من جهة، تبدو ورطة الرئيس العراقي هذه المرة أكبر من المرات السابقة. ومن جهة أخرى، وهنا المفارقة، لا يعني هذا أن صدام حسين سيعود تلقائياً الى "صندوقه" العتيد مما يسهل مهمة الولاياتالمتحدة التي تقود في مجلس الأمن المواجهة بين العراق ولجنة نزع أسلحة الدمار الشامل أونسكوم برئاسة السفير ريتشارد بتلر. فمن الجهة الأولى، يبدو صعباً على مساندي بغداد والمنادين بإنارة نورٍ أمامها في آخر النفق أن يجادلوا القائلين أن الأمور كانت تسير بالفعل في هذا الاتجاه منذ الاتفاق الذي توصل إليه في شباط فبراير الماضي الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مع الرئيس العراقي شخصياً، وما تبع ذلك من علاقات جيدة حتى أن بغداد وبتلر تحدثا عن بعضهما بعضاً أحياناً بعبارات يمكن اعتبارها مجاملات رقيقة مقارنة بما سبق الاتفاق مع أنان. ولعل هذه العلاقات "الرقيقة" بين بغداد و"أونسكوم" كانت وراء الشكوك التي تحدثت عنها صحيفة "واشنطن بوست" أول من أمس ومفادها أن الادارة الأميركية، ممثلة بوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، أقنعت بتلر بامتناع فرقه عن زيارات مفاجئة لمواقع عراقية. وأياً يكن، فإن سلوك "أونسكوم" خلال الفترة بين اتفاق أنان وإثارة بغداد الأزمة الحالية ربما أعطى مبررات لمثل هذه الشكوك. فما حدث بعد اتفاق أنان هو أن المواقع الرئاسية فتحت أبوابها مرة واحدة أمام أعضاء المجموعة الخاصة التي شكلها الأمين العام، بينما قامت "أونسكوم" بزيارة مفاجئة واحدة، وهذه أشعلت عملياً الأزمة الحالية لأن المسؤولين العراقيين رفضوا تسليم وثيقة، أو نسخة مصورة عنها، اعتبرت "أونسكوم" ان لها علاقة مباشرة بمهمتها. بعبارة أخرى، أصبح من الصعب حتى على أصدقاء بغداد أن يدافعوا عنها بالحماسة السابقة بسبب سلوكها الاستفزازي الواضح الذي رافق قرارها وقف التعاون مع "أونسكوم"، التي لم يصدر عنها أي عمل يبرر موقف العراقيين وإصرارهم على عدم التراجع اذا لم ينفذ مجلس الأمن شروط بغداد غير المقبولة. ويعمق الورطة، بالنسبة الى بغداد وأصدقائها، أن واشنطن لم تضع نفسها هذه المرة في خط المواجهة مع العراق، الأمر الذي وضع الكرة في ملعبه وجعله يبدو، ربما للمرة الأولى بهذا الوضوح، أنه أدخل نفسه في مواجهة مباشرة مع الأممالمتحدة وليس مع الولاياتالمتحدة. وانعكس هذا في التناغم النسبي بين الأطراف المعنية التي تكاد تتفق كلها على تحميل بغداد المسؤولية: أنان وممثله الخاص السفير براكاش شاه و"أونسكوم" والوكالة الدولية للطاقة الذرية وجميع أعضاء مجلس الأمن اعتبروا استئناف التعاون شرطاً للبحث في أي شيء آخر. أما من الجهة الثانية، فإن ما سلف كله لا يعني أن الرئيس العراقي لن يجد وسيلة لاخراج الكرة من ملعبه وقذفها في اتجاه الملعب الأميركي. فالمؤشرات هي الى أن صدام يتحرك على أساس "الاستراتيجية البديلة" اياها التي انكب على وضع تفاصيلها منذ شهور وعزم على تنفيذها بمعزل عن أي اعتبارات أخرى. الأرجح انه سيواصل دفع الأمور في اتجاه التمرد والتصعيد والاستفزاز. فتفاصيل "الاستراتيجية البديلة" قد تكون سرية، لكن هدفها ليس سرياً. الهدف واضح وهو التخلص نهائياً من "أونسكوم" من دون التخلي نهائياً عن أسلحة الدمار الشامل وبرامجها. وطريقه الوحيد نحو تحقيق هذا الهدف يمر عبر اثارة أزمة تلو أخرى وما بينهما يحقق في كل مرة مكسباً، مستنتجاً من التجارب الماضية ان الادارة الأميركية مستعدة لاخراجه بطريقة يبدو معها كأن صدام عاد الى "صندوقه"، بينما هو يزداد تآكلاً