يسهل على زائر صنعاء عاصمة اليمن أن يلاحظ تألّفِها من «مدينتين»، ما زالت إحداهما تحتفظ بالهندسة المعمارية والسكنيّة المتوارثة منذ حقب طويلة، فيما تظهر الثانية أكثر حداثة، لكنها تتخبط في العشوائية وغياب التنظيم المديني المنظّم واختناقات المرور وانقطاعات الكهرباء المتتالية وأزمات السياسة والاقتصاد وغيرها. تلتقي المدينتان عند «باب اليمن»، وهو أحد الأبواب الضخمة التي كانت صنعاء تتحصن خلفها يومياً في المساء، كي تضمن سلامها الآني لغاية شروق اليوم التالي. وحفظت تلك الأبواب الضخمة والسور الذي يلفّ صنعاء القديمة، اليمنيين من الويلات الآتية من الخارج. ماذا عن ويلات تأتي من الداخل؟ ماذا عن العدو الذي يقيم في أجساد اليمنيين أنفسهم، فيهدد عاصمتهم بالاندثار والتبدّد؟ ماذا عن الجسر المجازي الذي تنسجه يد «القات» يومياً، ليربط صنعاء بخرابها الآتي؟ «مضغ» المياه المتبخرّة لا يصعب على زائر صنعاء أيضاً أن يلاحظ انتشار آفة مضغ «القات» بين أبنائها. ويقرّ سائق التاكسي الضامِر الجسم بأن تناول «القات»، وهو نبتة خضراء تتألّف من ساق تتفرّع منها أوراق طريّة ميّالة للصغر، هو شكل للإدمان. ويتذكر أن صحفاً كثيرة، على مدار سنوات طويلة، حذّرت من «القات»، خصوصاً أنه ساهم في القضاء على القهوة التي ارتبط اسمها تاريخياً باليمن بمعنى أن لفظة ال «موكا» الرائجة في تسميّة القهوة عالميّاً، هي اشتقاق من اسم مرفأ «المخا» اليمني التاريخي على البحر الأحمر. وبعد حديث في الطريق إلى المطار، تطاول بسبب الازدحام اليومي في الشوارع، خلُص السائق اليمني إلى القول إن التخلّص من «القات» يحتاج جيلاً أو اثنين، مشيراً إلى أنه يتشدّد في منع أطفاله من مضغ «القات» على رغم أنهم يرونه يوميّاً وهو «يُخزّن» تلك النبتة بوضع أوراقها الطريّة بين داخل الفك السفلي وباطن الخدّ. ما لم يتنبّه إليه هذا السائق الطيّب، تناولته تفصيلاً مجلّة «فورين أفريز» في مقال مطوّل حمل عنواناً مُرعِباً «اليمن تمضغ نفسها إلى حدّ الجفاف». وقصد كاتب المقال، وهو باحث عربي في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أن نبتة «القات» تمتاز بشراهتها للمياه، وكذلك فإنها لا تساهم في حفظ التربة بسبب صغر حجمها نسبيّاً وكذلك لا ترمي بكثير من الرطوبة إلى الجو، وهي أمور تفعلها أشجار البن التي هُزِمَت بقوّة أمام «القات». في هذه السنة، قدّرت أوساط يمنيّة شبه رسميّة أن 75 في المئة من الصراعات في دواخل اليمن تتأتى من المياه التي يسقط بأثر الخلافات على مصادرها الشحيحة قرابة 4 آلاف يمني سنويّاً! إدمان وقتل ويباب وفق إحصاءات موثوقة، تستهلك زراعة «القات» قرابة 40 في المئة من مياه وادي صنعاء سنويّاً. وفي الآونة الأخيرة، تمدّدت زراعة «القات» على عشرات آلاف الهكتارات في وادي صنعاء، فاجتاحت في طريقها أشجار الفواكه ومحاصيل الغذاء (إضافة إلى البن)، ما ساهم أيضاً في رفع أسعار الغذاء في اليمن. ويرى «البنك الدولي» أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ساهم وحده في رفع معدل الفقر بقرابة 6 في المئة في العام 2008. وتقدّر «منظّمة الصحة العالميّة» أن 90 في المئة من الذكور البالغين في اليمن، يتعاطون «القات» يوميّاً. وتتناول شريحة لا بأس بها من النساء هذه النبتة التي يرين أيضاً أنها تساهم في تهدئة النزاعات الأسريّة! لم يكن انتشار «القات» سريعاً حتى حقبة السبعينات من القرن الماضي، لأن رداءة الطرق لم تكن تسمح بنقل «القات» سريعاً من الأرياف، مع العِلم أن هذه النبتة تذبل بسرعة، فلا تصلح للاستهلاك في اليوم التالي على قطافها. ولعلها مفارقة مؤلمة أن يترافق التحديث مع انتشار إدمان «القات» وانفلات زراعته التي تستهلك المياه بقسوة في بلاد ليست غنيّة أصلاً بالماء. وفي العام 2011، فاق استهلاك الماء في وادي صنعاء معدّل تجدّده بالأمطار، بمقدار خمسة أضعاف. وإذا استمر هذا النمط من استهلاك الماء يمنيّاً، فلسوف تتحوّل أرضاً يباباً تقذف بأهاليها إلى المجهول. يرجع جزء من أزمة المياه في اليمن، إلى هدره عبر ممارسة أساليب بدائيّة في الزراعة، خصوصاً ري المحاصيل بالتروية المعمّمة. ويقدّر خبراء «البنك الدولي» أن الانتقال من هذا الأسلوب إلى طريقة «الريّ بالتنقيط» Drip Irrigation يوفّر 35 في المئة من المياه. تساهم السدود المتآكلة في تفاقم مشكلة المياه يمنيّاً. ففي العام 2010، تلقّى اليمن كميات وفيرة من الأمطار التي وصل تهاطلها إلى مستويات قياسيّة تاريخياً. وفي المقابل، لم تتمكّن السدود اليمنيّة المتآكلة من حفظ سوى كميات قليلة منها. ويزيد الاعتماد على المياه الجوفيّة الآتية من الآبار، تعقيد مشكلة المياه في اليمن. وتشير أرقام رسميّة إلى أن 65 في المئة من البيوت تحصل على المياه من الآبار، رغم أن القانون اليمني يحظر حفر الآبار إلا بيد الحكومة. ويتوقّع مقال «فورين أفيرز» المشار إليه آنفاً، أن يصبح سكان صنعاء (4.2 مليون) «لاجئي مياه» بحلول العام 2025، مع احتمال هجرانهم للعاصمة اليمنية بحثاً عن قطرات ماء. هل تذكّر هذه الصورة بالخيال التاريخي لانهيار «سد مأرب» وتشتت السكان بعده؟ هل تقترب من الصورة المحفورة في أذهان اليمنيين تاريخياً عن الجفاف الهائل الذي اجتاح بلادهم وتسبب في هجرة جماعيّة صوب شمال أفريقيا الطافح بالماء (حينها)، كما تدوّن أحداث «السيرة الهلاليّة» الشهيرة؟