منسق برنامج الأممالمتحدة الانساني في العراق، هانز فان سبونيك، مرفوض اميركياً. والمقرر الخاص للجنة حقوق الانسان في العراق، ماكس فان دير شتول، مرفوض عراقياً. كلاهما معني بحقوق الفرد العراقي، هذا الذي يدفع ثمن عقوبات فتكت بالنسيج الاجتماعي وبه، وهذا الذي يُسحق بالدبابات والجرافات اذا تجرأ على التعبير عن انزعاج من النظام في بغداد. الضحية العراقية للحصار وللقمع تضع السياسة الاميركية وسياسة الحكومة العراقية في شبه تعادل اخلاقي بغض النظر عن النسبة المئوية لمساهمة احداهما في مصيبة الشعب العراقي. كلاهما تتهم الآخر وتحمله المسؤولية، وكلاهما في نهاية المطاف راضية على استمرار الوضع الراهن، لغايات وأهداف سياسية او سلطوية تخصها. والخوف ان تستمر الاوضاع السائدة فيما يتحول العراق الى قنبلة زمنية تتفجر في المنطقة بلا استئذان ولا انذار مسبق. الالمماني هانز فان سبونيك، شأنه شأن سلفه الارلندي دنيس هاليداي منسق البرنامج الانساني في العراق، يحتج تكراراً على وضع الشعب العراقي والبنية التحتية في العراق كضحية محزنة للعقوبات الشاملة التي تطاول الناس ولا تطاول النظام في بغداد. الاسبوع الماضي، انتقد فان سبونيك اسلوب التصديق على مبيعات نفطية محدودة كل ستة اشهر لأنه يفتقر التعاطي مع العراقي ك "أمة" ويحول دون التمكن من التخطيط الضروري للمستقبل. قال ان برنامج "النفط للغذاء والدواء"، اذا وفّر في اقصى الحالات مبلغ 6 بلايين دولار كل ستة اشهر، فإن اقتسام المبلغ على 23 مليون عراقي يعني ان مدخول الفرد السنوي يبلغ 550 دولاراً فقط، مقارنة مع 3 آلاف دولار قبل العقوبات، وهذا يضع العراق اليوم في "خانة الدول الأقل تطوراً بين الدول النامية". هذا اذا وصلت الى العراقيين 6 بلايين دولار كل ستة اشهر. واقع الامر ان ما يصلهم يقل عن نصف المبلغ، وان المدخول الحقيقي يبلغ بضعة دولارات شهرياً في افضل الحالات. قال ايضاً ان القيمة المخصصة للدراسة والتعليم اليوم تبلغ 200 مليون دولار سنوياً، اما المبلغ الذي خصصته الحكومة العراقية للدراسة والتعليم عام 1990 فكان 2.1 بليون دولار سنوياً. حمل فان سبونيك صورة اطفال في مدرسة ابتدائية اثناء مؤتمر صحافي له ليعرض كيف اقتلعت الحجارة من غرفة مجاورة كي يجلس عليها الاطفال في صف مكتظ، وأعرب عن القلق العميق من افرازات مرارة اليوم على الجيل الجديد من العراقيين. تحدى الادعاءات بأن العراق يصدر الطعام، وقال ان عملية توزيع الامدادات الغذائية والأدوية وتخزينها تسير على ما يرام، ودعا الى فك الارتباط بين البحث الانساني والبحث في نزع السلاح للتمكن من تشكيل رؤية عن كيف يُعامل اليوم 23 مليون عراقي. هذا الكلام، وما يشابهه مما قاله فان سبونيك سابقاً، لم يعجب الولاياتالمتحدةوبريطانيا، فتوجهتا الى الامين العام كوفي أنان وطلبتا منه طرد فان سبونيك من منصبه. دنيس هاليداي استقال السنة الماضية احتجاجاً على الصمت الدولي ازاء العقوبات الشاملة على العراقي العادي واعتبر ما يحدث في العراق بسبب العقوبات منافياً لميثاق الاممالمتحدة. قال ان 6 آلاف طفل عراقي يموتون شهرياً بسبب العقوبات، ثم جاءت منظمة "يونيسيف" لتدعم الأرقام من دون حصر الاسباب في العقوبات قطعاً. وقد تكون استقالة هاليداي استبقت طلباً باستقالته نتيجة مواقفه التي لم تعجب البعض. قصة فان سبونيك مختلفة. فمقابل الطلب الاميركي - البريطاني بإقالته، كانت هناك مواقف لعدد كبير من الدول عارضت، اولاً، التدخل الاميركي - البريطاني في تعيينات الامين العام، وثانياً، محاولة "قتل" حامل الرسالة لأن الرسالة غير مرضية. قرار الأمين العام كوفي أنان بتمديد ولاية فان سبونيك لسنة هو في رأي البعض قرار "شجاع" لأنه يتحدى الرغبة الاميركية ويأتي في اعقاب انتقاد السياسة الاميركية - البريطانية المعنية بتعليق العقود مما يهدد برنامج الأممالمتحدة الانساني في العراق. البعض الآخر يرى ان قرار أنان واقعي في ضوء تمسك المانيا بصدقية فان سبونيك وفي ضوء ما كان سيؤدي اليه قرار اقالته من افرازات سلبية على الأمانة العامة خصوصاً بعدما جاءت "استقالة" هاليداي قبل مجرد سنة. وهناك من اعتبر ان خضوع أنان لإملاء واشنطن ولندن في مثل هذا الشأن كان سينعكس عليه ويجعله هدفاً للذين يودون اتهامه بتلبية الأوامر الاميركية. ثم هناك من يشير الى طبيعة كوفي أنان ومشاعره الشخصية عندما يتعلق الأمر بمأساة انسانية كتلك التي في العراق، واصراره على مقاومة غض النظر عنها. المثير للاستياء ان بريطانيا شاركت في مطالبة الامين العام بإقالة فان سبونيك علماً بأن سياستها الجديدة قامت في الفترة الاخيرة على معارضة استمرار العقوبات بسبب اثرها الانساني. اما الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية جيمس روبن فقال ان الولاياتالمتحدة لا تثق بموضوعية فان سبونيك، واتهمه بنوع من التواطؤ مع الحكومة العراقية في تخزين المواد الانسانية وحرمان الشعب العراقي منها. الادارة الاميركية ليست موضوعية، باعترافها، في شأن العراق، ويفتقد حكمها على موضوعية الآخرين لأدنى درجات الموضوعية. لذلك يذكّر احتجاجها على فان سبونيك باحتجاج بغداد على فان دير شتول، المقرر الخاص للجنة حقوق الانسان. زار الهولندي فان ديرشتول العراق للمرة الاولى اوائل 1992، ومنذ ذلك الحين ترفض بغداد عودته، ويستمر فان ديرشتول في تقديم التقارير الى الجمعية العامة للأمم المتحدة حول خروقات حقوق الانسان في العراق بناء على مساعدات ومعلومات يتلقاها من مصادر مختلفة. وفي تقريره الاخير قال فان ديرشتول ان حالة حقوق الانسان في العراق "آخذة في التفاقم وقمع الحقوق المدنية والسياسية مستمر بلا هوادة"، ورأيه منذ عام 1992 انها "تتسم بدرجة من الخطورة يندر ان يوجد نظير لها على الصعيد العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية". وخلص فان دير شتول الى ان "النظام السياسي - القانوني في العراق لا يتوافق مع احترام حقوق الارنسان، بل ينطوي على انتهاكات منهجية ونظامية في كافة انحاء البلاد، بما يطال جميع السكان تقريباً". وتابع "...وعلى وجه الخصوص: يجمع الرئيس صدام حسين بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع خضوع القضاة وقضاة التحقيق للمسؤولية أمامه أساساً، وتعمل القوات المسلحة والشرطة وعناصر حزب البعث تحت امرة الرئيس. وتخضع المحاكم للسلطة التنفيذية. والأحزاب السياسية محظورة فيما عدا حزب البعث الذي يعد هو الدولة. ولا توجد حرية التعبير او النشاط حيث ان مجرد التلميح ان شخصاً ما لا يؤيد الرئيس ينضوي على احتمال توقيع عقوبة الاعدام على مثل ذلك الشخص. ولا توجد حرية اعلام في الاذاعة او التلفزيون، وهما اكثر وسائط الاعلام الجماهيري شيوعاً". حالات الاعدام والاختفاء وتدمير التجمعات المدنية عديدة وليست جديدة على الساحة العراقية. وقد جاء في التقرير، ودعمته مصادر اخرى موثوق بها، ان السلطات دمرت "بالجرافات" قطاعات سكنية قبل شهور عديدة في العاصمة بغداد وجوارها للقضاء على بوادر "معارضة" للنظام، من وجهة نظر السلطة. فالسحق بمعناه الكامل جزء متكامل من تفكير السلطات في بغداد لا يقتصر على الأفراد المتهمين وانما يشمل كامل البيئة التي ينطلقون منها. ولو كان القرار 688، الذي طالب بالتوقف عن قمع الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال، قراراً اساسياً في قاموس المجموعة الدولية، لكان تم تبنيه بموجب الفصل السابع من الميثاق، شأنه شأن كل قرار آخر صدر في موضوع العراق. الا ان حالة حقوق الانسان في العراق ثانوية في أولويات السياسات الدولية. وبالنتيجة يقع الفرد العراقي ضحية القمع والقهر والاستبداد الداخلي على أيادي حكومته، ويقع ضحية السياسات الدولية والاقليمية التي تفرض عليه حصاراً شاملاً وتحوله الى سلعة في الحسابات السياسية سيئة النوايا والأهداف. وأول ما يتمناه الفرد العراقي ان يكف المسؤولون في جميع دول العالم عن تعابير التعاطف مع معاناته والحرص على مصيره. ففي ذلك اضافة الاهانة على الجروح، عما فيه نوع من مواساة النفاق المؤلمة. وعتب الفرد العراقي ليس فقط على الحكومات وإنما أيضاً على ما يسمى بالطبقة المفكرة والفكرية، العربية أولاً، ثم العالمية. فذلك الابتعاد الرهيب عن الواقع العراقي مرعب، وتعابير التعاطف ليست إلا لغوية وقد باتت نادرة. وقصر النظر ليس مقتصراً على واقع اليوم وإنما يطال الغد الخطير. فلماذا السكوت على محاولة إسكات "فان" البرنامج الإنساني، ولماذا تجاهل "فان" حقوق الإنسان مشكلة العراق ليس داخلية حصراً ولا هي خارجية حصراً. صحيح ان النظم في العراق ليس وحده المستبد في العالم والمنطقة، إنما الصحيح أيضاً ان استبداده مميز وان ذلك الاستبداد يأتي فوق معاناة الناس من حصار وعقوبات تشل حتى الجبار بينهم. قد يقال إن المعارضة العراقية، بتشرذمها وفساد البعض فيها وخلافاتها وفشل فكر وممارسة ورؤية بعض أطرافها، ليست البديل. وقد لا تكون أبداً هي البديل، إنما هذا لا ينفي ضرورة التذكير الدائم بأن الموجود ليس في صالح العراقيين، بل هو شريك في مأساتهم. المعارضة العراقية في ندوة لها وبثتها "مؤسسة الشرق الأدنى" في واشنطن قبيل اجتماعاتها في نيويورك، شنت حملة على الإعلام العربي، واتهمته بالتحامل عليها. بعض أقطاب هذه المعارضة دخل متاهات اتهام صحافيين عرب ب"العمالة" لصالح صدام حسين لمجرد معارضتهم لاستخدام العقوبات كأداة من أدوات إطاحة النظام. مثل هذه السخافة تزيد من اللاصدقية التي تميز الأقطاب البارزة في المعارضة ليس فقط لدى الإعلام العربي، وإنما في عقر الدار التي يفترض ان تكون الأولوية لدى المعارضة - لدى الفرد العراقي. فمهما غُلّفت مسألة العقوبات بهذا الاخراج أو ذاك، انها أداة فاشلة لم تؤثر على النظام ولم تجد المعارضة فيما فتكت بالناس ودمرت النسيج الاجتماعي في العراق. ومهما زعمت بغداد ان العراق ضحية العقوبات وحدها، فإن سجلها حافل بقمع رهيب ولن تكون أبداً خيار الناس طالما النظام يضع بقاءه فوق بقاء البلد. لذلك، الشكر إلى فان سبونيك لأنه يذكرنا بأن حالة استثنائية لا تشكل البديل عن بناء "أمة". والشكر إلى فان ديرشتول، لأنه يذكرنا بالبنية التحتية في فكر النظام العراقي. ولنتذكر ان في العراق قنبلة زمنية غير موقوتة.