان حضا مصطفى كمال باستقبال جعله يبدو رئيس دولة حقيقياً. فور وصوله، وقف مصطفى كمال خطيباً في جمهرة من اهل انقرة، وهو عرض في خطبته المراحل التي مر بها نضاله ونضال رفاقه، وكذلك عرض تطورات ما حدث في "تركيا منذ اندلاع الحرب حتى انفراط الامبراطورية وتكالب الاجانب على بلادنا ينهشون اراضيها". وتوقف مصطفى كمال في حديثه عند توقيع اتفاقية مودروس التي كان "الهدف منها اذلال الشعب التركي حتى بعد ان سلمنا بالتخلي عن الامبراطورية وممتلكاتها". وهنا وعد مصطفى كمال الأتراك بأن زمن الذل قد ولّى وبأن المرحلة المقبلة سوف تشهد "انبعاثة وطنية حقيقية يكون من نتيجتها الحتمية تحرير الأراضي التركية من الاحتلال الاجنبي". وفي هذا الاطار حدد مصطفى كمال اهداف "الحركة الوطنية" ومراحل التوصل الى تلك الاهداف، انما من دون ان يشير بوضوح الى التغيير الجذري الذي سيقلب الوضع برمته بعد سنوات قليلة، والذي كان - على أية حال - الهدف الأساسي لمصطفى كمال. المهم ان هذا اشار في الوقت نفسه الى علاقاته الايجابية مع الصدر الأعظم، ودعا الى اجتماع للمجلس النيابي الجديد، الذي كان، هو، المنتخب عضواً فيه عن ارضروم قبل ذلك. الصورة: تجمع في انقرة يوم وصول مصطفى كمال