على رغم ما يكتب هنا وهناك، ويقال في هذا الملتقى السينمائي وذلك المهرجان، لا يمكن الجزم بتراجع المواكبة النقدية حالياً بعد تكاثر الإنتاج السينمائي، فهي لم تختف قط، وقد باتت لها -ومنذ زمن طويل- أقلام معروفة ومحدّدة ومواظِبة، وبات وجودها ملحوظاً وإن بشكل غير مستقر، وهناك بالتالي كتابات كثيرة مدبّجة من طرف بعض هؤلاء النقاد المعروفين، في الجرائد وفي المواقع المتخصصة، تحاول أن تقتفي آثار المنتوج السينمائي المغربي بشكل حثيث وقريب. والأكيد أنه كان لا بد من تواجد هذا النقد بكثرة، وبشكل مداوم، نظراً لهذه الطفرة الإنتاجية الملحوظة والكمّ المتراكم، فهي الوحيدة الكفيلة بتجذير سينما حقيقية مبدعة وخلاقة، تساهم في الحركية الثقافية والتوعية، وتساعد على رسم صورة حقيقية للبلد. حقاً اختفت الصفحات الأسبوعية من الجرائد اليومية منذ أكثر من عشر سنوات، لكن هناك بعض المجلات التي تظهر وتختفي بقوة الواقع، والمادةُ النقدية تواكب ظهورها بقدر أو آخر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يوجد أمر يجب الإلحاح على إظهار تراجعه فعلاً في هذا المجال المتميز، وهو المقال النقدي حول الأفلام، أي قراءة الفيلم، فالنقد هو محاورة الشريط السينمائي وتحليله بغية إظهار الفكرة التي تحدد مكمن إثارته وقوته ومدى تأثيره العاطفي، أو العكس، أي تبيان الخلل الذي يحول دون إبداعيته ووصوله إلى القلوب والعقول، فيكون المقال نصاً، وليس مجردَ عرض للبطاقة التقنية أو تلخيصاً لحكاية الفيلم، بل جدالاً فكرياً بلغة نقدية وأدبية جميلة، أي نصاً على النص في تواز تام. هذا ما ينقص حالياً، وهو ما يجب السؤال حوله والإجابة عنه. ولا نظن أن غياب النقاد المتخصصين هو السبب، وإن كان العدد الموجود هو ذاته ولم يتغير كثيراً، كما أشرنا، فالنقاد القلائل أنفسهم لا يزالون يمسكون بجمرة السينفيليا، أوعشق السينما، بحكم الواقع الثقافي الذي لم يعد ينتج نُقاداً يفكرون في الموضوع السينمائي. وهم جميعاً من خريجي النوادي السينمائية، فجلّ الشباب حالياً يريد فقط أن يصير مخرجاً، ونادراً ما يفكر في ممارسة النقد. كان الأفضل لو مارس النقد أولاً ليتمرس بالسينما كفن إبداعي وكرؤية للعالم، كما رسّخ ذلك نقاد الموجة الجديدة في فرنسا، الذين انتقلوا من النقد إلى الإخراج، وخلقوا تياراً سينمائياً قوياً أثّر في كل الموجات السينمائية العالمية التي جاءت بعده، بل وثوّروا ما اصطلح عليه ذات زمن بالسينما التجارية، ومن ضمنها السينما الأكبر، التي هي سينما هوليوود. وفي الإطار المغربي، لدينا الجمعية المغربية لنقاد السينما، التي تلعب دوراً بادياً منذ سنة 1995، وتضم نخبة هامة من نقاد السينما المغاربة، وتواكب باستمرار المنتوج السينمائي، أحياناً بوتيرة أقل، لكنها حاضرة وتلعب دورها الأساسي وإن لم تساعدها الظروف أحياناً، لِتشتُّت أعضائها في جل أرجاء الوطن، واعتمادهم على قدراتهم الذاتية ومن دون معيل مادي عمومي، ففي خلال السنوات السابقة، وبعد توقف مجلتها التي كانت تضم قراءات هامة في الأفلام، اتجهت الجمعية نحو الحرم الجامعي، وفي هذا الصدد أدخلت الفيلم المغربي في حقل الدراسة الأكاديمية عبر عقد ندوات فكرية رصينة ومحكمة، وهو أمر بالغ الأهمية. ومن خلال مثل هذه المبادرات العلمية والجامعية، يمكن حقيقةً ترسيخ الممارسة النقدية، وذلك عبر المرور من قناة الطلاب وإبداء أهمية الكتابة في السينما وحول الأفلام. إن محاورة فيلم لأشق من كتابة مقال سياسي أو اقتصادي يتطلب فقط المعلومات والخبر. المقال النقدي تلزمه معرفة متعددة ومعاشرة طويلة للمشاهدة الفيلمية، فالسينما حالياً هي التي تجعل العالم ما هو، وتمنح شكل العيش وطرق السلوك، وترسخ الأيديولوجيا، أو أي فكر معين وموجَّه في الأذهان. وطبعاً تبقى الصحيفة والمجلة المتخصصة أهم وسيلة لإنعاش النقد وتطويره، ولكي يكون الأمر كذلك لا بد من الدعم من طرف مسؤولي القطاع ومن طرف المخرجين والسينمائيين أيضاً، الذين يجب أن يلحوا في وجودها لمصلحتهم الفنية أساساً، وعدم الاكتفاء بطلب الدعم المادي فقط، فالسينما هي قاطرة الإبداع الثقافي في المغرب الحالي، وكفى بذلك سبباً وجيهاً.