فريقان متشابكان. فريق مناصر للعولمة، بفهم او بقليل من الفهم، وفريق مقاوم للعولمة، بفهم واحيانا بامتناع عن الفهم، وتتصدر الفريقان اصوات او اقلام متطرفة في التشيع وفي الرفض، قرأت كتاباً ومقالات متعددة لتوماس فريدمان، أشد المناصرين حماسة وغلواً، وتصورت وقتها انه قال في العولمة وعنها كل ما يمكن ان يقال، واكتشفت بعدها انني كنت مخطئاً، فما سطره فريدمان في كتابه "ليكسس اشارة الى السيارة اليابانية الفاخرة وشجرة الزيتون"، وما ضمنه فيه يستطيع ان يكون بداية بلا نهاية لسلاسل روايات اكثرها بلاهات ينشغل بتأليفها وترديدها كثيرون، او يستطيع بما ضمنه فيه ان يكون رصداً لحتميات لا تقبل النقاش. بل ان هذه الحتميات تكاثرت واشتد ساعدها ومنطقها لدرجة جعلت بعض المبشرين يقترب من حافة الكفر. احدهم منذ اسابيع كتب في جريدة فرنسية يقول ان العولميين ينظرون للعالم كما لو كان قد مر في تطوره بثلاثة عصور.. عصر الالوهية اي عصر الاديان متلاحقة او متنافسة. وعصر العقل، ابتداء من القرن الثامن عشر، وهو القرن الذي وضعت فيه كل اسس السياسة بمفاهيمها الحالية. واخيرا، عصر اليقين، اي عصر العولمة، عصر الدين الأوحد الذي لن يلتحق به ولا ينافسه دين آخر.. الى هذا الحد وصل فكر بعض قادة التبشير بالعولمة في كتاباتهم الأخيرة. كان السجال، وربما لايزال بالنسبة الى الكثيرين، مثيراً، وهكذا قد يستمر طالما ظل على مستوى المفكرين والمنظرين، سجال المثقفين متعة بشرط ان يبقى داخل دائرتهم، ونكبة إن نجح طرفا السجال او طرف منهما في غواية السلطة السياسية للاشتراك فيه. وكارثة للجميع إن تمكن طرف في السجال فحوّل السلطة من مراقب او مشارك عن بُعد الى متورط او الى ما هو اخطر: الشريك المؤمن والمتيقن. ويبدو ان هذا هو تماما ما يحدث متدرجاً في معظم السجالات بين مؤيدين ومعارضين للعولمة. يبدو ان السجال خرج من موقعه ودخل السياسة، وما كنا نعتبره مثيراً في السجال ومسلياً احيانا مثل متابعة هذا الكم الهائل من البلاهات، اصبحنا نجده مخيفاً، البلاهات صارت سياسات. والخرافات صارت قرارات، والأوهام صارت يقينيات.. وفي السياسة هذا مخيف لأنه خطير. * * * * هالني تطور لغة السجال حول العولمة. وهالني اكثر، انضمام السياسيين الى السجال. وهالني بشكل خاص "الصياغات شبه الدينية، او المقدسة"، التي يستخدمها غلاة المبشرين بالعولمة والمقاومة على حد سواء. وقبل- او فوق- هذا وذاك، شد انتباهي هذا الاهتمام المتزايد من جانب "مفكري" و"ممثلي" العسكر والمسيسين منهم بموضوعات السجال، وبخاصة تلك الموضوعات التي تمس رموزاً كثر الحديث أخيراً عن اهتزاز في قيمتها وفي سمعتها، مثل "سيادة" الدولة، و"قوة" الدولة، و"الخلل" الاجتماعي والسياسي، و"الايادي الخفية"، وهيمنة السوق على ادوات الحكم، وأسبقية السوق على الدولة، والدولة او انفراطها، والعشق المتبادل بين اصوليات دينية واصوليات مالية ورأسمالية. ونهب الثروات الوطنية قبل او بعد غسلها، ونهاية الوطن والوطنية، وصعود قوى "غير مؤسسية" بنفوذ "فوق مؤسسي"، هذه الرموز وغيرها بقيت في معظم المجتمعات النامية بالذات ادوات تعريف لم يحن أوان الاستغناء عنها. العولمة تيار صاعد. هذه العبارة لا أشك في جديتها وواقعيتها. ولكن اشك في صحة وسلامة الاستسلام لها. ويعترف المبشرون بالعولمة انها ليست عسلاً صافياً بل في احيان قد تكون علقماً وفي احيان اخرى عذاباً أليماً. ولكن ما لايقوله المبشرون هو ان الغالبية تعاني، وان هذه الغالبية تزداد نسبتها ولا تنقص، وأن معظم شرور المسيرة، سواء وقعت تحت اسم العولمة، او الرأسمالية المتوحشة، او مرحلة اليقين المقدس والجديد، تزداد وحشية وصعوبة. ويركز جانب المقاومة، وهو الجانب الأضعف، على عدد من النقاط يراها بؤر خلل شديد يهدد سلامة بعض المجتمعات السائرة بغير رشد ولا روية على طريق العولمة، ويهدد في الوقت نفسه استقرار الامن والسلام الدوليين، ويهدد ثالثا بعض اهم اسس العولمة ذاتها مثل الديموقراطية والشفافية والمشاركة الواسعة في النشاط الاقتصادي والسياسي وتوسيع قاعدة السوق. اما النقاط او البؤر المختلة فيأتي في صدارتها هذا الخلل المتفاقم في التوازن الاجتماعي، سواء على الصعيد الداخلي او على الصعيد العالمي بين فقراء العالم وأغنيائه. ما زال العالم بعد سنوات من تعميم تجربة حرية السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، يعاني خُمس سكانه من فقر بالغ. اكثر من بليون وثلث البليون من سكان العالم يعيش الفرد منهم على ما يعادل دولاراً واحداً في اليوم. لذلك كان حقا مدعاة للأسى تعليق احد كبار المعلقين الاميركيين، واشهر المبشرين بالعولمة، بأن العولمة ستحل هذه المشكلة. قال إن كل هؤلاء الفقراء، ويعترف بأنهم سيزيدون عدداً وفقراً، سيكون غذاؤهم الاساسي شطيرة "ماكدونالد" لأنهم، حتى مع فقرهم، مشاركون في مسيرة العولمة. ولا ارى، ولا يرى رئيس تحرير "لوموند ديبلوماتيك" اختلافاً، بين ما يقوله هذا المعلق الاميركي الأشهر وبين ما قالته ماري انطوانيت ذات يوم في العام 1789، اي في ايام صنعت التاريخ الذي نعيش ذيوله وبعضنا يمارس الآن عملية تجديده. نقطة الخلل الثانية هي العلاقة المتردية، بكل معاني التردي، بين الدولة وظواهر او رموز متصلة بالدولة. للمرة الاولى منذ 350 عاماً تتنازل الدولة طواعية، او هكذا يبدو، عن اهم مكوناتها وربما اهم مسوغات وجودها، وبينها السيادة، الدولة صارت "أقل دولة"، او صارت اضعف.. صارت اضعف في مواجهة المؤسسات المالية الدولية التي تلاحقها بسوط القروض وفوائدها لتنفذ شروطاً تتعلق بشكلها - اي شكل الدولة - ومضمونها، وهياكلها ومؤسساتها وفلسفاتها السياسية، شروط ما كانت لتنفذها لولا هذا السوط وسياط اخرى. الدولة بالغة الضعف في مواجهة القطيع الالكتروني، وهو التعبير الذي اختاره توماس فريدمان، وأستحسنه جورج سوروس، ليصف هؤلاء المضاربين بالمال في الاسواق وعملاءهم في داخل الدولة. لقد اصبح هذا القطيع بقيادة او بنصائح مؤسسات التقويم المالي والاقتصادي يمثل ربما اقوى قوة ضاربة - غير مسلحة - عرفها التطور الانساني الحديث. اعجبتني المقارنة التي صاغها احد المعلقين خلال عرضه انشطة هذه المؤسسات التي تقرر ذات صباح ان سندات الدولة لا تستحق ما كان يدفع فيها يوم امس، فتسقط قيمة السندات، ويسقط اقتصاد الدولة، ويحل الخراب، وتنتشر الفوضى، وتخرج تظاهرات الجوعى والغضبى، وترتعد فرائص الحكام او يسقطون من دون تدخل من عسكر الخارج او عسكر الداخل، ومن دون قرار من مؤسسات ديموقراطية قائمة، التدخل الوحيد يأتي من التظاهرات، احد اهم ادوات العنف السياسي. اما المقارنة التي قام بها فكانت بين هذه المؤسسات المتحالفة مع القطيع الالكتروني اي مع المضاربين وبين القنبلة الذرية. وفي رأيه، كما في رأيي، فإن لهذه الظاهرة الحديثة قوة تدميرية قد تكون اشد فظاعة من قوة قنبلة هيروشيما، فالقنبلة قد تدمر بنية تحتية في مقاطعة او محافظة من المحافظات وتقتل عشرات الالوف، وتشرد ألوفاً اخرى. ولكن القوة التدميرية التي يحتفظ بها القطيع الالكتروني والافراد والمؤسسات المتحالفة تستطيع ان تدمر دولة بأكملها في حجم روسيا او مثل اندونيسيا، وتتركها نهباً سهلاً ولقمة شهية للوحوش الاصغر في غابة العولمة. انه التطور الاهم في اهتمامات العسكر في كل مكان، فالعسكر في واشنطن مهتمون بأندونيسيا اشد الاهتمام - والعسكر في اندونيسيا مهتمون برصد القوى الجديدة المهيمنة على مستقبل اندونيسيا وفي مقدمها المضاربون الدوليون وصندوق النقد. يخطىء من يتصور ان قيادات سياسية مسؤولة في عدد من الدول ليست منتبهة الى خطورة هذه القوى الخارجية. في الواقع كانت ومازالت منتبهة. "الدولة" تنبهت واعترفت بأنها اضعف واكتشفت حجم الضعف، فمالت الى الدين احيانا - او على الأقل في جوانب معينة فيه - تتقوى به، ولكن وجدته - على العكس وبعد وقت غير طويل - يتقوى بها ويحضر للإجهاز عليها. حاولت تنمية "اصالة الثقافة او اصوليتها" فانتفضت قوى العولمة الثقافية لتحول بينها وبين تشييد اسوار عالية، استعانت بالإعلام... طوّرته فنياً، واتسعت به افقيا، واتخمته حشواً ولغواً وتفاهات، ولم يقو "اعلام واحد" في الدول النامية او في اوروبا الشرقية او اميركا اللاتينية على تحقيق قسمة عادلة بين الاعلام "المعولم" والاعلام "المقلد" للعولمة. انتصر الاصل والاقوى. من ناحية ثالثة صارت العولمة تعني، في عرف منظريها ومنظري مقاومتها، الانفراط اكثر مما تعني الاندماج والتناغم، يعترف المبشرون، كغيرهم، بأنه في ظل التقدم المستمر لمسيرة العولمة تفاقمت ظاهرة تمرد الأقليات على حكم الأغلبية، واشتد الطلب على تفتيت الدول القائمة الى دويلات.. لكل دويلة هويتها، ويطرح الآن وبشكل جدي شك عميق في مبدأ حق تقرير المصير، وفي الوقت نفسه زيادة التدخل الخارجي لحسم حقوق الاقليات من "قوة الدولة" وزادت الضغوط الخارجية والداخلية تطالب الدولة بأن تقفز فوق مبدأ الوحدة الوطنية المبنية على وحدة الثقافة والتاريخ والمصير وتقيم بجرة قلم دولة جديدة مبنية على مبدأ التعددية الثقافية والحضارية. بينما يدرك الضاغطون ان الدولة في العالم النامي في الأصل ضعيفة ولا تتحمل تحولاً قد ينقلب انفراطاً وبعثرة. وفي كل قارة نماذج تؤكد هذه الخشية، وقوات دولية تعالج العواقب الكارثية الناتجة عن استمرار الإلحاح على اقامة تعددية سابقة لأوانها، او في ظل ظروف غير مواتية. من ناحية رابعة اثارت احدى حملات التبشير بالعولمة فجوة شك ظلت تتسع حتى بدأت تؤثر بعمق في التطورات السياسية الداخلية في مجتمعات كثيرة. فالتبشير بالعولمة تضمن كمكون اساسي الدعوة الى التعددية السياسية وحرية التعبير واحترام تعددية الآراء والمعتقدات السياسية المختلفة. ولكن يبدو ان المبشرين تجاهلوا هذا المكون الرئيسي عندما قدموا العولمة باعتبارها حتمية، واقعة لا محالة، لا بديل لها. ولا يبالغ الكثيرون الذين صاروا يعلنون ان العالم يتجه وبسرعة نحو ايديولوجية الفكرة الواحدة، او الفكرة المفردة، اي الى شمولية جديدة، اخطر وأهم من شموليات القرن العشرين على اختلاف مسمياتها. بسبب هذه الفجوة متزايدة الاتساع بين التبشير بأن فكر العولمة يشجع التعددية، والتأكيد بكلمات لا تخلو من العنف على ان المقاومة للعولمة غير مقبولة وأن الافكار المناهضة للعولمة لا يمكن ان تكون بناءة، أو مفيدة، او حتى صالحة لانطلاقة نقاش عالمي حر او اساساً لتعددية سياسية او ثقافية. ظهرت الحاجة الى اعلام يستخدم الاسلوب الذي ظالما ازدراه الغرب واميركا حين كانت تستخدمه الآلة الشيوعية: انه اسلوب التكرار، اكتشفت الآلة الرأسمالية الجديدة أن التكرار هو البرهان الأمثل، هو البرهان اليقين. * كاتب مصري.