معرض الفنان التشكيلي سمير خدّاج، كان حدثاً مغايراً لإيقاعات معارض بيروت. ربما لأنه سجل موقفاً إنسانياً ووجدانياً عميقاً، أعاد فتح الجراح التي لم تندمل بعد، على صور ما برحت عالقة في ماء العين. فجعل يسترجع ذاكرة حروب بيروت وفواجعها، بأسلوب لا يخلو من الإستعراضية البعيدة عن الإفتعال أو المجانية. وعلى رغم هشاشة بعض المواد التصويرية والتجهيزية، استطاع ان يسترعي انتباه المتفرّج ويحضه على المشاركة الإيجايبة، من خلال وسائل عرض محدثة متنوعة "الحاملات" والمتون، عكست محاور افكاره التي توزعت على قاعتين من الجناح الأرضي لبهو قصر الأونسكو في بيروت. معرض من ورق. إذا جاز التشبيه. لفرط ما يعتمد على الورق كمادة رقيقة متعددة الوظائف والإمكانات والمعالجات التشكيلية، في سبيل عرض الفكرة التي لا تكتفي، كي تتحقق بصرياً، باللوحة الورقية المعلّقة على الحائط بل تتعداها الى صورٍ منعكسة لشرائح ضوئية وشرائط أفلام فيديو قصيرة تستكشف معالم المدينة بأمكنتها وناسها وساحاتها وشوارعها الحاملة تشوهات الحرب... فضلاً عن مجسّمات ثلاثية الأبعاد مانيكان من ورق أبيض وأسلاك معدن وخشب ولفائف نايلون شفافة... مما يوحي بمناخ سينوغرافي قاتم وضبابي وشفاف في آن. هكذا يتم الدخول الى زمن بيروت الحرب، الذي جسّده خداج في القاعة الأولى، بلغة الأسود والأبيض، التي شملت كل المعروضات. إذ ينتقل المرء بين مجسّمات بيضاء مؤسلبة لقامات الشهداء، كأنه واحد منهم، ثم يكتشف في تجواله بأن هؤلاء تركوا صورهم المعلّقة على الجدارن فارغة فتجمعوا وتظاهروا ووقفوا ملوّحين بأيديهم. وهم متشابهون لأنهم بلا ملامح تميّزهم. فصورهم غابت في بياضها لأنها ممحوّة داخل الإطار الفارغ. الأسود يمحو وتارة الأبيض. كلاهما يمحوان بصمت أراده خداج قاطعاً كحدّ السيف. إزاءه لم يجد خيراً من الصورة الفوتوغرافية كشاهد على تلك المرحلة. فاستنسخ صوراً لخراب بيروت على أحجام كبيرة، ثم أخذ يعقب عليها بالمحو والبسط والتمويه لدرجات الأبيض والأسود والرمادي الذي يتوسطهما، كي يمنح تلك الصور قماشة انفعالاته ورؤاه وإيحاءاته ودلالاته. فالرمادي حين يتكاثف يصير دخاناً لا يلبث أن يغطي الأبنية والشوارع المقفرة، كأنه ظل الموت السادر هو الذي يخيّم على بيروت ويحيلها مدينة للأشباح أثناء القصف. وفي مكان آخر تتشكل غيمة سوداء على هيئة إنسان تتصاعد أنفاسه في سماء قاتمة، او ينحدر متساقطاً من الأعلى الى هوة الفراغ. ومنظر بيروت كما رآه خداج درامياً ورمزياً للغاية، لا سيما وأن صور الشفافيات المنعكسة على الجدران تتخذ احياناً مظاهر اللقى الآثارية، في حين انها ليست إلا أجزاء صغيرة مكبّرة من صورة كاملة كأنها عمل تشريحي بمقبض رسّام يخترق جلد المدينة كي يرى، ليصل الى المسام التي تغدو إشارات لكتابة ملغزة أو بصمات أيدٍ مبهمة. هكذا يقترب خداج من شعر الصورة من أعماقها الموهومة، بكل الوسائل التي تجعله يردم الهوة ما بين العمل التشكيلي وذات الفنان أو رؤيته بكل محرضاتها ومكنوناتها المستوحاة من الحياة نفسها، ومن حسّ المعرفة ومتعة الإكتشاف. ومن الماضي الميت في القاعة الأولى لمدينة اغتالتها الحرب، الى متاهات العيش في بيروت في القاعة الثانية حيث كوابيس الألوان المتوحشة وشرقطاتها الملتهبة على مساحة هي معنى آخر للمكان الباحث عن إقامة افتراضية تستقل الجدران وتفترش الحضيض وتحتل تقاطعات الزوايا الأربع للقاعة. هكذا يعيد خداج النظر في مسائل الفن نفسه، المساحة وقياس الفضاء اللوني والرسم والتجسيم المتعدد الأبعاد والتشخيص والتجريد والحقيقة المعاشة والأخرى المستعادة بأسلوب متعدد الوسائط في تجهيز فني ذي نكهة سينوغرافية مهمة لقيمة الضوء والشكل واللون. كما يطرح خداج، زوايا متعددة للرؤية، من المستوى الأفقي للنظر الى المستوى العمودي فضلاً عن الدوران حول مجسّمات الورق البيضاء التي يعطيها الفنان هذه المرة الحركات الإعتيادية للناس. مثل مجسم الرجل الذي يعبر الشارع بدراجته والمرأة التي تهرول والطفل الذي يقفز، مما يجعل المتفرج يدخل في لعبة الإيهام وتتحول القاعة بمعروضاتها الى شارع من شوارع بيروت، ليصير هو واحداً من أبنائها. يجول ببصره كأنه يمشي في عالم صورها وألوان عذاباتها وقساوة تجاربها وانكساراتها. إلاّ أن السير في الشارع من شأنه ان يكشف حقائق الأشياء ويجلو إبهامها في التعبير اللوني. فيكتشف قارئ اللوحات شوارع بيروت وأبنيتها من جدار لجدار، من داخل معاناة كائنات محطمة ومذعورة في محيط فن الألوان البركانية الحمراء واللطخات الخضراء المكملة لها على خلفية سوداء. ويتراءى أحياناً عناق الغيوم مثل عناق عاشقين يفصلهما أفق في طقوس الغربة. تلك الطقوس التي تحيق بكائن لا يشبه إلاّ ظله في الخرائب. وبيروت التي كانت صامتة في زمن الجنّاز الأسود وشهداؤها بأكفانهم البيضاء يحكمهم الجمود، ينقلب حالها الى حركة هوجاء تشبه يقظة الحياة التي تصارع من أجل البقاء. سمير خدّاج صادق وعفوي حين يعبث بنظام الأشياء. عالمه يتطاير قبل أن ينفجر وأفكاره متوقدة وجامحة، لا يحدّها شيء سوى أحلامها، لذلك تنتشر لتستعيد زمناً ومناخاً ومكاناً، بحرّية قصوى في التعبير، بوجود إنساني مؤسلب وحاضر بقوة، بين تلطيخ وبسط ومعالجة لونية، وذلك على مقاييس موحدة من الورق كأنها رؤى متسلسلة من نَفَسٍ إنفعالي واحد. كل ورقة على الجدار مرتبطة بما يليها وما يكملها على الأرض. في سياق احتفالي، لجماعات وأفراد وغيوم وأمكنة خالية ونوافذ مقفلة. اكثر ما يلفت ذلك الوجه الوحيد الذي يطل على هاويته مستسلماً لشظاياً اللون والثقوب التي تحدثها الريشة، كأنه تحت وابل رشقها الرصاصي. في اعمال خداج أفق وكائن مثل القلب وسماء بيضاء مع غيمة سوداء بين ابنية ملتوية خطوطها كلها مهزوزة. لكن بيروت في ليلها وصباحاتها تضج بحركة الحياة على رغم الموت. وهكذا رآها الفنان من غربته الباريسية التي أتاحت له بموجاتها الصاعدة، قراءة ذاته عن كثب على ضوء حال المدينة التي عرفها في الحرب وعاد ليسجل علاماتها وجروحها في زمن هو اللحظات الأخيرة من القرن الآفل.