للمرة الأولى تنجلى مراحل الفنان التشكيلي اللبناني سمير خداج على هذا النحو من العرض البصري الذي يمنحه معرضه الاستعادي في صالة بيروت للمعارض (البيال) الذي نظمته غاليري جانين ربيز بالتعاون مع مؤسسة سوليدير. ورغم غياب بعض النتاجات التي كان يتلفها الفنان عمداً بعد نهاية مدة العرض لأنه كان ينفذها على مواد سريعة الزوال، غير أن الأرشيف المصوّر بالفيديو للتجارب الغائبة يعطي فكرة واضحة عن منعطفات تلك التجارب التي تندرج في فن التجهيزات. سمير خداج هو من بين الفنانين القلائل الذين أرّخوا لتجربة الحرب الأليمة، التي دفعته في العام 1990 إلى مغادرة لبنان للعيش والعمل في باريس. وفي الطبقة السفلية من إحدى المستشفيات الباريسية المتخصصة بمعالجة الأمراض السرطانية أخذ يفجر كل المعاناة التي اختزنتها ذاكرته أثناء الحرب اللبنانية، بعد سنوات الصمت، التي توقف فيها عن الرسم، ليعود بزخم كبير ويجسد حطام الأمكنة وخرائب بيروت بأبنيتها وأحيائها وأسواقها. إنه الحطام الكارثيّ الذي لا يشبه أي تدمير ليس للقيم الإنسانية فحسب بل للقيم الجمالية المألوفة في الفن. واللوحات التي تعود إلى تلك المرحلة تغيب عنها العناوين، لدواعي سهولة انخراط العين في مضامينها، لا تنطبق عليها مدارس الوحشية أو التعبيرية الألمانية أو التعبيرية - التجريدية (دي كوننغ) ولا الدادائية- المحدثة (روشنبرغ على وجه الخصوص)، لأنها تخطت كل ذلك نحو العنف اللوني الأخّاذ، وهو ليس إلا عنف الفنان نفسه في غضبه وسخطه وبداهته وطاقته على الابتكار والارتجال الفوري. كيف بالإمكان أن يكون الفنان على درجة كبيرة من الخفر والتحفظ والهدوء في شخصه المتواضع، أن يقتحم كل الأعراف الجمالية بما يمتلكه من شراسة وسخرية ومرارة وألم. كيف يمكن بالتالي أن يكون العنف آسراًَ وقوياً إلى هذا الحد سوى بصدق الانفعال، ذلك الانفعال الحدوثي Action حين تنكّب يد الفنان وريشته اللاهثة لالتقاط المشاعر والرؤى بين حقول المساحة التي يتقاطع فيها التلطيخ والتقطير اللوني في عملية إعادة تكوين الأمكنة القصية وانتشالها من الذاكرة بخرابها وفجواتها العميقة وكسور نوافذها وانهيارات سقوفها ومحتوياتها. إنه انتشال يتم من قعر الذاكرة إلى سطح القماش، حيث يكتشف أغوار نفسه. هكذا تبدو الأمكنة من الداخل مشوشة ومتساقطة ومتداعية لكأنها تشكو قسوة الإنسان ووحشيته. بإمكاننا إذا رفعنا عن كاهل اللوحة بعض الحطام اللوني أن نرى شخصيات مذهولة تهرول على عجل أو تقف حائرة وهي تتبدى كأشباح زرق وصفر، أو كظلال في غدوها ورواحها. ونتذكر نيقولا دو ستايل النظيف المرتب في أعماله اللاتشخيصية أنه قال مرة بأنه يقضي الليالي في تحطيم الخطوط. بينما لا يسعى خداج في تحطيمه إلا للاقتراب من ذاكرته عن الواقع الذي يتخطى الوصف والخيال، رعباً وهولاً وفوضى. كل ذلك العنف الظاهري يتأتى من علاقات الألوان المندلعة كانفجارات قزحية وحرائق تشب في لهيب مفاجئ ونيران تغدو داكنة مع مرور الوقت وقضبان ألوان محزومة كحطب الموقدة. لا يسعنا أمام جداريات خداج التي تعود إلى مرحلة أوائل التسعينات سوى أن نلتقط أنفاسنا لكي نتجول في ساحات بيروت - الحرب وكأننا نمشي وسط خرائبها. ويأخذ معنى الهدم في فن خدّاج قيمته التعبيرية المتميزة في عملية إعادة تشييد تلك الانفعالات والمشاهدات، من خلال الاشتغال على سطح اللوحة كإدخال الرمل والإسمنت والمواد الهجينة والخامات المتنوعة للوصول إلى ملمس نافر يعلن ظاهراً بأنه عمل تجريدي رائع في قتامته لكن خدّاج يقول بإنها «جدران بيروت» وما تكتنفها من عبارات وشعارات وشرايين مفتوحة وبقع وخربشات وعلامات. هكذا تتراءى جدارن خداج وهي تنزف. في حين أخذت أعماله قرابة العام 1995، منحى آخر من الرسم بالعبارات والأشكال والرموز على الكرتون المقوى الجاهز الرخيص الذي يستعمل عادة للتغليف. حين يرسم سمير خداج ينبغي أن نفتش عن الشيء الآخر الذي لم يقله، كي نعثر على اللامرئي في ما يظهر لنا من المعاني والرموز. فهو حين يرسم درجاً من مبنى مدمر ذلك ليقول بأنه لم يعد يفضي إلى البيت بل إلى المجهول. هكذا تخفي لوحة «الدرج» بإيهاماتها التجريدية البارعة وتقنايتها المتعددة وما ألصقه خداج على القماش من قطع خشب متهالكة، ألغازاً واستعارات وإثارات بصرية إمعاناً في بعث ألوان الإسمنت والردم كالأسود والرمادي وسط النثار والسيلان اللوني والنقاط المبعثرة حيث لا متنفس إلا من مكان ما يأتي عبثاً من محو للفراغ أو من زرقة آتية من سماء قليلة. كل ذلك يقول بإن الفنان يخوض حقاً صراعاً مع المادة لكنه يخرج منها منتصراً.