Guy Hermet La Democratie الديموقراطية . Flammarion, Paris. 1998. 126 Pages. ان تكن لكل حضارة نرجسيتها الخاصة، فإن ما يميز الحضارة الغربية تمتعها بدرجة عالية للغاية من الاشباع النرجسي . فهي، بين سائر حضارات العالم التاريخية، انفردت باختراع ثلاث وقائع كبرى في تاريخ البشرية الحديث: الرأسمالية والثورة الصناعية والديموقراطية. ويبدو ان هذه السيرورات الثلاث - وهي سيرورات اكثر منها وقائع - متضامنة: فنحن لسنا امام ثلاث ظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية منفصلة، بل امام مركب عضوي واحد لا تقبل عناصره الفصل ولا التطور المستقل. بل قد يتأدى غياب عنصر بعينه، او حتى جزء من عنصر، الى انفراط الصيغة بتمامها. وحتى العقود الاخيرة من هذا القرن بدا وكأن أية محاولة لاستنساخ فيزيائي لهذه الصيغة الكيميائية محكوم عليها بالفشل مسبقاً. ففي جميع بلدان العالم الثالث بلا استثناء فشلت جميع المحاولات لازدراع ثورة صناعية بلا رأسمالية، او لاستنبات ديموقراطية بلا تطور صناعي. وهذا ما خلا استثناءين كبيرين: التصنيع الياباني والديموقراطية الهندية. وفي ما يتعلق بالاستثناء الياباني تحديداً فقد امكن له، بعد الضربة الذرية الاميركية في ختام الحرب العالمية الثانية، ان يستدرك شذوذه: فالمحتل الاميركي فرض على المهزوم الياباني دستوراً ديموقراطياً، فعادت الصيغة الكيميائية الى التفاعل بعناصرها الثلاثة ودخلت اليابان في المدار العضوي للحضارة الغربية وتمكنت في مدى عقود قليلة من القفز الى مرتبة ثاني اعظم قوة اقتصادية في العالم. وإن يكن الاحتلال الاجنبي المباشر هو الذي غرس في التربة اليابانية شجرة الديموقراطية جاهزة، فإن قيمة الاستثناء الهندي تتمثل بالمقابل في القدرة على رعاية بذرة الديموقراطية وعلى تنميتها الى شجرة، مع انها كانت هي الاخرى من شتل الحقبة الكولونيالية. فالجسم الهندي لم يرفض العضو الديموقراطي المزدرع فيه، على العكس مما سيحدث في معظم بلدان العالم الثالث الاخرى التي انتهزت فرصة الاستقلال الوطني لتحرر نفسها من آخر موروثات مستعمرها السابق: النظام الديموقراطي المزدرع فيها اصطناعياً بالمثاقفة. ولئن يكن فشل تجارب البناء القومي والتنمية في معظم اقطار العالم الثالث قد اعطى نوعاً من براءة ذمة او شهادة غفران للمستعمر السابق لهذا العالم، فإن سقوط تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي قد دغدغ نرجسية الحضارة الغربية على نحو لم يسبق له مثيل. فمنذ 1991 عام سقوط المحاولة الشيوعية للخروج على النظام الرأسمالية العالمي، بدا الغرب، بالعناصر الثلاثة للحضارة التي انفرد باختراعها: الرأسمالية والصناعة والديموقراطية، وكأنه انتصر بصورة نهائية. ومن ثم سارع مثقف اميركي الجنسية وياباني الاصل مثل فرنسيس فوكوياما يعلن "نهاية التاريخ" في عالم لم يعد له من مستقبل يطير اليه سوى حاضره الأزلي الذي يخفق بجناحين: الديموقراطية واقتصاد السوق. وباستثناء العالم العربي الذي اضاف في حينه الى جرح هزيمة 1967 النازف دوماً جرح حرب معاقبة العراق، عمت العالم بأسره موجة من التفاؤل والحبور اسماها المفكر الفرنسي آلان منك "الهيصة الديموقراطية" كما يقول عنوان كتاب له صادر عام 1995. ولكن هذه الهيصة سرعان ما اخلت مكانها لپ"خيبة ديموقراطية". فجنة الديموقراطية بقيت محصورة بأوروبا الغربية. وبدلاً من ان تعم كما تأمل المتأملون العالم بأسره، فإنها لم تتوسع سوى بضع مئات من الكيلومترات المربعة في الجوار المباشر لأوروبا الغربية، في تشيكوسلوفاكيا وبولونيا وهنغاريا، لتنقلب الى نوع من جحيم في أوروبا البلقانية والقفقاسية. وفي آسيا السوفياتية سابقاً وفي افريقيا جنوبي الصحراء حيث اشتعلت سلسلة من حروب اثنية ودينية دمرت لا قضية الديموقراطية وحدها، بل كذلك حتى اطر الدول التي كان من الممكن ان تؤويها. ما أسباب هذه الخيبة الديموقراطية؟ انها تعود في نظر غي هرميه، ابرز المختصين الفرنسيين المعاصرين بالعلم السياسي للديموقراطية، الى عوامل ثلاثة. فهناك اولاً الوهم الذي احاط بفكرة الديموقراطية كبديل عن مفهومها المطابق. فالشعوب، التي طال عذابها في العالم غير الديموقراطي، فهمت الديموقراطية بغير ما هي عليه في الواقع. فقد حسبتها نوعاً من تغير عجائبي قادر على ان يدخلها دفعة واحدة الى فردوس الحداثة بتأويله المادي، اي كنمط استهلاكي على الطريقة الغربية، وبالانفصال التام عن سياقها الثقافي والاجتماعي وحتى السياسي. وبعبارة اخرى، لقد جرى فهم الديموقراطية على انها ثمرة برسم القطف، لا بذرة برسم الزرع. كما جرى الربط بصورة آلية بين انعتاق الشعوب من ربقة الانظمة الديكتاتورية وبين الارتفاع الفوري في مستوى معيشتها. وما كان لهذه الشعوب عينها، وهي الرازحة في قاع بؤسها المادي، ان تدرك ان الديموقراطية ليست سوى نظام للحكم يقوم على حد السلطة بالسلطة، بدون ان ينطوي على اي دواء عجائبي شاف لكل امراض الوجود البشري. والخطير في الامر ان خيبة الامل هذه بالطابع التقني - اكثر مما ينبغي - للديموقراطية، اعاد فتح الابواب امام مشاريع شبه فاشية: فقد سارعت الشعوب التي خابت توقعاتها تبايع من جديد الزعماء الأقدر من غيرهم على بذل الوعود بقطاف قريب لفاكهة الجنة وعلى تخدير وعي الجماهير من خلال تسمية اعداء خارجيين او داخليين وهميين برسم الابادة الاثنية. وهناك، ثانياً، التأويل "القوموي" للديموقراطية. فالممارسة الديموقراطية ارتبطت في أوروبا الغربية بفكرة المواطنة في دولة قومية. والحال ان اكثرية الدول التي طرحت اشكالية الديموقراطية عليها نفسها بالحاح سواء في أوروبا الوسطى والشرقية ام في الشرق الأوسط ام في افريقيا البيضاء والسوداء هي إما دول ما فوق قومية كما في الاتحاد السوفياتي او الاتحاد اليوغوسلافي، او "قطرية" او ما دون قومية كما في العالم العربي وافريقيا جنوبي الصحراء. وبدلاً من حل ديموقراطي لمسألة السلطة، تأدت "الهيصة الديموقراطية" الى تفكيك الدول نفسها إما بصورة عنيفة كما في الاتحاد اليوغوسلافي، وإما بصورة نصف عنيفة ونصف سلمية كما في الاتحاد السوفياتي ثم في الاتحاد الروسي لاحقاً، وإما بصورة سلمية وديموقراطية فعلاً كما في الاتحاد الشيكوسلوفاكي الذي تفكك في مطلع 1993 الى دولتين قوميتين متمايزيتين تشيكية وسلوفاكية. اما في الدول الافريقية ما دون القومية فإن غياب المرجعية الى دولة/ أمة قد ألبس المطلب الديموقراطي مضموناً اثنياً وأعاد بالتالي إحياء الصراعات القبلية وأجج في بعض الحالات جذوة حروب اهلية وطائفية مقوضة للدولة ولأساسها المجتمعي معاً. ويكمن العامل الثالث في تأويل مغلوط و"أمي" لجدلية الغالبية والاقلية في الديموقراطية. فمنطق الديموقراطية يقوم على ازاحة لهذه الجدلية من المستوى المجتمعي العمودي الى المستوى السياسي الأفقي، وبالتالي على تحويل للصراع الفعلي بين طبقات المجتمع وطوائفه واثنياته الى صراع "تمثيلي" بين نواب الأمة داخل حرم البرلمان، مسرح العنف الرمزي. والحال ان الفصل بين آلية الديموقراطية وثقافة الديموقراطية قد تأدى في العديد من المجتمعات التي لم تعرف تطوراً عضوياً للحداثة الى التمسك بتأويل مجتمعي، اثني او طائفي، لجدلية الغالبية والاقلية، مما استتبع اعادة تفعيل العنف وتصعيده الى حرب اهلية، وحتى الى حرب ابادة للجنس البشري كما حدث في رواندا، حيث قامت الغالبية المحكومة من اثنية الهوتو بتذبيح الاقلية الحاكمة من اثنية التوتسي في محاولة لتصحيح ميزان القوى "الديموقراطي" من منطلق ديموغرافي. والى هذه العوامل الثلاثة الموجبة التي تحكمت بانقلاب الهيصة الديموقراطية الى خيبة نستطيع ان نضيف عاملاً رابعاً من طبيعة سالبة هذه المرة. فالتنانين الآسيوية قد أفلحت في إحداث نوع من انقلاب مذهبي في التصور الكلاسيكي عن التضامن العضوي ما بين النمو الصناعي والتطور الديموقراطي. فمعظمها قد انجز نقلته المعجزة الى التنمية الصناعية واقتصاد السوق في ظل انظمة قابلة للتوصيف بأنها "استبدادية شرقية". وقد لخص لي كوان، الرئيس السابق لجمهورية سنغافورة، درس "الطلاق" هذا بين الانفتاح على الحداثة الاقتصادية والانغلاق على الحداثة السياسية بقوله في مقابلة اجرتها معه مجلة "ايكونوميست" البريطانية: "ان الديموقراطية لا تتأدى الى نمو سريع في المجتمعات المتخلفة"، وانه "لولا العسكريين لما افلحت كوريا الجنوبية وتايوان في الاقلاع اقتصادياً بمثل تلك السرعة". ويبدو ان البنك الدولي قد انتهى هو نفسه الى تبني رأي من هذا القبيل عندما لاحظ في تقريره الصادر عام 1993 عن "معجزة آسيا الشرقية"، ان الازدهار الحالي لتلك البلدان الآسيوية تكمن وراءه "دول قوية وتدخلية". وبهذا المنطق عينه تعمل اليوم الصين الشعبية التي تقيم الدليل، بمعدلات نموها الاقتصادي الخارقة للمألوف، على ان الانفتاح على اقتصاد السوق لا يشرطه ولا يستتبعه بالضرورة قدر مواز من الانفتاح السياسي. وإزاء هذا القفاز الذي ترميه "المعجزة الآسيوية الشرقية" في وجه الديموقراطية، أفلا تبدو هذه الاخيرة وكأنها بحاجة الى اعادة تأويل، بل الى اعادة اختراع، لا سيما في نهاية القرن هذه التي كفت فيها منجزات الحداثة الغربية عن ان تكون محصورة بالغرب؟