شهدت اليمن الأسبوع الماضي تظاهرات وأعمال شغب احتجاجاً على قرار الحكومة رفع أسعار بعض السلع والخدمات ضمن المرحلة الثالثة والأخيرة لبرنامج الاصلاح الاقتصادي الذي ينفذ منذ آذار مارس 1995. وبسبب طابعها العنيف ونطاقها الجغرافي الواسع، فإنها فجرت أسئلة عديدة تدور أغلبها حول مستقبل النظام السياسي وبشكل خاص مستقبل الديموقراطية التي اختطت اليمن طريقها منذ أكثر من ثماني سنوات. والواقع أن تجربة اليمن في الممارسة الديموقراطية صاغت نموذجاً يتصف بالجرأة والديناميكية، إذ بلغت في فترة قصيرة مستوى يفوق امكانات الواقع بكل ما يعتمل فيه من مواريث الاستبداد وكوابح التقدم، بل أنها في كثير من الوجوه تفوقت على تجارب الديموقراطيات العربية الناشئة في ظروف أرقى وتجارب أكثر ملاءمة. ولا شك ان هذا النجاح يرجع بدرجة أساسية إلى إرادة وتصميم النخبة السياسية واستعدادها لتحدي المخاطرة والتضحية. غير أن الحوادث الأخيرة عكست صورة مفزعة لحجم المخاطر التي ما زالت ثقافة الماضي تحملها وبالتالي فرضت التساؤل حول مدى قدرة الديموقراطية على الصمود والاستمرار، أم أنها على العكس يمكن أن تخسر معركتها وتخلي مكانها لنوع من أنواع الاوليغارشية العسكرية أو الفاشية الحزبية. إن حصيلة تجربة الأسبوع الماضي تقدم إجابة مطمئنة من زاوية موقف السلطة الحاكمة، إذ تعاملت مع موجة العنف بكثير من الحكمة من دون أن تتخلى بالطبع عن عنصر الحزم. لقد حدثت اشتباكات بين قوات الشرطة والقائمين بأحداث الشغب والعنف، أسفرت عن ضحايا من الجانبين، لكن الانصاف يقتضي الاعتراف بأن الحكومة لم تفقد أعصابها ولم تسرف في العنف، بل تصرفت بقدر كبير من ضبط النفس. وللقياس يمكن للذاكرة أن تستدعي أحداث لوس انجليس في الولاياتالمتحدة منذ سنوات قليلة، حيث كان المشهد عنيفاً ودامياً تبدو معه الحكومة اليمنية جديرة بالاحترام. إذاً ومن هنا يكون الاطمئنان في محله من جهة ان الحكم في اليمن ما زال قادراً على أن يستوعب أزمات الديموقراطية من دون أن يضحي بها كمنظومة قيمية ونظام للحكم. مع ذلك يجب أن نقرر ان هذا السلوك ما برح مرتبطاً بشخصية الرئيس علي عبدالله صالح الذي برهن في الأمس واليوم على كفاءة عالية في إدارة الأزمات وميل كبير للتسامح، فضلاً عن قناعة وإصرار على انجاح التجربة الديموقراطية. ويصبح الخوف من انبعاث ديكتاتورية عسكرية في اليمن على انقاض الديموقراطية الحديثة النشأة ذا علاقة بأي مفاجآت قد تؤدي إلى غيابه من الموقع الأول في السلطة قبل أن تستقر الحياة السياسية على تقاليد ثابتة وراسخة للممارسة الديموقراطية. لكن أخطر المخاوف تأتي من ناحية احتمال نجاح قوة استبدادية متربصة في استغلال المتاعب الاقتصادية والرواسب الاجتماعية لتحقيق انتصار يدفع بها إلى سدة الحكم. وتعتبر الجماعات الإسلامية المنضوية في التجمع اليمني للاصلاح المرشح الأول، ولعلها المرشح الوحيد في المدى المنظور، لقيادة الارتداد على الديموقراطية. فإذا صحت الاتهامات بأن بعض أجنحة الاصلاح هي التي قادت أسبوع الاضطرابات، فإن ذلك مؤشر إلى قدرة مؤكدة على تحريك الشارع ودفع البلاد إلى المجهول والمحذور. لقد بدأت الموجة الأولى للحوادث عقب صلاة الجمعة التي صادفت اليوم الأول لتنفيذ قرار الحكومة برفع الأسعار، وبدا واضحاً مفعول شحنة التحريض من أئمة المساجد المنتمين للاصلاح، وفي تلك الظهيرة القائظة استطاعت قوات الأمن السيطرة في مواجهة نظيفة لم تستخدم فيها القسوة. صباح السبت طافت تظاهرات أغلب الظن انها تحركت بعفوية بضعة شوارع في العاصمة، ولاح في الساعات الأولى أن هناك نوعاً من الوئام والتفاهم مع قوات الشرطة التي رافقت المتظاهرين بسلام إلى ساحات المباني الحكومية المقصودة، إلا أن التلقائية اكتسبت لوناً صارخاً من الإصرار والغضب مع ساعات الظهيرة، وبدأ التخريب وأطلت الفوضى برأسها وظهرت بوادر العنف. على أن الأحداث اتخذت في اليوم التالي الأحد مساراً أشد غضباً وتنظيماً، ولم يعد الهيجان قاصراً على صنعاء وحدها، فقد استيقظت المدن النائمة بصورة قدمت قرائن تؤيد ادعاءات الحكومة على الاصلاح، لكن القرائن لا تكفي وحدها لليقين، وقصارى ما تفعله هو الارشاد إلى الوجهة التي ينبغي أن يسير فيها التحقيق. وتبقى الحقيقة ملفوفة بإطار كثيف من الضباب حتى يتم التأكد من صحة الأسانيد والأدلة التي تقول الحكومة إنها تمتلكها. فهي تقول بالتلميح وليس بالتصريح ان أجهزة التحقيق حصلت على اعترافات من بعض من جرى التحفظ عنهم أثناء الأحداث، وهو ما يقدر القضاء وحده أن يستوثق منه ويتأكد من صدقه، ويتداول في الأوساط السياسية والحزبية أن التلميح مقصود به الشيخ عبدالمجيد الزنداني الذي استبق قرارات الحكومة وألقى خطباً صاعقة حرض بها المواطنين على رفض الجرعة الرابعة والاحتجاج بكل الوسائل، خصوصاً أن خطب الزنداني نسخت في أشرطة كاسيت جرى توزيعها من قبل عناصر حزبية نشطة تمهيداً وتحضيراً للأحداث. والحق ان حكاية أشرطة الكاسيت كانت معروفة وذائعة قبل اندلاع الحوادث، ولكن توزيعها على نطاق واسع وضمن خطة مقصودة ومدبرة ليس مؤكداً كلية. والتفسير البريء أنها مجرد نزوة طيش لخطيب يعشق الشهرة وتستهويه هتافات العامة وتصفيقهم لكلماته. فالمعروف عن الزنداني افتتانه بذاته وانبهاره بالأضواء، ومع ذلك تبقى الشكوك قائمة من زاوية كونه قائداً كبيراً في حزب غير عادي، وذلك يستوجب بلا جدل أن تكون خطواته محسوبة، فضلاً عن كلماته. ومهما يكن من اعجاب بنفسه، فإنه لا يستطيع ان يتصرف بمعزل عن إرادة قيادة حزبه وبما يخالفها، خصوصاً عندما يكون واضحاً أن للتصرف تداعيات وعواقب سيدفع ثمنها الحزب كله. في كل الأحوال يصعب تجاهل الشواهد والقرائن التي تضع التجمع اليمني للاصلاح في مرمى التهمة مع عدم اغفال القاعدة القانونية القائلة بأن المتهم بريء حتى تثبت ادانته. ومع هذا، فإن للتحليل السياسي قواعده الخاصة والمختلفة تماماً عن القواعد القانونية الجامدة. والعنف ظاهرة سياسية رغم دلالاته وأبعاده الأخرى، كما أن الاصلاح قوة سياسية يمكن التنبؤ بتصرفاتها وأفعالها من خلال الملاحظة التاريخية والايديولوجية الحاكمة. فمن هو إذاً التجمع اليمني للاصلاح؟ من الناحية الشكلية والقانونية نشأ حزب الاصلاح عام 1990 من توليفة معقدة جمعت الكتل القبلية ورجال أعمال وبعض المثقفين المرتبطين بالبنوك والشركات واضافتهم إلى الاخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المتشددة. وداخل هذا التركيب الذي زاوج بين جاذبية العقيدة والسلطة ونفوذ القبلية تجمعت مفاتيح السيطرة بيد القوة الديناميكية الأدق تنظيماً والأكثر حركة وهي قوة الاخوان المسلمين. ولا سرية في أن علاقة جماعة الاخوان المسلمين بالعنف علاقة وثيقة وأصيلة وإن كان الوضع في اليمن يبدو أكثر تعقيداً منه في الأقطار الأخرى، خصوصاً مصر، حيث مركز القرار والتوجيه. في اليمن ولدت الحركة من رحم الجماعة الأم، لكنها عاشت فترة طويلة في كنف السلطة ورضعت من حليبها. فهي نشأت من الناحية الفعلية في الستينات وظل تأثيرها هامشياً أمام تصاعد قوة حركة اليسار القومي والإسلامي الذي كانت شعاراته أقرب إلى ثقافة الثورة السائدة والرائجة. ثم أدى الصدام بين قوى اليسار والسلطة إلى اعتماد الأخيرة على الاخوان المسلمين كقوة مساندة. كانت السلطة في مأزق خطير جعلها تفتح الأبواب والخزائن أمام الاخوان المسلمين. وكانت شهية هؤلاء مفتوحة واستعدادهم مبذولاً لأي مهمة وأي تكليف. ومع تطاول الأزمات والمشاكل تطاول شهر العسل وبلغ التحالف منتهاه في ذروة الأزمات التي اعقبت قيام الوحدة اليمنية في 22 أيار مايو 1990 لم يتردد الاصلاح في مشاركة الرئيس علي عبدالله صالح في الحرب ضد الانفصال رغم تحفظاتهم السباقة عن الوحدة، وبهذا اتيح لهم أن يتقاسموا معه غنائم النصر وجوائزه وكانت أمجاد الوحدة هي أهم وأغلى الجوائز. كان الاصلاح قد غدا شريكاً رسمياً في الحكومة منذ الانتخابات النيابية في نيسان ابريل 1993 في إطار ائتلاف ثلاثي ضم إلى جانبه المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي. وبعد انسحاب الاشتراكي من الوحدة ومن الحكومة، أصبح الائتلاف ثنائياً فارتفع نصيب الاصلاح من الحقائب الوزارية وبالتالي من مصادر القوة. وقد كانت تجربته في الحكومة متوحشة وشديدة القسوة على الناس، فهو قام بعملية ازاحة واسعة لكبار الموظفين وصغارهم واستبدلهم بعناصر حزبية موالية، ثم أنه غرق في الفساد حتى اذنيه، إذ احتكر تجارة المواد الأساسية والأدوية والأسماك وأحل عناصره ومؤسساته الحزبية محل التجار التقليديين، وبالتالي فرض أسعاراً مضاعفة على المستهلكين، وأصبح الحصول على السلع مرهوناً بكرم المتنفذين من قياداته وأعضائه، وفاحت روائح الفساد والصفقات من وزارات التموين والتجارة والصحة والثروة السمكية والكهرباء والمياه والوزارات والهيئات الأخرى التي سيطر عليها الاصلاح، الأمر الذي ساهم في هزيمته في الانتخابات النيابية الأخيرة في نيسان 1997. انتهى شهل العسل بين الاصلاح والمؤتمر في منتصف 1995 عندما ارتفعت بقوة صيحات الموظفين والمواطنين من الاجراءات التعسفية للمسؤولين الاصلاحيين، لكن الطلاق النهائي لم يحدث بعد، وربما كان تورط الاصلاح في الأحداث الأخيرة، إذا ثبت، بداية اجراءاته، عند ذلك يبقى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس الهيئة العليا للاصلاح شوكة الميزان وحجر الزاوية في العلاقة الحساسة بين الحزبين، ولعله ينجح في احتواء الأزمة الحالية، لكن نجاحه غير مؤكد في منع انفلات الجناح الديني العقائدي الذي قد يفجر أزمات مستقبلية. ويبقى بعد ذلك السؤال حول موقف الاصلاح جناحه المتطرف من العنف. من الواضح أن ممارسة الاصلاح يوم كان في الحكومة تشير إلى ايديولوجية استئصالية لا تقبل بالآخر، ومؤدى هذا ان وسائل الاستئصال قد تتعدد بحيث تشتمل على العنف كأداة أخيرة عند فشل الأدوات الأخرى. وإذا كان نمو الإسلاميين في كنف السلطة قد جعل ممارساتهم البطاشة غير ظاهرة حيث كانوا يقومون بها باسم السلطة، إلا أن العنف واضح في ايديولوجيتهم ومن غير المستبعد طغيانها بعد أن فقدوا كثيراً من مصالحهم. كما أن موقفهم من الديموقراطية ما زال موضوع ارتياب، فهم يقبلون بقواعدها من الناحية التكيتيكية، إلا أن لجوءهم للطغيان والإلغاء والازاحة في النقابات التي يسيطرون عليها تعكس قناعتهم الأصيلة وما زالت استراتيجيتهم تقوم على استثمار المناخ الديموقراطي للبناء والتوسع الحزبي في انتظار ظروف ملاءمة لهبة عنيفة يسيطرون من خلالها على السلطة ويلغون الديموقراطية. لهذا تبدو المخاوف قائمة من خطر الانقلاب على الديموقراطية في اليمن وقيام فاشية حزبية على غرار النموذج السوداني. إن الخطر قائم وليس مؤكداً بالضرورة. فمن المؤكد أن الرئيس علي عبدالله صالح استطاع خلال العلاقة الطويلة ترويض قطاعات واسعة داخل التيار الإسلامي ولكن قطاعات أخرى ما برحت تراوح في موقع التشدد، والعملية كلها مرهونة باستمرار التحديث وتقوية بنى الديموقراطية وتصاعد الانجاز على الجبهة الاقتصادية، فذلك هو الطريق المرشح تاريخياً لإزالة أسباب العنف والتوتر وسحب الأبسطة من تحت الجماعات التي تنمو في أوضاع التخلف والفاقة. إن مساعدة اليمن على التغلب على متاعبها الاقتصادية ومشاكلها الاجتماعية مسؤولية مشتركة يجب أن ينهض بها كل الحريصين على استقرار وأمن المنطقة، ولا ينبغي ان تتغلب الحسابات الآنية على النظرة البعيدة بما تفرضه من تصرف حصيف ومواقف محسوبة ومتوجهة نحو المستقبل. * كاتب وصحافي يمني، وعضو اللجنة المركزية للتنظيم الوحدوي الناصري.