نشر مواطنون أتراك، في كانون الأول (ديسمبر) 2008، على الانترنت نصاً قصيراً من نحو أربعة أسطر يبلغ موقعوه مواطنيهم أن ضميرهم «لا يقبل اللامبالاة بإزاء الكارثة الكبيرة التي نزلت بالأرمن العثمانيين في 1915، وينكر (وقوعها)». ويعلن الموقعون، أفراداً وفي صيغة ضمير المتكلم الفرد، رفضهم «هذا الظلم»، ومشاركتهم مشاعر «أخواتي وإخوتي الأرمن وآلامهم، وأطلب الصفح منهم». ووقع النص القصير 30 ألف مواطن. وهو نهاية مطاف موقتة لأطوار مواجهة المسألة الأرمنية منذ 10 سنوات. وليس موضوع طلب الصفح التهجير والمحق اللذين أصابا الأرمن العثمانيين وحدهما، فهو يتوجه كذلك الى ضحايا الإغفال والإنكار اللذين أحاطا بالواقعة التاريخية ولا يزالان يحوطانها. وحملة التوقيع هذه حلقة من سلسلة مبادرات وأعمال أولها - أبحاث تانير أقسام ومقالاته الرائدة، ثم منشورات دار «بيلج» الشجاعة وترجمات أعمال في المسألة الأرمنية صدرت في لغات أجنبية متفرقة، وعشرات الأبحاث التي قرئت وناقشتها ندوة جامعة بيلجي. ونشرت، في الثلاثين عاماً المنصرمة، أعمال جيدة تناولت نشأة القومية التركية وأطوارها المتعاقبة. وفي العقدين الأخيرين عالجت دراسات مسألة الانتساب الى أقلية غير تركية في تركيا، ومترتبات الانتساب هذا ومشكلاته مثل الشعور المقيم بالتهديد وبالاستبعاد. وهذه المادة المتفرقة والغنية لم تناقش مناقشة فعلية ومتصلة، ولكنها في متناول القراء والجمهور. وبعض الكتاب يتصدى من غير خوف ولا تستر منذ بعض الوقت للتنديد بخصائص القومية التركية، وتخطيها حدود الوطنية العادية، وانقلابها الى تحريض على الكراهية. والفخ المميت الذي نصب لهرانت دينك إنما أعد في مناخ الكراهية هذا. وتفاقم المناخ على أثر كشف صحيفة دينك، «أغوس»، أصول صبيحة غوكجين، إحدى بنات مصطفى كمال بالتبني وأول ربان طائرة في تركيا، الأرمنية. واغتيل هرانت دينك في 19 كانون الثاني (يناير) 2007. وعلى خلاف توقع مدبري الاغتيال، شيع جنازة الصحافي الأرمني القتيل 100 ألف شخص ساروا في طرقات اسطنبول خلف جثمانه، وكانوا القرينة على تغير الأمور في تركيا. وهتف المشيعون، من المسنين والشبان والنساء والرجال، هتافاً واحداً: «كلنا أرمن، كلنا هرانت». ولا ريب في أن هذه الوقائع مهدت الطريق الى مبادرة المواطنين الأتراك وطلبهم الصفح من أخواتهم وإخوتهم الأرمن، باسمهم واستجابة لنداء ضمائرهم، عما أصاب الأرمن وأنزل بهم من تهجير، ثم عن اللامبالاة والإغفال اللذين جبه بهما عموم الأتراك هذا الشطر من مواطنيهم. والمبادرة وجه من إلحاح حاجة الأتراك الى فحص تاريخهم من غير خوف من الممنوعات والمحظورات والحواجز. ولم يلبث دعاة الكراهية القوميون أن ردوا على المبادرة بالطعن في النص، وتصويره في صيغة «إقرار بالإبادة وطلب الصفح». والحق أن النص لم يأتِ على كلمة «إبادة». ووصف الطاعنون الموقعين بالخونة، ونصبوا أنفسهم حراساً على الممنوعات والمحظورات المقدسة. ويعود استعمال لفظة «إبادة» في الكلام على المأساة الأرمنية بتركيا، الى 1944. وهي لم تجر على لسان الأرمن. ومن ذاقوا مرارة الحوادث سموها، يومها، «التهجير» و «القافلة» و «المجازر». وحلت عبارة «الكارثة الكبرى» محل العبارات الأخرى، وأدت معنى اندثار أحد أقدم شعوب الأناضول اندثاراً شبه كامل. وكان المثقفون الأتراك مجمعين تقريباً، ما عدا القوميين المتعصبين ومرتكبي هذه الجرائم، على التنديد بالتطهير العرقي الواسع الذي ارتكبته حكومة الاتحاد والترقي. فذهب المارشال عزت فؤاد، أحد رجال الحكم البارزين، الى استحالة السكوت عن ارتكاب الاتحاديين جرائم في حق الإنسانية، ونصح بالاعتراف بها «اعتراف الشريف والكريم، على ما يليق بشعب كبير». ولم تتردد الروائية الكبيرة خالدة أديب في تسمية الوقائع، فكتبت في 1918: «ارتكبنا المجازر في حق السكان الأرمن الأبرياء (...) وحاولنا تحطيم الأرمن ولجأنا الى وسائل قروسطية». وفي 20 أيلول (سبتمبر) 1915، وصف المؤرخ أحمد رفيق من غير تمويه، من إسكيشير حيث كان نازلاً، وصول مواكب المهجرين ورواحها: «حاصروا البيوت، وحشروا مئات الأسر الأرمنية في مركبات وعربات رموها في الأنهر، فأصيبت نساء كثيرات بالجنون لهول الاغتيالات التي شاهدنها. وابتيعت بيوت الأرمن الأثرياء من أصحابها، ولكن ما إأن سددت أثمانها حتى أخذت بالقوة والتعذيب» (نقلاً عن كتاب أحمد رفيق التيناي: «لجنتان، مجزرتان»، الطبعة الأولى في 1919). وفي مجلس الشيوخ العثماني، في تشرين الأول (اكتوبر) 1918، قال أحمد رضا إن الأرمن شتتوا وبددوا إنفاذاً لأمر رسمي. والقى وزير الداخلية، مصطفى عارف، المسؤولية عن التهجير على «قادة» الحرب. فهم، على قوله، أغرقوا المهجرين في «بحر من الدماء يليق بعصابات القتلة المتعطشين الى الدم، وكانوا عزموا على تدمير الأرمن (...) وارتكبوا المجازر فيهم». وفي أثناء محاكماتهم أمام المجلس العرفي، اتهم قادة الاتحاد والترقي بتهم صريحة وواضحة: ارتكاب المجازر، نهب الملكيات والأموال، حرق البيوت والقرى والجثث، أعمال الاغتصاب، التعذيب، أعمال تمثيل معيبة، وناشد المدعي العام المجلس «الحكم العادل باسم الحق الإنساني العام». ويعود الإغضاء عن الوقائع، أو أوائله، الى صيف 1919. ففي 15 أيار (مايو) احتل الجيش اليوناني الساحل التركي بين إزميل وآيفاليك، وفيها شبه جزيرة شِشمْه في آسيا الصغرى. وانقلبت الدول الحليفة، تدريجاً، دول احتلال، وأسفرت عن توسلها بمأساة الأرمن العثمانيين الى تقسيم السلطنة وتجزئتها. فآذنت الحوادث هذه بنشأة شعور قومي تعاظم يوماً بعد يوم. وكان مصطفى كمال لا يزال، في 24 نيسان (ابريل) 1920، يسمي «فظاعات» ما أنزله الاتحاديون بالأرمن من تهجير وقتل. ولكنه قرر، في كانون الأول) من العام نفسه، وكان انتخب رئيساً على المجلس الوطني الكبير في الأثناء، منح معاش تقاعدي لعائلتي الموظفين اللذين شنقا جزاء إشرافهما على ارتكاب مجازر في حق الأرمن، وسماهما «شهيدي الأمة»ز وبين نيسان وكانون الأول وقعت معاهدة سيفر (آب/ أغسطس 1920). واضطلعت المعاهدة بدور راجح في حمل المسألة الأرمنية على محظور قومي مقدس. وتلاشى ذكر المأساة الأرمنية، منذ 1921، من مصطلح الحكام وقادة الرأي. وأدت اغتيالات الديبلوماسيين الأتراك التي ارتكبتها المنظمة السرية الأرمنية، «أسالا»، في سبعينات القرن العشرين، الى مشاعر سخط وإنكار عنيفة. وتعاظمت المشاعر هذه في الأعوام «القومية»، 1980 - 2000. وعمدت الدولة التركية، في 1999 - 2000، الى بناء نصب في إغدير، على الحدود الأرمنية، طوله 40 متراً، إحياء «لذكرى الفظائع الأرمنية». وقرينة أخرى على قلب الحقائق رأساً على عقب: في 1918، قدّر مجلس الشيوخ العثماني عدد الضحايا الأرمن ب800 ألف، وقدّر الديبلوماسي التركي كمران غورون في 1980 العدد ب 300 ألف، وقصره المؤرخ يوسف هالاجوغلو، رئيس الجمعية التاريخية التركية بين 1993 و2008، في أوائل ال2000، على 56610 أرمنيين. ورداً على إعلان طلب الصفح، ندد خبراء المؤامرة التقليديون باستعمال عبارة «الكارثة الكبرى» مرادفاً مراوغاً لإبادة. ونظم ديبلوماسيون محترفون حملة سعت في تجريم العبارة المرادفة، على زعمهم، ودعوا الى محاكمة مستعمليها، على رغم أن قانون الجزاء التركي لا يحظر استعمالها، ولا يدينه. وتولى صحافيون ليس لهم من المهنة إلا الاسم الطعن «في الخونة والعملاء الذين باعوا أنفسهم ويعتاشون بيننا من مال العدو». وقال رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء، إن من يطلبون الصفح هم من ارتكبوا الإبادة، وأما هو (أردوغان) وبلده وأمته فلا يشكون مشكلة من هذا الصنف. ورأى دنيس بايكال، زعيم المعارضة «الاشتراكية - الديموقراطية» أن الموقعين مثقفون يعانون «انفجار ضمائرهم»، ويحركهم من يرون بالعين المجردة. وإجماع رئيس الحكومة وزعيم المعارضة على رأي واحد في المسألة يدعو تركيا الى الخجل. وحرض الإجماع موقعين جدداً على الخروج من تحفظهم. فالدولة المتسلطة لا يسعها الرضا عن إقدام المواطنين على ما أقدموا عليه خارج وصايتها، وبموجب إملاء ضمائرهم وليس نزولاً على أمر من الدولة التي ارتكبت، قبل نحو قرن، «التهجير» و «الفظائع»، ولم ترجع في أمرها. * أستاذ اقتصاد في جامعتي باريس - 1 وغلاطة سراي، عن «إسبري» الفرنسية، 6/2010، إعداد وضاح شرارة