Jean-Louis Bodinier & Jean Breteau. Les Fondements Culturels du Monde Occidental. الأسس الثقافية للعالم الغربي. Seuil, Paris, 1998. 64 Pages. قبل ان يكون الغرب هو الغرب كان وارثاً لحضارات شرق متوسطية وغرب - متوسطية. فعن اليونان ورث أهم صفة مميزة للنظام السياسي الذي تفرّد باختراعه: الديموقراطية. ان لم يكن جوهرياً، فعلى الأقل اسمها: الديموقراطية، وآليتها: الانتخاب. فالديموقراطية هي، على ما يقول قدامى الاخباريين، من اختراع جزيرة خيو التي كانت واحداً من اهم مراكز الحضارة الايوانية في قبالة الشاطئ التركي. ثم انتقلت "عدواها" في القرن الخامس ق.م. الى اثينا، فعرفت، في عهد بريكليس على الاخص، "عصراً ذهبياً"، وان ظلت من طبيعة ارستقراطية ورقّية: فقد كان حق الانتخاب مقصوراً على اقل من عشرين الفاً من "المواطنين" الذكور، في حين بقي "الأغراب" و"العبيد" و"المواطنات" الاثينيات محرومين منه مع ان تعدادهم جميعاً كان يزيد على الثلاثمئة ألف. وعن الامبراطورية الرومانية ورث الغرب فكرة "المواطنة" بالذات. فقد روى شيشرون ان سجيناً عُذّب عذاباً فظيعاً بأمر من موظف مرتشٍِ في روما. وقد ظل يردد حتى الموت: "انني مواطن روماني" وكان يدلل بذلك على الوعي بأهمية هذا الامتياز حتى عندما لا يُعمل به. وقد ظل نصاب المواطنة مقصوراً على "الاقحاح" من الرومان دون سائر "الدخلاء" و"العبيد" الى ان اصدر الامبراطور كاراكلا، الليبي - السوري الاصل، مرسوماً في عام 212م يقضي بمنح صفة المواطنية لجميع السكان الاحرار في الامبراطورية الرومانية. ودوماً عن الامبراطورية الرومانية ورث الغرب اهم شكلين لتنظيم الدولة: الشكل الامبراطوري والشكل الجوهري: فطوال القرون الخمسة الاولى قبل الميلاد كانت الدولة الرومانية لا تزال جمهورية. وعن المسيحية الفلسطينية ورث الغرب ديانته ومبدأ العلمانية: "اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر" حسب عبارة الانجيل المشهورة. وفي مواجهة المسيحية البيزنطية اليونانية طوّر الغرب عقيدته الكاثوليكية اللاتينية. كما انه في مواجهة الاسلام، سواء في حرب الاسترداد الاسبانية او في حروب المشرق الصليبية، أنمى شعوره بوحدة هويته الدينية والسياسية والحضارية. ولكن ابتداء من القرن الرابع عشر بدأ الغرب يتحول من وارث الى مورث. ففي اوكسفورد وباريس ومونبلييه وبولونيا تطورت الجامعات الاولى، التي أقرت لأول مرة في التاريخ، ومنذ استتباع العقل لسلطة النقل في الحضارات الدينية للقرون الوسطى، مبدأ استقلالية البحث العلمي وحرمة الاطار الجامعي. وفي منتصف القرن الرابع عشر، ومع قطع السلاجقة طريق الصين البري، وجد الغرب نفسه مجبراً على تطوير وسائل الملاحة البحرية، فأضاف الى تجهيزات السفن المعروفة يومئذ مثل البوصلة والاسطرلاب تقنيات جديدة مثل الشراع اللاتيني والدفّة ذات السُكّان، مما أتاح امكانية الرحلات البحرية الطويلة وهيّأ الشروط التقنية لاكتشاف "العالم الجديد" من قبل كريستوف كولومبوس وأمريكو فسبوشي وفرنان ماجلان في الفترة ما بين 1492 و1522. وفضلاً عن الاهمية العلمية لاكتشاف القارة الاميركية، فقد امكن للغرب ان يكتشف لاول مرة مدى ما أصابه من تفوق: فالجيش الاسباني الذي قوّض امبراطورية الانتيك في 1519، ثم امبراطورية الإنكا في 1533، ما كان يزيد تعداد أفراده على 400 راجل و16 فارساً و6 مدافع بدائية. وبفضل هذا التفوق التقني امكن للغرب ان يكتشف "فضيلة" الاستعمار ايضاً: فبين 1503 و1600 أفرغت المراكب الاسبانية العائدة من القارة الاميركية ما حمولته 7440 طناً من الفضة و154 طناً من الذهب في ميناء اشبيلية النهري. وانطلاقاً من هذه الثروة، التي عمّت اوروبا بأسرها، طوّر الغرب الاشكال الاولى من النظام الاقتصادي الذي انفرد باختراعه: الرأسمالية. فالنفقة الهائلة لتجهيز السفن كانت تقتضي شراكة في رؤوس الاموال، كما ان اخطار الملاحة البحرية كانت تقتضي الا يوظف الممول كل ماله دفعة واحدة في سفينة واحدة. وعلى هذا النحو رأت النور الشركات الرأسمالية الاولى، وفي ركابها الاشكال الحديثة من النقد كالسفتجات والسندات والصكوك والعملة الورقية. وعلى اهمية هذا التطور "المادي" ارتبط مولد الحداثة الغربية بانقلاب اعظم خطورة في النظرة الى العالم. فقد حلّ ابتداء من عصر النهضة، تصور جديد للكون يرتكز اساساً وحصراً على العلم وكشوفه. وصحيح ان الحداثة الغربية استفادت في هذا المجال ايضاً من الموروث الفلسفي والعلمي للحضارات السابقة لا سيما منها اليونانية والعربية. ولكن الجديد الذي استحدثته، والذي بات لها بالتالي علامتها الفارقة، هو تحويلها موقع العلم من الهامش الى المركز وتسييده كقيمة على كل ما عداه. ومع العلم غدا الانسان، بما هو كذلك، في مركز الاهتمام. وقد كان عصر النهضة هو بحق عصر النزعة الأنسية، وذلك بالقطيعة مع العصر الوسيط، عصر النزعة التأليهية. ومما ساعد على انتصاب الانسان في قطب مستقل اختراع غوتنبرغ للمطبعة في نحو العام 1450. فقد سارعت نحو من مئتي مدينة اوروبية الى تزويد نفسها بورشات طباعية، ولم يطلّ العام 1500 حتى كان عدد نسخ الكتب المطبوعة قد أربى على العشرة ملايين. والتحول في التقنية من الكتاب المنسوخ الى الكتاب المطبوع جعل الكتاب سلعة رخيصة نسبياً، وفي متناول شرائح شعبية عريضة كانت مستبعدة من حقل الثقافة. وبحلول الانسان القارئ على الانسان الأمي امكن للغرب ان يعيد النظر في موروثه الديني. فبعد ان كان علم التأويل وقفاً على رجال الكنيسة المتضلعين باللغة اللاتينية، امست قراءة النصوص الدينية في متناول الانسان العادي. فكانت الثورة اللاهوتية اللوثرية التي الغت وساطة المؤسسة الكنسية بين الله والانسان وكرّست لهذا الاخير حقه في التأويل والاجتهاد، مما ردّ الى العقل اعتباره وقدرته على الاشتغال. ولكن تطور الحركة البروتستانتية كان حاملاً لبذرة حرب اهلية دينية. فبين المحافظين الكاثوليكيين والاصلاحيين البروتستانت دارت على مستوى الامراء الاوروبيين، كما على مستوى الشعوب، حروب دينية حقيقية استمرت ثلاثين عاماً 1618 - 1648. وما قيض لأوروبا ان تضع حداً لهذه الحروب الا بعد اقرارها لشكل اولي من العلمانية وفصلها السلطة السياسية للامراء عن السلطة البابوية الدينية. وتمخضت "ازمة الضمير الاوروبي" هذه عن مولد "فلسفة الانوار". وقد قامت هذه الفلسفة على مبدأ بسيط وثوري في آن: فالعقل هو مدخل الانسان للسيطرة على نفسه وعلى الطبيعة، وفوق سلطة العقل لا يجوز ان تعلو أية سلطة اخرى. وقد تضافرت هذه النزعة العقلية مع النزعة العلمية لتعطي شرارة الانطلاق للثورة الصناعية التي باتت، ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر، مرادفاً للحضارة الغربية ذاتها. وإذ تأدت هذه الثورة إلى تعميم استخدام الآلات، فقد ضاعفت الانتاجية البشرية عشرات المرات، بل مئاتها، وهذا حتى في مجال الزراعة. فقبل الثورة الصناعية كان إطعام مدني واحد يحتاج إلى تضافر فائض انتاج أربعة فلاحين، وبفضل التقدم التقني غدا اليوم في وسع فلاح واحد ان يطعم 50 مدنياً، أو حتى 100 مدني في الحالات المتقدمة جداً من التأليل الزراعي. وقد كانت السياسة مجالاً مميزاً لتظاهر النزعة العقلانية الجديدة. وكانت انكلترا سباقة إلى الحد من سلطة العواهل المطلقة بإقرارها قانون صون الحرية الفردية عام 1679، ثم بإصدار البرلمان الانكليزي للائحة الحقوق عام 1689. وبعد نحو من مئة سنة زودت كل من الولاياتالمتحدة 1787 وفرنسا 1791 نفسها بدستور يحدد شروط الممارسة العقلانية للسلطة. وفي القرن التاسع عشر دخل الغرب في طور جديد من تطوره: ففي كل مكان من أوروبا راحت الايديولوجيا تحتل المواقع التي كان يحتلها الدين من قبل. وعلى نحو شبه متواقت رأت النور الايديولوجيات الرومانسية والليبرالية والقومية والاشتراكية. وحلت دينامية جديدة للصراع السياسي - الاجتماعي، هي دينامية اليمين واليسار، محل الانقسامات العمودية، الدينية والطائفية والاثنية والطبقية، في المجتمعات القديمة. وفي النصف الأول من القرن العشرين تطورت الايديولوجيات الشمولية، لا سيما في الأقطار التي تأخر تطورها العضوي نحو الحداثة: روسيا والمانيا وأقطار شتى في أوروبا الشرقية والجنوبية. وقد دفعت شعوب أوروبا ثمناً غالياً لهذه التجارب التوتاليتارية: لا أقل من عشرة ملايين ضحية للارهاب الستاليني، ونحو من ستين مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية التي كانت بمثابة حرب أهلية أوروبية. وفي أعقاب هذه الحرب عاود الغرب اكتشاف فضيتلي الديموقراطية والسلم. فلأول مرة في التاريخ أمكن لأوروبا، "قارة الحروب"، كما يلقبها بعض المؤرخين، ان تعيش على مدى نصف القرن الأخير في حالة سلم دائم. وأكثر ما يميز نهاية القرن هذه، ولا سيما بعد انهيار النظام الشيوعي السوفياتي من داخله، الأفول العام للايديولوجيا في الغرب. فبعد نزع المسيحية في القرن التاسع عشر تبدو اوروبا وكأنها دخلت في نهاية القرن العشرين هذه في طور نزع للايديولوجيا. أما القرن الحادي والعشرون الوشيك فهو مرشح لأن يشهد عملية "نزع" ثالثة: فبفضل التطور المذهل في التقنية الالكترونية والمعلوماتية تتهيأ أوروبا، وهي على عتبة العام 2000، للدخول في طور نزع للصناعة نفسها.