انتهجت الحركات الأصولية وبكل مسمياتها العنف سبيلا ومنهاجا كنتيجة حتمية ترسم ملامح بدايتها والطريق الذي يؤدي إلى نهايتها، وهي التي أفرزت كل حركات التطرف، والتي كانت نتيجتها كل أشكال الترويع والإرهاب، وهي ليست اختراعا يمكن أن ينسب إلى حركة أو منظمة أو مذهب معين في تاريخ الإسلام السياسي المعاصر، ولكنها قد تتطابق وتتفق معها كفكر وتطبيق عبر العصور، لأن المنهج واحد ومشترك، فهي قيد في معصم كل تقدم أو تحضر أو تطور بكل أشكاله، وضد كل حركات التنوير والتجديد والحداثة في سعيها نحو مفهوم الدولة الوطنية الحديثة. الأصولية هي حركة وفكر وتوجه إيديولوجي يتخذ من الدين غطاء لفكرها المنحرف واحتكارها للمقدس الذي صنعوه وسوقوه كسلاح يستخدم التجهيل والخرافة لغزو العقول والاستخفاف بها، ولم يعد من الدين لديهم سوى اسمه كشعار، فهي تتمظهر اصطفافا ضد كل حركة تغيير وتنوع، وتتشكل وتتلون تحت دعوات الديمقراطية أو الحرية لتسعى وتنمو من خلالها، وليس في قاموسها شيء اسمه التسامح أو الحوار، دينيا أو سياسيا، إلا فيما تقتضيه الضرورة والظروف، وهو ما يطلق عليه عند البعض «مبدأ التُّقْيَة»، وهو ليس حكما عليهم، ولكنه مبدأ عام من مبادئ حركات ما سمي اصطلاحا بالإسلام السياسي والدولة الدينية، وهو شبيه وأقرب ما يكون إلى الميكافيلية والبراغماتية والوصولية «لتقريب المفهوم»، فهي تأخذ من كل هذه المفاهيم وتصب فيها فكراً وإيديولوجية في تقاطيع مع الواقع، فالأصولية ضد كل مدنية وتحضر فكرا وقولاً وفعلاً وهذا شيء مؤكد، كرد فعل سلبي تجاه حركة التغيير نحو التعددية وقبول الآخر والتعايش السلمي. إن تاريخ هذه الأفكار الظلامية ربما يعود إلى قرون مضت، فهي تتخذ من الدين وسيلة لمحاربة كل من يخالفها أو يقف في طريقها، من خلال فهمها المبتسر لما جاء في نصوص الكتب السماوية، وهي مقدسات عند المليارات من البشر، تأخذ منها الحركات الأصولية ما تشاء وتكيّفه حسبما تريد لتحقيق أغراضها في عملية «لَيّ» للحقائق والثوابت ممنهجة ومقصودة لتبرر القتل والقصاص، وبشكل عبقري مجنون يجد سوقاً عند الجاهلين «والجهل هنا ليس مقياسا يقوم على الثقافة والتحصيل العلمي، بل هو ترجمة للوعي بصحة القيم والإيمان بها من خلال التطبيق»، لتُسخر كل مقدس لأغراض دنيوية دنيئة، أولها وأبسطها إلغاء الآخر بكل قوة وقسوة وعنف، وهو المنهج والسبيل الذي اتخذته جماعة الإخوان المسلمين منذ تسعة عقود، وهو نفس المنهج الذي سار عليه المشروع الإيراني منذ أربعة عقود في تصدير أفكار ثورته وتمددها، والغريب في الأمر أن كليهما كانا برعاية وتدبير غربي مبيت ومدروس بعناية وامتياز. لقد تطور العالم وخصوصا بعد الثورة الصناعية وتطور أساليب الإنتاج، والذي رافقه تحسن مستويات الرعاية الاجتماعية في الصحة والتعليم، مما ساعد في زيادة ملحوظة في عدد السكان، وهو ما ظهر أثره جليا منذ خمسينات القرن الماضي وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن هنا كانت بداية الطفرة السكانية والثقافية والتكنولوجية وصولا إلى ثورة المعلومات ووسائل التواصل الحديثة، والتي أصبح الهواء والفضاء بديلا للمرجل وقاطرة البخار، وليجعل العالم قرية صغيرة تلملم أطرافه وتطويه تحت جناحيها. حينها صار لدينا تصور ربما يكون مخادعا لوهلة ما، وصدّقنا أن التنوع أصبح سمة العصر بما يضمه تحت جناحيه من تسامح وقبول واحترام للآخر، رغم الخلاف والاختلاف وكنتيجة للتطور الهائل في وسائل التواصل بين مختلف الشعوب والثقافات، وهو الذي يطلق عليه التواصل الحضاري، صدقنا ذلك وبتسليم شبه أعمى، ونسينا أنها في حقيقتها ليست الجوهر في الأشياء، فاللغة والمذهب والفكر والتحزُّب والأنظمة والقوانين، هي كلها من صنع الإنسان، ولكن يبقى الجوهر والأصل في الأشياء هو الطبيعة بكل عناصرها، وحيث يعيش فوقها الإنسان ومن فوق كل هذا يكون الخالق عز وجل كمرجعية وحيدة، ولكن الكثيرين يحاولون أن يتناسوا هذه الحقيقة بشكل مريب خدمة للمصالح الدنيوية الحاكمة، ومن هنا كان الخلل الذي أدى إلى كل هذه الصراعات. حينما اقتربنا يقينا بأن العالم قد تغير في تقدمه المطّرد هذا، أصبحنا نعيش فوق سحب من المعرفة والتنوير باتت تتفتح أمامنا بخطوات نمشيها بعزم وثبات نحو المدنية والفكر والحضارة، وكلها لخير الإنسانية والإنسان، من خلال تحسين أنماط الحياة، وجعلها أكثر يسراً وسهولة، حينها صدمنا بهذه الردة القوية نحو الخلف، والتي تحاول أن تقفز بنا نحو هاوية ليس لها قرار رغم كل شيء ورغم كل ما وصلنا إليه من رقي، لم تكن الصدمة في الدين لأنه مهما تقدمنا فهو كامن فينا وإن تباينت واختلفت الحاجة والرجوع إليه كثيرا شكلا وموضوعا لدى الكثير من الشعوب والأمم حتى بات شأنا فرديا، شئنا أم أبينا، فهذه حقيقة لابد أن نعترف بها، فالدين والالتزام والتدين، بات محصورا بين الإنسان وخالقه، وهو المبرر والأساس في مفهوم إيديولوجية التعددية والتنوع، ولتكون القيم والشرائع السماوية هي الحاكمة بين الخير والشر والعدالة والمساواة، والتي منها استمدت كل دساتير العالم البشرية نصوصها لأجل تنظيم الحياة وحقوق وواجبات البشر.