"شو مع... سلا" قال جندي على حاجز في أحد شوارع صنعاء، وهو يوقف كل سيارة. وحّده مع زملائه الزي العسكري والفك الايسر المنفوخ بمضغة قات، تبتلع اواخر الكلمات، فتصبح أحرف علّة. يترجم لك السائق انه يقصد"شو معك سلاح". مشهد ثان من عاصمة اليمن السعيد: سيارات تتسابق الى مكان يبيع النبتة الخضراء، يتدافع الزبائن بهدوء، وعلى الباب امرأة لفها السواد تمد يدها صامتة لاستجداء ريال فلا تجد سوى الصمت ولا يلتفت اليها زبون. الثالث في "منتدى قات"، حيث توحد جلسة مقيل "الاخوة الاعداء": قياديين في أحزاب يمنية يتناوبون الكلام على الديموقراطية ويتساوون جميعاً في... المضغ! غمز ولمز، كلٌ يخزّن للآخر ل"اصطياده" فيرد في الوقت المناسب، بالكلام بعد خلع الخناجر. هذه أصول اللعبة. ووقت المقيل تهدأ شوارع صنعاء التي يتركها هؤلاء للصغار، فيصبح الاطفال اسيادها: أيادٍ ممدودة لا تعرف كيف تصل الى البشر من كل جهة، فبعد الثانية بعد الظهر يشتد التسول. ومن المفارقات السود يوم الاقتراع الرئاسي، قبل ايام، عناوين في صحف تتحدث عن الانتخابات التي كانت "رصيداً في بنك الديموقراطية"، وبها "اقتحم اليمن عصر الديموقراطية" وعبَر إلى "تخوم الألفية الثالثة"، بعدما اختارت صحيفة عنوان "The Final Countdown" عشية الاقتراع وتقريراً ل"يونيسف" عن معاناة اليمن ونسائه التي تعيدك الى وسط الألفية الثانية. ...على مدخل المدينة "لافتة" من حديد: أهلاً بكم في صنعاء، والى جانبها "حليب نيدو للجميع" الا أولئك الصغار المشردين! انه مجتمع للكبار من الطراز الاول، رجال من كل الاصناف، سياسيون ومفكرون وصحافيون وفَعَلة. بعضهم ينفق ضعفي دخله ليمارس عادة مضغ القات يومياً، فيما بطون الصغار خاوية. وباستثناء شعار مكافحة الفقر لا احد تذكر هؤلاء في الذكرى العاشرة لتبني الاممالمتحدة اتفاق حماية الطفل. عشرات اللافتات الانتخابية ارتفعت في سماء مدن اليمن، وعلى جدرانها شعارات عن المساواة ومكافحة الفساد والعصبيات وخطف الاجانب. تتذكر: اشبع ثم تفلسف، الكبار يتساوون جميعاً في المضغ والعصبية للقات، وفي هدر الدخل القومي وابتلاع الاراضي الزراعية. ومن بعض الارقام ان المساحة المزروعة بالنبتة الخضراء في اليمن تقدر بنحو 90 الف هكتار: في إب 37 في المئة، تعِز 17 في المئة، صنعاء 14 في المئة، المحويت 11، وحجة 7 في المئة... والمجموع يهدر بلايين الدولارات كل سنة. تلك البلايين تكفي لايواء الاطفال المتسولين وتعليمهم. "انتهى زمن الثورات والانقلابات"، قال الرئيس، لكن الكارثة لا تزال في الشوارع تنتظر ثورة على الفقر، لا بد ان تبدأ بانتفاضة على ادمان القات الذي يمنح اليمنيين "حيوية" ضائعة في "برلمانات مقيل"، تقتل ساعات من النهار وتفرغ جيوب الفقراء. المشهد الرابع، محمد دماج احد المسؤولين في اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية سئل كيف يفسر الاقبال المحدود نسبياً على الاقتراع في بعض المحافظات، فأجاب وهو يشعر بنشوة الانتصار وخطف اضواء الكاميرا ان بعضهم كان مشغولاً بالحصاد... والعلف. ضحك احد الحاضرين، علف مَن، انه القات! لا تنقص اليمنيين روح النكتة، كما دماثة الخلق، وعلى رغم كل ما بين "الاخوة الاعداء" منذ حرب 1994، "يتسلل" اشتراكي الى "البرلمان الشعبي" ويخزّن للرفاق، قياديين في "المؤتمر" وتجمع الاصلاح... وفي احيان كثيرة يهيمن الاشتراكي الغائب الحاضر على الجلسة، الجميع منهمك بمستقبل البلد، والصراع على الديموقراطية. اما في الخارج، على بعد امتار، غبار، غبار، وافواج من الاطفال والنساء، تستجدي بضعة ريالات لسد بطون خاوية. مشهد بعضهم يوحي بأنه لم يستحم منذ بضعة اشهر، والاخوة الكبار سعداء بالنبتة الخضراء، يحلمون بجمهورية ما بعد العام ألفين، فالرئيس لم يعد بإمكانه ان يشغل القصر اكثر من عشر سنين. في اليمن السعيد الذي يثير لدى الزائر تعاطفاً مع اهله وفقرائه ويذكِّر بأيام الثوار واحتضانهم، رُفِع شعار مدن بلا سلاح، اما الخناجر فباقية للزينة، ومحل الكلاشنيكوف حل الهاتف النقال. مظاهر عمران حديثة واطباق ضخمة لاقطة للفضائيات، وبقايا منازل قديمة من اللبِن، وعويل سيارات تتدافع من دون وازع، فيما الصغار المتسولون يتقافزون على الطرق كأنهم في سيرك مرعب. ها قد وصل زبون غريب وحانت فرصة. على بعد خطوات "مدرسة الأوائل" بنيت من حجر، فجأة ينطق السائق: "في دار الحجر وضلاع افضل انواع القات الافضل للصحة"... ولتفريغ الجيوب ايضاً. مزيد من الفقراء الصغار، والكبار مشغولون بأخبار الحكم والمعارضة، بأخبار علي وعلي، ليكتمل زاد المقيل. فلا شيء يهم ما دامت الثورة حطت رحالها وتقاعدت.