تبنّت الحركة الوطنية الفلسطينية شعار تحرير فلسطين منذ انطلاقتها في منتصف الستينيات. آنذاك، عبر هذا الهدف في مضامينه عن رفض الفلسطينيين اغتصاب الجزء الأكبر من أرضهم وتشريد أكثرية شعبهم وحرمانهم من هويتهم الوطنية. وكان في الشعار تماه بين استعادة الأرض وعودة الشعب وتحقيق الهوية. طرح هذا الخطاب، على الحركة الفلسطينية الوليدة، اشكاليات وتعقيدات عدة، فخطاب التحرير هذا سكت لأسباب ذاتية وإقليمية، عن حقيقة وجود أجزاء من أراضي فلسطين الضفة والقطاع، وأجزاء من الشعب الفلسطيني، خارج نطاق الاغتصاب الصهيوني، ما شكّل في حينه، عملية تواطؤ، غير مباشرة، مع النظام الرسمي العربي السائد، مقابل اعتراف هذا النظام بشرعية العمل الفلسطيني. وقد توخّت هذه الحركة من وراء ذلك، تجنّب المصير البائس للحركة التي سبقتها الهيئة العربية العليا، بما في ذلك مصير حكومة عموم فلسطين، المنبثقة عنها، والتي غيّبها التجاهل والنسيان. وفي الواقع أثبتت التجربة التاريخية صعوبة، وحتى استحالة، قيام حركة وطنية فلسطينية لا تحظى على رضى النظام السياسي العربي، حتى أن الحركة الفلسطينية المعاصرة، تدين بوجودها، من أوجه متعددة، الى هذا النظام، وهي في أحوال عدة استمرت بفضل تناقضاته وليس رغماً عنه، كما قد يعتقد البعض. لكن المشكلة الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية كانت ولا زالت تتمثل بالتناقض الكبير بين الشعار الذي طرحته والوسائل التي تبنّتها لتحقيقه، من جهة، وبين امكانياتها الذاتية وشروط العمل المسموح بها عربياً، من الجهة الثانية، خصوصاً أن عملية الصراع ضد اسرائيل هي على مستوى عال من الشمولية، وهي أكبر بكثير من امكانات الفلسطينيين وحركاتهم الوطنية، على الأقل في المدى المنظور. ولعل هذه الحركة التي نشأت، الى حد ما، استجابة لصعود الوطنيات المحلية، متجاوزة المشاريع القومية المتعثِّرة، لم تستطع منذ البداية وبحكم الطابع القومي للمهام التي وضعتها على عاتقها، وبحكم أوضاعها وامكانياتها، إلا أن تنشأ ومعها التباساتها وتعقيداتها التي فرضتها الشروط والمعطيات الجغرافية والسياسية وموازين القوى، المحيطة والمؤثِّرة على شكل وجودها. لذلك فإن هذه الحركة وقعت أسيرة التناقض بين هذه الشروط والمعطيات التي تفرض عليها طرح الشعارات والأهداف التي تتلاءم مع امكاناتها ومع ما يسمح به النظام الرسمي العربي، حتى تجنب نفسها تبعات الاصطدام معه، وفي سبيل تحقيق ما يمكن تحقيقه بإمكاناتها الواقعية، وبين ضرورة تمييز نفسها عن هذا النظام لاكتساب شرعية في الشارع العربي، عبر تبني شعار التحرير الذي يمكن من خلاله أن تبرّر الحركة الفلسطينية ذاتها، في تلك المرحلة، التي سبقت الاحتلال الإسرائيلي لباقي الأراضي الفلسطينية، وأراض عربية أخرى، في حرب حزيران يونيو 1967. وفي الواقع، وكما تبين في ما بعد، فإن النخبة الفلسطينية التي تصدرت واجهة العمل الفلسطيني، والتي أخذت على عاتقها المبادرة اليه، كانت تستهدف في ممارساتها السياسية تحريك القضية الفلسطينية واحياء وجود الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية، بغض النظر عن الشعارات الكبيرة التي أعلنتها. وبناء على ذلك يمكننا تفسير هذا التشعّب الواسع في بناء مؤسسات وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية: الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، التي باتت وبحق الكيان السياسي والوطن المعنوي للفلسطينيين، وهذا ينطبق على التشعب في هيئات ومؤسسات كبرى المنظمات الفلسطينية "فتح"، وكانت بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، في حقيقتها، أقرب إلى بنى دولة في طور التكوين. وفي حينه، كما قدمنا، ما كان بوسع الحركة الفلسطينية الإفصاح عن أية مطامح كيانية اقليمية، فقد تم الاكتفاء بالحديث عن الكيانية السياسية، من دون أن يرتبط ذلك بأي بعد سيادي على الأراضي الفلسطينية. وعموماً، بدأت ملامح تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرير الى حركة استقلال وطني بعد احتلال باقي الأراضي الفلسطينية، في حرب حزيران يونيو 1967، إذ انتعشت فكرة الكيانية الفلسطينية، خصوصاً أن الخطابات السائدة حمّلت الأنظمة مسؤولية ضياع هذه الأراضي، وبدأت الخطابات الرسمية تتحدث عن الاعتراف بواقع وجود اسرائيل، وبالتحول من التحرير الى ازالة أثار عدوان 1967، أو من الحديث عن الاغتصاب 1948 الى الحديث عن الاحتلال 1967، ما أسهم في تعزيز توجّه الفلسطينيين نحو التماثل مع الوضع العربي ومقررات الشرعية الدولية. وقد تكرس هذا التحول نهائياً بعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، بعد تبني منظمة التحرير الفلسطينية البرنامج السياسي المرحلي في الدورة ال12 للمجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974، والذي أكدت عليه الدورات التالية لهذا المجلس، إذ اعتبرت الأهداف المتمثلة بدحر الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بأنها الأهداف الواقعية الممكنة في تلك الظروف والمعطيات. وبذلك دشنت المنظمة تحولها نهائياً من حركة تحرير الى حركة استقلال للجزء المحتل من فلسطين في حرب حزيران. وقد حاولت منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال هذا البرنامج أن تعوض الخلل في موازين القوى، والتراجع السياسي العربي، من خلال التماثل مع الشروط العربية والإرادة الدولية في مجال القضية الفلسطينية، أي أنها حاولت أن تضيف الى شرعيتها النضالية، والمنبثقة من عدالة القضية، شرعية قانونية ودولية. في ما بعد جاء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية أواخر 1987 ليضع الأساس الموضوعي لتقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة، وذلك بسبب الخريطة السياسية والجغرافية والبشرية للانتفاضة، وبسبب المحددات الموضوعية والسياسية لهذه المسألة، إلا أن هذا لم يعن تعارض هذه الأهداف مع بعضها البعض، أو تقديم بعضها على حساب الآخر، وهذا ما نصت عليه "وثيقة الاستقلال الوطني" التي أكدت في فقرتين متتاليتين على "حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية بما فيها حقه في العودة". وظل هدف العودة يتصدر مختلف المقررات الصادرة عن دورات المجلس الوطني الفلسطيني الى جانب الحق في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، حتى أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أكد على حق اللاجئين في العودة على أساس القرار 194، في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أخيراً. مع كل ذلك ينبغي عدم الإنكار بأن تحولاً جوهرياً طرأ على الحركة السياسية الفلسطينية، بدت من خلاله وكأنها تراجعت عن سياقها وعن أهدافها التاريخية المتلخصة بتحرير فلسطين، باعتباره الهدف الذي يعبر في مضامينه عن مجمل الجوانب الوطنية والقومية للقضية الفلسطينية. لكن ما ينبغي وعيه وتأكيده هنا، أيضاً، وبغض النظر عن الإشكاليات والتباينات الفلسطينية، هو أن الشروط السياسية المعقدة المحيطة بالشعب الفلسطيني وبقضيته، هي التي أسهمت والى حد كبير في الدفع نحو هذا التحول، وبصرف النظر عن الرغبات. وعليه فإن مسؤولية الفكر السياسي الفلسطيني ابراز التعقيدات المحيطة بهذا التحول بقدر مسؤوليته بتعميق الوعي بتكامل العملية الوطنية الفلسطينية ولو تمايزت في بعض مظاهرها ان في الحيز النظري أو في حيز الممارسة السياسية. وحقيقة الأمر، فإن تحول مركز الثقل في الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج الى الداخل، بفعل الانتفاضة، ومن ثم بفعل عملية التسوية، قدم قوة الدفع المطلوبة للبرنامج المرحلي الفلسطيني، المتضمن اقامة الدولة الفلسطينية، فيما بدا وكأنه تحول بين الأهداف والأولويات الفلسطينية، كانعكاس للتمييز القائم بين التجمعات الفلسطينية، داخل الأرض المحتلة وخارجها. ولكن هذه الحقيقة ليست إلاّ جانباً من جوانب المسألة، أما جانبها الآخر فيعكس الارتباط الوثيق والتكامل العميق بين الأهداف الفلسطينية. ومن دون التقليل من أهمية امكان قيام دولة فلسطينية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، باعتبارها حاجة وطنية ومكسباً نضالياً للفلسطينيين في هذه الأراضي، وفي مختلف تجمعات اللجوء والشتات، فإن من أكبر المخاطر التي تتهدد الساحة الفلسطينية، وضع هدف اقامة الدولة في تعارض مع حق العودة، أو اظهار الوضع كما لو أنه يوجد ثمة تعارض بين تحقيق مصالح جزء من الشعب الفلسطيني مع مصالح جزء آخر منه، على طريقة تحقيق كل شيء أو لا شيء، خصوصاً في ضوء الإمكانات الراهنة والمنظورة. ويمكن الاستنتاج بأن حال الفلسطينيين مع وجود دولة أفضل بكثير من عدمها، بالنسبة إليهم وفي مواجهتهم لإسرائيل لتحقيق باقي أهدافهم التي من ضمنها حق العودة، أو بالنسبة لتعزيز مكانتهم في العالم. على هذا الأساس، وفي ضوء موازين القوى والمعطيات الراهنة، وبسبب تعقيدات الصراع العربي - الإسرائيلي ومداخلاته الإقليمية والدولية، فإن الفكر السياسي الفلسطيني معني بالتمييز نظرياً بين مستويين من مستويات العملية الوطنية الفلسطينية: الأول يتعلق بالصراع من أجل تقويض المؤسسات الصهيونية في فلسطين، ومواجهة الدور السياسي الوظيفي لإسرائيل في المنطقة، والثاني يتعلق بالصراع ضد مظاهر الاحتلال والاستيطان والتهويد ومن أجل تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وحق العودة. وطبيعي أن الصراع في مستواه الأول والذي يرتبط بالبعد العربي هو في طور الانكفاء لأسباب موضوعية وذاتية حالياً، وأن الصراع في إطاره الثاني الإسرائيلي - الفلسطيني هو الذي يبرز في هذه المرحلة، عبر المقاومة اليومية للفلسطينيين ضد الاحتلال، في القضايا الصغيرة والكبيرة، وذلك بسبب توافر البيئة العربية والدولية الداعمة والتي تقر بشرعية هذه المقاومة وتدعمها، لا سيما أن هذا المستوى لا يتعارض مع واقع وجود اسرائيل، وان كان يساهم، بحدود معينة، في تحجيم دورها وتحديد حدودها الجغرافية والسياسية. والتمييز بين مستويي الصراع له أهمية نظرية، أما من الناحية العملية فثمة ارتباط وثيق بينهما، فعلى رغم كل ما تحققه اسرائيل من ميزات ونجاحات لجهة تثبيت شرعية وجودها واستقرار كيانها، وتطبيع علاقاتها، فإنها في المقابل تواجه اخفاقات وتناقضات، لا سيما في ما يتعلق ببروز تناقضاتها الداخلية وضعف قدرتها على تغييب الفلسطينيين، وأيضاً بما يتعلق بتراجع أدائها لدورها السياسي - الوظيفي في المنطقة، على خلفية عملية التسوية والمتغيرات الدولية والإقليمية. في هذا المعنى، وطالما يتعذر تفعيل المستوى المتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي، وهو المستوى المتعلق ب"التحرير" وتقويض مؤسسات الكيان الصهيوني، لأسباب ذاتية أو موضوعية، يصبح من المهم التركيز على المستوى الثاني المتعلق بدحر الاحتلال من كل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وبذل الجهود من أجل تطبيق قرارات المجتمع الدولي بشأن حقوق الفلسطينيين لا سيما حقهم في تقرير مصير هم من خلال اقامة دولتهم المستقلة وحق العودة للاجئين، لأن ذلك يساهم في تحديد حدود المشروع الصهيوني، وتعزيز اخفاقاته في منطلقات أساسية له، كما أنه يعتبر جزءاً من السياق المتعلق بعملية "التحرير"، في مضامينها الديموقراطية التي تفترض خلق المسارات التي تمهد لإقامة دولة ثنائية القومية، أو دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين، تتجاوب مع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحاصلة لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وبالارتباط مع التطورات الحاصلة في المنطقة العربية. لم تعد الخيارات الواقعية كثيرة في هذا العالم المعولم والمتغير، وهذا يفرض على العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، تبني طرق تفكير ووسائل عمل جديدة وملموسة، تقربهم من نيل حقوقهم الممكنة أو التاريخية. * كاتب فلسطيني.