من المعروف ان السجالات من حول شؤون النقد والابداع لا تتوقف في فرنسا ابداً، فهناك على الدوام مادة يختصم من حولها اصحاب الشأن، وهناك على الدوام حدة في الاختصام، بحيث ان الحياة الثقافية الفرنسية تسير، دائماً تقريباً، على ايقاع تلك السجالات. غير ان السجال القائم حالياً، على اعمدة الصحف وفي اروقة العمل والانتاج السينمائيين، يبدو اكثر حدة وجدية، ويبدو اصحابه وكأنهم راغبون - مرة والى الابد - في الوصول الى استنتاجات قاطعة. والسجال قائم، هذه المرة، من حول علاقة النقد بالسينما، والملفت ان الذين بادورا الى اثارته، سينمائيون ناجحون في المقاييس التجارية، وقلما تمكن النقد من التأثير على ارتياد الجمهور لاعمالهم، فلا النقد السلبي الذي وُجّه الى هذه الاعمال قلل من عدد الجمهور، ولا النقد الايجابي زاد من ذلك العدد. وحسبنا ان نذكر اسمين من بين اسماء هؤلاء السينمائيين حتى نصل الى هذه النتيجة: باتريس لوكونت، وكاترين بريّا. فالاول لا يتوقف عن تحقيق نجاح اثر آخر، اما الثانية فانها، حتى حققت نجاحاً غير مستحق، حين اطلقت فيلمها الاباحي "رومانس" فوصل الامر بالنقاد - بعضهم على الاقل - الى معاملته معاملة الافلام الفنية، فجمع "المجد" من طرفيه: تدفق عليه الجمهور لما فيه من اباحية وعري، وناله من الاطراء ما ناله. ومع هذا فان السيد والسيدة غاضبان. يريدان من النقاد اكثر. يكتبان المقالات ويوقعان العرائض، ويصلان الى حد القول بان النقد هو المسؤول عن السقوط المريع الذي تعيشه السينما الفرنسية في هذه الايام… والواقع ان هذين السينمائيين يعودان الى اثارة مشكلة قديمة هي مشكلة علاقة الفن بالنقد بالجمهور، وهي علاقة مركّبة من الصعب الوصول الى اجوبة قاطعة في شأن اسئلتها. والسجال حولها مفتوح وسيظل مفتوحاً، طالما ان المبدعين يريدون من النقد ان يكون مجرد مروّج لأعمالهم، وطالما ان النقاد يتطلعون الى دور اكبر من هذا بكثير، دور يتراوح بين التأسيس لمدارس وتيارات سينمائية، وبين الاستحواذ على الحق في اعادة قراءة العمل الفني تماماً. كما ان العمل الفني يعطي نفسه الحق في اعادة قراءة الحياة وتشعباتها على ضوء منظور الذات. وفي هذا الاطار واضح ان لدينا نظرتان الى العملية النقدية من الصعب ان تلتقيا… اللهم الا اذا دخل رأس المال في كل ذلك! كيف؟ ببساطة، عن طريق الواقع الذي يقول لنا ان شركات الانتاج الكبرى، ومؤسسات التوزيع، صارت من القوة والتشعب بشكل يمكنها، حتى، من تملك كبريات المجلات السينمائية واجهزة الاعلام بشكل عام، ما يجعل واحدة من "وظائف النقد" بالتحديد،الترويج لمنتوجات تلك الشركات. وحسبنا في هذا المجال ان نذكر ان اربعة من اكثر المجلات السينمائية شعبية في فرنسا، واثنتين من اهمها في بريطانيا، ونحو دزينة من المجلات الاساسية في الولاياتالمتحدة مملوكة لشركات الانتاج. ومن هنا ذلك الصخب الموسمي الذي يدور من حول فيلم ما ويكون حجمه على حجم الموازنة المخصصة للدعاية للفيلم. فاذا اضفنا الى هذا ما هو ادهى: اي ان شبكات التلفزة التي باتت تشكل وتحرّك تعامل المتفرجين مع ما يعرض من افلام، حتى في الصالات، ترتبط بعلاقات شديدة التعقيد مع عملية الانتاج السينمائي ككل، نفهم القواعد الجديدة التي باتت للعبة. وكيف ان جزءاً كبيراً من النقد لم يعد بريئاً. غير ان الأسوأ من هذا، هو ان السينمائيين الغاضبين في فرنسا على النقد، لا يبدون اليوم غاضبين على هذا النوع من النقد، فهو - في نهاية الامر - حليفهم والمروّج الاول لأفلامهم في علاقتهم مع الشركات التي تنتجها. بل هم غاضبون على النقد الآخر، الاكثر حرية، والذي يعتبر نفسه، في الاماكن التي لا يزال قادراً على التعبير عن نفسه فيها بضع مجلات وصحف هنا وهناك، ودقائق "يسرقها" في برامج تلفزيونية في بعض الاحيان، وعلى اعمدة صحف كبرى تلعب لعبة الليبرالية بين الحين والآخر، يعتبر نفسه آخر حصون البراءة النقدية. هذا النوع من النقد هو، اليوم، محل التشكيك والهجوم. والسادة المبدعون يريدون له ان ينتهي لانه، الوحيد، المزعج الذي يقول، بعد، ما يفكر فيه دون ادنى اعتبار للمصالح المعقدة والمتشابكة. فهل نتنبأ منذ الآن بأن الانتصار سيكون لهذه المصالح على ما تبقى من كلام فني خالص، في مجال صناعة باتت ارقامها تحصى بالمليارات، لا بالملايين؟