بإعلانه الربط المباشر بين مرحلتي التفاوض الانتقالية والدائمة يكون اتفاق واي-2 الموقع في شرم الشيخ 4/9 قد شكل نقلة خطيرة في مسيرة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية أدخلت المفاوضين الفلسطينيين والحقوق الوطنية الفلسطينية في نفق مظلم، لأن الاتفاق المذكور كرس أوسلو مرجعية لمفاوضات الحل النهائي أبقى المفاوضين تحت رحمة الاختلال الفادح في موازين القوى بين الطرفين المباشرين. قضية اللاجئين الفلسطينيين هي إحدى أهم القضايا التي يتهددها اتفاق شرم الشيخ عبر الربط بين المرحلتين وعبر ترسيم أوسلو كمرجعية تفاوضية وعبر اطلاق المفاوضات السرية على أعلى المستويات، مما يجعلها عرضة للمساومة والتصفية خاصة وأن المفاوض الاسرائيلي يجاهر صباحاً ومساء بالخطوط الحمراء وبموقفه الرافض لعودة اللاجئين الى ديارهم، بينما المفاوض الفلسطيني المتجاوز خطوطه الحمراء يلجأ إلى التعميم والمراوغة. إن ما جرى في شرم الشيخ أطلق على المستوى الشعبي مخاوف وهواجس ملايين الفلسطينيين اللاجئين والمهجرين في الخارج والداخل، لكنه على المستوى السياسي يثير مسألة على جانب كبير من الأهمية تتعلق بالتطورات التي طرأت على مكانة "قضية اللاجئين" في الفكر السياسي الفلسطيني والتحولات في مواقف التيارات والقوى السياسية الفلسطينية تجاه "حق العودة" والتي اتسمت مؤخراً بالضبابية وعدم الجدية حيناً وبالمناورة والنفاق السياسي حيناً آخر. لقد حمل الفكر السياسي الفلسطيني منذ نشأته خصوصية وفرادة القضية الفلسطينية، وتصدى لمشاكلها واشكالياتها، والتي شكل ملف اللاجئين أكثر ملفاتها تعقيداً وحساسية، وبالتالي لم يكن غريباً أن تحتل قضية اللاجئين بتعقيداتها وحق العودة باشكالياته والعلاقة بين اللاجئين والثورة بخصوصياتها مكانة متميزة ومساحة واسعة في مسيرة الحركة الوطنية وفكرها السياسي لكن الفكر السياسي لم يقدم تصوراً متكاملاً لحل قضية اللاجئين ولا حافظ على موقف سياسي وعملي ثابت تجاه حق العودة خلال خمسين عاماً. وفي المقابل أولى الفكر السياسي الاسرائيلي اهتماماً خاصاً بقضية اللاجئين لجهة العمل على تصفيتها والتخلص من الشاهد الحي والبرهان الملموس على الولادة غير الشرعية لدولته، فقد عكس هذا الاهتمام نفسه على السياسة الرسمية والحزبية الاسرائيلية، فلم يجابه مطلب عربي أو فلسطيني بالرفض الشديد من قبل الاسرائيليين في السلطة أو المعارضة، كما جوبه مطلب إعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، ولم يتعامل المسؤولون الاسرائيليون بتشنج وعصبية مع شعار فلسطيني كما تعاملوا مع شعار "حق العودة"، الذي اعتبروه مرادفاً لشعار تدمير اسرائيل ومدخلاً الى تفكيك الدولة اليهودية. فقد عبر اسحق شامير عن هذا الموقف العنصري بصرامة أمام قيادة حزبه الليكود في شباط فبراير 1990، عندما أعلن رفضه الحازم لشعار حق العودة، ولكل ما يرمز الى أو يساعد على "تطبيق هذه النظرية البغيضة" لأن الذين يتبنون هذه الأفكار حسب شامير انما "يخططون لازالة اسرائيل عن طريق اغراقها بملايين اللاجئين"، أما قيادة حزب العمل فانها لا تختلف عن قيادة الليكود في مضمون الموقف الصارم تجاه مبدأ حق العودة، رغم اظهارها رغبتها في التعاون مع الأطراف العربية والدولية لحل مشكلة اللاجئين لكن "خارج حدود اسرائيل!"، لأن ممارسة حق العودة للفلسطينيين على حد تعبير شمعون بيريز "تتعارض مع حق اسرائيل في تقرير مصيرها"، لذلك فإن هذا الموضوع يشكل بالنسبة له ولحزبه "خطاً أحمراً" لا يمكن حتى التفكير في تجاوزه، وهو ما أكدته لاءات باراك الأخيرة. لقد استمر الفكر السياسي الاسرائيلي منذ حكومة بن غوريون الأولى عام 1948 حتى حكومة باراك الحالية عام 1999 يصوغ خطابه الدعائي ويطرح تصوراته واقتراحاته من دون اخلال بثوابته الاستراتيجية، الرفض المطلق لإعادة اللاجئين، والرغبة الشديدة في تصفية قضيتهم، وفي نفس الوقت كانت المؤسسة الاسرائيلية تبني الوقائع العملية وتخلق الحقائق المادية الكفيلة بقطع الطريق على امكانية ممارسة اللاجئين الفلسطينيين لحقهم في العودة الى أراضيهم وديارهم. فكيف نظر الفلسطينيون والعرب عموماً الى مسألة على هذا القدر من الخطورة بالنسبة الى العدو؟ وكيف تعاملت الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف تياراتها مع قضية على هذه الدرجة من الأهمية؟ وكيف عالج الفكر السياسي الفلسطيني هذه القضية المعقدة والحساسة في المراحل الرئيسية: النكبة، الثورة، التسوية؟ أولا: اللاجئون بين الحق والقوة قبل الاجابة على تلك الأسئلة لا بد من التذكير بالحقائق التالية: أولا: ان قضية اللاجئين الفلسطينيين ليست نتاج الحرب العربية - الاسرائيلية الأولى، ولم تكن من صنع المؤسسة العربية الرسمية، ولا هي وليدة عام النكبة 1948، وانما تعود بجذورها وخلفيتها الى ما قبل ذلك بثلاثة عقود، حيث في العقد الثاني من القرن تبلور الوعي الوطني في مواجهة الهجرة اليهودية المنظمة، وفي العقد الثالث تشكلت الحركة الوطنية في مواجهة الحركة الاستيطانية السرطانية وفي العقد الرابع برزت الكيانية الوطنية في مواجهة التشكيلات والمؤسسات الكيانية الصهيونية. ثانياً: كانت الهجرة تستهدف خلق واقع ديموغرافي جديد، والاستيطان يؤدي الى إفراغ الأرض من أصحابها، والارهاب المؤسساتي المنظم يقود الى تهجير السكان، فتتشكل ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين على ضفاف الدولة اليهودية المنشودة، وفي ظل الخلل الصراعي الذي شهدته فلسطين والذي أسفر اسرائيلياً عن نجاح مشروع الاستعمار الاجلائي الاحلالي الاستيطاني، وعربياً عن تكريس ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين، وعالمياً عن القبول بالأمر الواقع دون تنفيذ حق العودة وفق القرار 194، وعن تحويل القضية الفلسطينية من سياسية الى انسانية عبر وكالة الغوث "الأونروا". ثالثاً: صحيح أن قضية اللاجئين الفلسطينيين لم تكن وحدها على جدول أعمال العالم في أواسط القرن العشرين، حيث نشأت سلسلة من مشاكل اللاجئين لأسباب دينية أو عرقية أو سياسية أو عسكرية، قبل عام 1948 وبعده، منذ الحرب العالمية الأولى وبعدها وخلال الحرب الثانية وبعدها وطوال الحرب الباردة، لكن في القضية الفلسطينية وحدها تداخل الديني مع القومي مع السياسي والعسكري، واتخذت قضية اللاجئين الفلسطينيين بعداً مأساوياً شاملاً تجاوز المستوى الوطني القطري وطال المستوى القومي والاقليمي. رابعاً: خصوصية قضية اللاجئين الفلسطينيين تكمن في أنها تجاوزت الزمان والمكان، فشغلت القرن العشرين بأكمله، حيث في نصفه الأول تشكلت أسباب تفجرها وعوامل تشكلها وتراكمها حتى تبلورت ميدانياً، وفي نصفه الثاني ولدت ملامح النهوض القومي ودوافع الصراع العربي - الصهيوني، والثورة الفلسطينية، وعكست نفسها على مختلف شعوب المنطقة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ونفسياً، فقد مثلت قضية اللاجئين الوجه البشع لأكثر المشاريع الاستعمارية نجاحاً في عصرنا، والوجه العادل لأكثر النضالات الوطنية تعقيداً. خامساً: ان الشعب العربي الفلسطيني تصدى للهجرة اليهودية منذ استشعر أخطارها في أواخر القرن التاسع عشر، وقاوم مخططات الاستيطان وأخطار الاقتلاع والتهجير منذ اطلاق وعد بلفور وصك الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يتوقف عن المقاومة والتصدي والمواجهة دفاعاً عن أرضه ودياره ووطنه بل انغمس في مسيرة نضالية حافلة، متنوعة الوسائل والأساليب والأدوات، تداخل فيها العنف الثوري والكفاح المسلح مع الانتفاضة الشعبية والنضال السياسي مع العصيان المدني والعمل السياسي. سادساً: ان فشل النضال الفلسطيني والمتداخل مع النضال العربي قبل النكبة في تنفيذ شعارات تلك المرحلة "وقف الهجرة" و"مقاومة الاستيطان" و"منع اقامة الوطن القومي اليهودي"، لا يعود الى نقص في الروح النضالية أو إحجام عن التضحية بل الى خلل فادح في ميزان القوى وفي الشروط الصراعية التي حكمت طرفي المعادلة الصراعية، فمجتمع المستوطنين اليهود - الإشكيناز في غالبيتهم آنذاك - يمتلك القوى المحركة، والعناصر الفعالة، وأسباب القوة، والنخب القيادية، والأطر الكادرية والفنية، والمستوى الحضاري والعلمي والتقني، في الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم، ويشكل الغرب الاستعماري امتداداً حضارياً له، فيعزز لديه عوامل التفوق والامتياز في مواجهة مجتمع عربي فلسطيني، زراعي - رعوي متخلف في ثلاثة أرباعه، وعلاقات شبه اقطاعية، وقوى انتاج بدائية، ومستوى تعليمي متدنٍ، ونشاط ثقافي بسيط، وقدرات صناعية متواضعة، وتجارية محدودة، وتنظيمات وأحزاب عشائرية وعائلية، وقيادات تقليدية من الاقطاعيين والأشراف والوجهاء، تحكم مسلكياتها الى حد كبير المصالح الشخصية والحسابات الفئوية والسياسات قصيرة النظر، ويشكل الشرق العربي المتخلف والتابع والمجزأ عمقه الطبيعي. فكانت الهزيمة العربية في فلسطين هي النتيجة المنطقية لهكذا شروط صراعية وميزان قوى، وكانت نكبة الشعب العربي - الفلسطيني تولد واحدة من أبشع مآسي القرن العشرين تحت اسم "اللاجئين الفلسطينيين"، لكنها تحمل معها أكثر المفارقات العربية قسوة: أولاً: لقد دخلت الجيوش العربية بعد ذلك وفي مقدمة أهدافها منع تهجير المزيد من عرب فلسطين وإعادة من هجروا الى ديارهم، ولكن النتائج جاءت معاكسة، هزيمة تلك الجيوش، تراجعها وتواطؤ قياداتها، أسفرت ليس فقط عن تكريس قرار التقسيم المرفوض، الذي يعطي الدولة اليهودية 56 في المئة بل ايضاً عن تجاوز حدود التقسيم والسيطرة على حوالى 80 في المئة من فلسطين وترحيل معظم سكان تلك المناطق وتحويلهم الى لاجئين، وبينما كانت مأساة اللاجئين تتوالى فصولاً، وعذاباتهم تتعاظم مشاهد، كان جوهر القضية السياسي الصراعي يضيع في أروقة الجامعة العربية والأممالمتحدة، فيتحول الى مجرد قضية انسانية، بينما وثائق الهدنة الموقعة عام 1949 تحولها الى قضية حدودية بين الدول العربية واسرائيل. ثانياً: في الوقت الذي كانت فيه معظم الأنظمة العربية تتعامل مع ظاهرة اللاجئين الفلسطينيين بلا مبالاة، وتتعامل مع اللاجئين على أراضيها كأنهم جرب، وتعرضهم لصنوف الإهانة والتحقير والملاحقة، وتمارس ضدهم اجراءات عقابية تمييزية، ولا تفعل شيئاً جدياً ملموساً لتطبيق قرار "حق العودة" الدولي، الذي دفع الوسيط الدولي الكونت برنادوت حياته ثمناً له كان، بعض تلك الأنظمة، على العكس، يطبق عملياً قرار العودة الاسرائيلي الجائر عبر اطلاق موجات الهجرة اليهودية من البلدان العربية الى فلسطينالمحتلة، والتي وصلت الى فلسطين على دفعتين الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث رفعت عدد اليهود الى 629 ألفاً عام 1947 من مجموع السكان البالغ مليونان، والثانية بعد قيام دولة اسرائيل حيث رفعت عدد اليهود الى 914 ألف عام 1949، ثم ارتفع عدد اليهود القادمين من البلدان العربية أكثر من نصف مليون في السنوات العشر التالية يحتلون أراضي وممتلكات وبيوت الأشقاء الفلسطينيين! ثالثاً: في الوقت الذي قامت فيه اسرائيل على أساس نفي الآخر الفلسطيني، وعدم الاعتراف بوجوده، المادي والسياسي والكياني، رافعة تساؤلها العنصري الشهير "أين الشعب الفلسطيني؟"، فإن الواقع السياسي العربي كان يخدم هذه المقولة عن غير وعي، فالأنظمة العربية التي رفضت قيام دولة فلسطينية مستقلة واعلان حكومة فلسطينية بل وهمشت التمثيل الفلسطيني السياسي لديها قبل النكبة لم تسع لاقامة كيان فلسطيني على ما تبقى من أراض فلسطينية، بل عارضت محاولات المفتي الحسيني المذكورة استجابة لرغبة بريطانيا التي كانت تفضل ضم الأراضي الفلسطينية المتبقية الى الأردن، وبعد النكبة لم تسمح للقوى والفعاليات الفلسطينية بحرية حركة على أراضيها تتيح لها إعادة بناء العامل الذاتي والتعبير عن الشخصية الفلسطينية المتميزة في مواجهة الآخر، باعتبارها نقيضاً تاريخياً له وشاهداً حياً على لا شرعيته. ثانياً: حق العودة في الفكر القومي بعدما حققت الحركة الصهيونية انجازها العسكري والميداني باقامة اسرائيل وقامت باستقدام يهود البلدان العربية، وتمكنت من تثبيت حدود الهدنة رسمياً مع العواصم العربية المحيطة حاولت في النصف الأول من الخمسينات، وعبر المناورات الديبلوماسية والمبادرات السياسية تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين عن طريق التوطين والدمج، لكنها لم تحقق هدفها نتيجة الرفض الفلسطيني والنهوض القومي، وفي المقابل استطاعت بمساعدة الأميركيين ديبلوماسياً عرقلة تنفيذ القرار 194 القاضي بعودة اللاجئين، وميدانياً بخلق حقائق ديموغرافية جديدة بالهجرات والاستيطان تحول دون تطبيق حق العودة سلمياً، ودولياً تمكنت بمساعدة واشنطن وحلفائها من تحويل الأنظار عن جوهر القضية الفلسطينية وتقديمها للرأي العام العالمي باعتبارها قضية صراع حدودي بين دولة صغيرة مسالمة ومتحضرة محاطة بدول عربية شريرة ومتخلفة تريد تدميرها، رافضة حتى التفاوض معها على السلام العادل والدائم في المنطقة. - فلسطينياً: قبل استقرار النكبة على واقع اللجوء القاسي كانت العودة في اعتقاد اللاجئين المنكوبين ليست إلا مسألة وقت، أيام أو أسابيع، استناداً الى الآمال المعلقة على الحكام والجيوش العربية القادمة الى فلسطين من جديد بعد تجربتها الأولى الفاشلة، لكن بعد أن تبخرت تلك الآمال الساذجة وتكشفت عن أوهام كبيرة، انخرط اللاجئون في معركة الحياة للدفاع عن الذات واثبات الوجود ومقاومة مشاريع التصفية، وهو ما نجحوا فيه بشجاعة، وحرموا الاسرائيليين من استكمال انتصار عام 1948 العسكري. - عربياً: لعبت حرب فلسطين دوراً في كشف المستور، وفي ازاحة الستارة عن حجم الفساد والتبعية والضعف لدى الأنظمة المشتركة فيها، مما أطلق سلسلة من الانفجارات والانقلابات والتحولات في تلك البلدان، أسفرت عن بروز قوى جديدة ونهوض العامل القومي وبلورة مشروع تحرري وحدوي أعاد القضية الفلسطينية الى مسرح الأحداث باعتبارها قضية قومية مركزية، وهنا عولجت قضية اللاجئين في اطار معركة التحرر القومية المنتظرة، الى أن تبلور المشروع الوطني التحرري الفلسطيني الذي احتل فيه اللاجئون وقضيتهم جوهره ومحركه الرئيس. - أما على مستوى الفكر السياسي الفلسطيني، سواء في اطاره القومي العتيد أو في اطاره القطري الوليد، فإن مواقف القوى السياسية الفلسطينية التقليدية منها والمتجددة من قضية اللاجئين وحق العودة لم تكن إلا انعكاساً لمواقف تلك القوى من المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، ومن زاوية النظر الى اسرائيل وطريقة التعامل معها، عدم الاعتراف بها، عدم تسليمها بالأمر الواقع، والانتقال من مفردات الثأر والانتقام ومحو العار، التي سادت في الخمسينات، الى مفردات حرب التحرير ومعركة العرب القومية التي هيمنت منذ أواخر الخمسينات، والتي حتمت رفض مشاريع تصفية اللاجئين من التعمير والاسكان الى التوطين الى التعويض، وعدم القبول بغير العودة الكاملة المظفرة والمشرفة والكريمة استناداً الى العدالة المطلقة والحق التاريخي الذي لا تقبل بأنصاف الحلول. وفي هذه المرحلة نلاحظ أن: أولاً: رواد الفكر السياسي العربي الفلسطيني الذين استغرقوا في الشعارات والمبادئ وغرقوا في الخلافات والصراعات العقائدية والسياسية حول قضايا الوحدة العربية ومعركة التحرير والدور الفلسطيني والكيان الفلسطيني، لم يهتموا كثيراً للأبعاد القانونية والدولية والسياسية لقضية اللاجئين، ولم يقدموا تصوراً خاصاً لحل قضية اللاجئين أو تسويتها بعيداً عن المنظور العام لمعركة التحرير القومية أو معركة التحرير والعودة التي ما لبثت أن واجهت اختبارها الأصعب في حزيران يونيو 1967 فاتحة الطريق أمام دخول الفكر السياسي العربي والفلسطيني مرحلة جديدة. ثانياً: قبل هزيمة 1967 كان رواد الفكر القومي قد اتفقوا على تشخيص أسباب هزيمة 1948 ونكبة فلسطين ومأساة اللاجئين وعلى تحميل المسؤولية للأنظمة الفاسدة والحكام الرجعيين والقوى الاستعمارية والأممالمتحدة، كما اتفقوا على أن الحل يكمن في استعادة فلسطين وإعادة اللاجئين، لكنهم اختلفوا حول كيفية تحقيق ذلك، فالقوميون العرب طرحوا شعار الحرب الثأرية على الجماهير الفلسطينية والعربية لكنهم دجنوه لاحقاً في الاطار القومي الناصري، والناصريون طرحوا شعار الحرب القومية النظامية الشاملة لكنهم سياسياً طالبوا "الأسرة الدولية بأن تكفل الحل بعودة الشعب الفلسطيني الى بلاده"، بما يعنيه ذلك من قبول ضمني بقرار التقسيم، والبعثيون طرحوا شعار حرب التحرير الشعبية وإعداد اللاجئين الفلسطينيين ليكونوا طليعتها ورأس الحربة في المعركة القومية لكنهم حذروا من الاعتماد على المنظمة الدولية لأنها شريكة في الجريمة، وسمحوا للطلائع الفلسطينية باطلاق العمل الفدائي من جديد عبر حدودهم. ثالثاً: أمام هزيمة 1967 لم يستطع القوميون الحفاظ على شعاراتهم السابقة فتراجعت شعارات تحرير فلسطين واستعادة الوطن السليب والحرب القومية لصالح شعار واحد هو إزالة آثار العدوان الذي اعتمد رسمياً في مؤتمر قمة الخرطوم رغم الاحتجاج الفلسطيني، أما قضية اللاجئين فقد وضعتها مداولات الخرطوم على سكة العمل السياسي ولم يتردد عبدالناصر في مصارحة زملائه في الخرطوم بأنه بعد إزالة آثار العدوان "نطالب الأممالمتحدة بحقوق شعب فلسطين" الأمر الذي جعل الفلسطينيين يستشعرون خطر الوصاية العربية الرسمية من جديد، فطالما ان "أميركا لا تريد عودة اللاجئين" كما قال المرحوم أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السابق في القمة، فإن إزالة آثار العدوان تعني عودة الأراضي الفلسطينيةالضفة الغربية وغزة الى الأردن ومصر في "مقابل تصفية قضية فلسطين نهائياً"، لقد أعلن الشقيري غير المرغوب فيه، والمفجوع بأهل القمة "كوننا لاجئين لا يحرمنا من حقنا في تقرير مصيرنا، ونحن لا نقبل أن نكون تحت وصاية أو تبعية"، فاتحاً الطريق أمام تعزيز استقلالية الفكر السياسي الفلسطيني المتمرد على الفكر السياسي السلطوي السائد. * كاتب فلسطيني