كان ذلك الشهر شهر العجائب في تركيا التي كانت تعيش آخر أيامها كجزء رئيسي في الامبراطورية العثمانية. وكانت مدينة اسطنبول، المكان الذي تبدو فيه تلك العجائب - أكثر مما تبدو في أي مكان آخر - مذهلة. فلئن كان سكان اسطنبول كلهم قد خرجوا يحتفلون في السادس من تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام 1923، بالانتصار الكبير الذي حققوه على قوات الحلفاء، وأدى الى تحرير مدينتهم، فإن قلة منهم، كانت في ذلك اليوم بالذات تعرف ان تلك هي آخر أيام العز السياسي للمدينة التي كانت ذات يوم مركز العالم... ونقطة التقاء الحضارات. قلة كانت تعرف ان مصطفى كمال، وحتى من قبل اعلان تركيا جمهورية عند آخر ذلك الشهر نفسه، قرر ان تكف اسطنبول عن كونها عاصمة البلاد، جاعلاً من المدينة الباردة التي لا طعم لها ولا لون: أنقرة عاصمة لحكمه. إذن، في السادس من تشرين الأول وقف أهل اسطنبول صاخبين ضاجين، يحتفلون وهم يتوقعون ان يعود أعضاء الحكومة الى العاصمة لتكتمل فرحتها. لكن خيبة أملهم كانت كبيرة بالطبع يوم 13 من الشهر نفسه حين ستعلن أنقرة عاصمة جديدة للدولة الجمهورية الجديدة. فالحال ان الحكومة ما كان يمكن لها ان تتصور ان تبقى اسطنبول عاصمة للبلاد بعد ان ظلت تحت الاحتلال الغربي طوال سنوات. ولكن خاصة بسبب ارتباط اسمها وتاريخها بالسلطنة الملغاة، وبالامبراطورية البائدة. لقد ظلت اسطنبول طوال 470 عاماً، عاصمة للعالم الاسلامي. لذا من غير المعقول بالنسبة لمصطفى كمال وأصحابه ان تصبح عاصمة لتركيا. ثم ان انقره التي كانت منذ أواخر العام 1919 مركزاً للحركة الوطنية التركية، ونقطة انطلاق سياسية وعسكرية لتحرير تركيا، اثبتت فعاليتها كعاصمة. ومن هنا كان من الطبيعي ان يصدر في ذلك اليوم ذلك القانون الذي جعل من تلك المدينة الاناضولية عاصمة. قبل ذلك بأسبوع، أي في السادس من الشهر نفسه، كان أهل اسطنبول غير عارفين بهذا الأمر، واذا كانت التوقعات والشائعات قد سارت في اتجاهه، فإن الكثيرين من الاسطنبوليين، فضلوا ان يتناسوا الأمر، لكيلا يفسد عليهم فرحتهم بزوال كابوس الاحتلال البغيض، الاحتلال الذي دام نحو خمسة أعوام وبدأ يوم 13 تشرين الثاني نوفمبر من العام 1918، مع وصول اساطيل دول الحلفاء المعادية الى مياه المدينة. وجنود الحلفاء، يومها، سارعوا منتشرين في أحياء اسطنبول وأزقتها، بحيث قال المؤرخون انه بات من المستحيل على أي ساكن من سكان المدينة ان يتجول في الشوارع من دون ان يصدمه منظر جنود الدوريات وهم يمارسون تعالياً، على ذلك الشعب الذي كان، الى سنوات قليلة، يفخر بأنه خير شعوب الأرض وأقواها. والأهم من هذا ان ذلك الاحتلال الذي بدأ من دون ان يعطي لنفسه اسم احتلال، سرعان ما أضحى احتلالاً رسمياً معترفاً به دولياً، اعتباراً من يوم 16 آذار مارس 1920، حين نصت المعاهدات الدولية الجديدة، التي صاغها المنتصرون، على ان اسطنبول لم تعد تشكل جزءاً من الأراضي التركية. يومها على الفور انتقل السياسيون الى مدينة أنقرة للجوء اليها، والعمل انطلاقاً منها. خصوصاً وان مصطفى كمال ما ان وصل الى انقرة ليقود الحركة الوطنية والعمل السياسي من هناك - وبالتناحر مع السلطات الرسمية الخاضعة للسلطان في أغلب الاحيان حتى قرر ان يجري انتخابات تشريعية توفر للاقامة في أنقرة غطاءها الشرعي، وتجعل كل عمل سياسي يقدم عليه، عملاً مشروعاً. وبالفعل تم له ذلك وتلك ما سمي في ذلك الحين ببرلمان الاناضول. ومنذ تلك اللحظة، راحت اسطنبول تبهت وتفقد بريقها، في وقت راحت فيه انقرة تزداد أهمية وتصبح محط أنظار الأتراك جميعاً. طبعاً هذا كله كان أهل اسطنبول قد نسوه يوم 6 تشرين الأول، أو بالأحرى فضل كثيرون منهم ان يتناسوه وهم يقيمون أكبر احتفالات في تاريخهم المعاصر، بعد ان تحررت مدينتهم واستعادت طابعها الوطني، وبعد أيام من مشاهدتهم بأم اعينهم للقوات الانكليزية والفرنسية المحتلة، وهي تركب السفن خلال الأيام الأولى من ذلك الشهر نفسه، راحلة. وفي اليوم نفسه الذي كانت تستقبل فيه القوات التركية التي دخلت المدينة، بناء على اتفاق نهائي مع الحلفاء، تحت قيادة شكرو نايلي، أحد قادة الجيش. الصورة: القوات التركية تعبر جسر غالاطا داخلة المدينة يوم 6 تشرين الأول - اكتوبر - وسط الجماهير الاسطنبولية المعبرة عن فرحتها.