ربما لم يعرف تاريخ تركيا، منذ بداية الحرب العالمية الأولى، عاماً غريباً ومثقلاً بالأحداث الحاسمة، مثل العام 1920. ففي ذلك العام كان الظهور السياسي الأساسي لمصطفى كمال، وكانت معاهدات "سيفر" التي أنهت الامبراطورية العثمانية وسلخت أطرافها، وكانت سيطرة الحلفاء على اسطنبول، والهجوم اليوناني الدامي على الأناضول، واندلاع الثورة الأرمنية. ولكن، ما زاد الطين بلة كان ايضاً تلك الحرب الأهلية التي عصفت بالأتراك أنفسهم في عقر دارهم، والتي كانت انعكاساً لصراعات مصالح وقوى وللتفتت الذي راح يعيشه ذلك البلد. وكان الطرفان الأساسيان في تلك الحرب: القوى المحافظة بقيادة الداماد فريد، الصدر الأعظم الموالي للسلطنة، والقوى "الوطنية" الناشئة التي كانت تهيئ نفسها للسيطرة على الدولة بعد زوال الخلافة والسلطنة، وغالباً في تواطؤ "ولو ضمني" مع قوى الاحتلال الغربية. من ناحية شكلية قال المؤرخون يومها ان الصدر الأعظم، ودول التفاهم الحلفاء كان لهم الهدف نفسه في خضم تلك الحرب: سحق الحركة الوطنية. غير أن هذا التطابق في الهدف لم يكن صحيحاً، بل ستثبت الأحداث المقبلة، ان الأمر كان على عكس ذلك تماماً، حيث أن كل طرف كان يعمل لحسابه الخاص، وبالتحالف والتصارع مع الطرفين الآخرين حسب ظروف كل مرحلة، وتطورات الأحداث يوماً بيوم. ولئن كانت قوات الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كمال تمكنت من حسم الأمور في مثل هذا اليوم من ذلك العام، حيث تمكنت تلك القوات من سحق المحافظين تماماً لتعلن تفرغها لطرد قوى الاحتلال من البلاد، فإن شكوكاً كثيرة ثارت، ولا تزال ثائرة لمعرفة ما إذا كان ثمة، في الخفاء، توافق ضمني بين قوى الاحتلال هذه وبين القوى الوطنية، غايته سحق القوى "المحافظة" التي كانت، هي، تحاول أن تلعب لعبتها الأخيرة في محاربة وطنيي مصطفى كمال، معتقدة ان قوات التفاهم الدولي تؤيدها لخوف هذه، كما يقول واحد من المؤرخين، من أن "تقدمية مصطفى كمال واصحابه قد تجرهم الى التحالف مع الروس البلاشفة". اذن، يوم 24 تشرين الثاني نوفمبر 1920، اعلنت الحركة الوطنية انها قضت على ثورات عدة كانت مندلعة في مناطق البلاد: ثورة انزافور - في الغرب، ثورة دوزجي - في الشمال الغربي، ثورة قونيا - في الوسط الجنوبي، ثورة قبيلة "الوطنية" - هكذا كان اسمها - في الجنوب الشرقي، وأخيراً ثورة اثيم الشركسي - في الشمال الشرقي. وكان من الواضح ان القسم الأعظم من هذه الثورات تحركه السلطات الرسمية. لكن ما لم يكن واضحاً، وما سيصار الى الحديث عنه كثيراً في ما بعد، هو أن قوى التفاهم، التي كانت في الأصل تريد اضعاف فريقي النزاع الأساسيين في تركيا، ساعدت - أو حرضت - كلاً منهما ضد الآخر. وهي كانت تعرف أنها، في نهاية الأمر، سوف تتفاهم مع الطرف المنتصر، عارفة سلفاً ان هذا الطرف سيكون مصطفى كمال وجماعته. وكانت الحرب بين "الرجعيين" و"الوطنيين" اندلعت منذ بداية الصيف، في شكل سجال بين "اسطنبول" و"انقرة" سمي ب"حرب الفتاوى". لكن تلك الحرب - على الورق - سرعان ما تحولت الى، ثم تزامنت مع حرب ثانية أكثر دموية راحت تندلع هنا لتخبو هناك، في شتى أنحاء الأناضول. وكانت سلطات اسطنبول قادرة في تلك الحرب على استثارة النعرات الدينية ضد علمانية أتاتورك وأصحابه، كما ان هؤلاء كانوا قادرين على استثارة النعرة الوطنية القومية للوقوف ضد سلطة كان كثيرون من أبناء الشعب التركي يرون أنها كلفتهم غالياً. والغريب ان ذلك الصراع الدموي بين الفئتين كان يعرف ضربات مسرحية مرعبة واستثنائية وانقلاباً في التحالفات، فأحمد ازفانور يكون مرة مع الوطنيين، ثم يتحول الى "الرجعيين" في منطقة بورصة، ثم تأتي قوات الشركسي أثيم لتقاتل حيناً ضد ازفانور، ثم معه ضد اعدائه. وهكذا، كانت الأرض جاهزة لألعاب الكواليس وأكياس النقود وأنواع الرشاوى. وهو وضع دام شهوراً، قبل أن يكتب النصر في نهاية الأمر للوطنيين، الذين ما أن انتهوا من معركتهم الداخلية، حتى التفتوا صوب "الاحتلال" الأجنبي يزيلونه تدريجاً، الى أن انفرد الوطنيون بالسلطة وصاروا... حلفاء خلصاً لقوى التفاهم التي قاموا أصلاً ليطردوها... الصورة: مصطفى كمال مع اثيم الشركسي - بالفرو - حين كان حليفاً له.