الجزيرة القطرية جغرافيا الشرق الإسلامي والشرق القديم تحتل مساحة واحدة، وهي تضم مع المشرق العربي وشعوبه القوميات ذات الشراكة التاريخية في أمة الرسالة الإسلامية وإن كانت رسالة البلاغ الإسلامي تشمل كل البشرية وأسرة الإنسان الأول، إلا أن هذا الشرق لعب دورا مهما مركزيا في رسالات السماء والقيم الروحية وفكر الفلسفة القديم. فهو محطة مركزية للإنسانية أمام جغرافيا العالم الجديد، وتأتي القوميات الفارسية والتركية والكردية كأبرز شركاء العرب في اعتناق الرسالة الإسلامية منذ بلوغ نداء بعثها الأول إلى أرضها بغض النظر عن حجم الانحرافات التي أصابت مفاهيم عرب وأعاجم في فطرة الرسالة أو في قيم بلاغها الأصلي، وهنا تأتي أهمية هذه الشراكة المستمرة إلى اليوم في تطبيق مفاهيم الدين وعلاقته بالإنسان وفي وعي فكرته الحضارية. وهذا امتداد واسع يقتضي تفصيلات كبيرة، وإنما فكرة هذا المقال تقتضي استعراضا للخلاصة التي يعيشها البَلدان (تركياوإيران) أخذا بالاعتبار ظلال العهد الفكري للشرق الإسلامي. إن الجمهورية الإيرانية والجمهورية التركية تمثلان اليوم تقاطعات ومدرج تأثير مباشر لكل شعوب المشرق الإسلامي، وهذا الصعود للمشروعين السياسيين فيهما تتتالى تأثيراته الذاتية أو علاقاته السياسية مع جغرافيا المشرق العربي والعالم الإسلامي. إن العنصر الزمني المهم لهذه المقارنة الأولية بين المشروعين أنهما يأتيان في وقت متقارب، والمقصود هنا ثورة رجل الدين الراحل آية الله الخميني التي أسست دولتها عام 1979 وبين الثورة المدنية التي أطلقنا عليها ثورة باعتبار تحقيقها المنجز السياسي المعاصر للديمقراطية الحديثة في تركيا وإن كانت ثورة مدنية مخملية عبرت للمشروع السياسي الجديد لتركيا الحديثة تدريجيا وكانت شخصيتها المحورية رجب طيب أردوغان. لكن مع ذلك لم يبدأ بروز شخصيته السياسية بتولي بلدية إسطنبول 1994، بل بالكفاح الديمقراطي الذي واجه استبداد العهد الجمهوري لتركيا الحديثة منذ 1961 حتى 2014 وتثبيت قاعدة التداول السلمي للسلطة. كما أن تأثير البروفيسور أربكان ومداولاته لصعود فكرة الدين الإسلامي وتركيا الحديثة لهما زخم آخر لا يمكن أن يُغفل في هذا السياق الذي يمتد ليشمل أردوغان ورفاقه بحزب العدالة في تشكيل فكرهم الحديث. ومع نبض العودة المتفاعل للقيم الإسلامية والعودة لروابط الشرق في العهد العثماني إلا أن هذه الثورة لم تستنسخ مسارات الانحراف في السلطنة العثمانية، وإنما تبني جسورها الديمقراطية بمدارات التواصل الإنساني معها ومع أمم الشرق والجوانب الإيجابية فيها. والمحصلة هي أن أردوغان حتى تاريخنا اليوم على الأقل هو المقابل كزعيم تاريخي لعملية التحول الديمقراطي أمام النموذج الإيراني الجديد. إن فكرة الإنسان والدين الجديدة في إيران تشهد تجاذبات عنيفة فقد تحولت دستوريا وممارسة سياسية إلى نموذج ذي اتجاه طائفي حاد مع شعوب وقوميات مختلفة أو من العرق الحاكم ذاته في طهران بين الفرس والأذريين. هذا الواقع اليوم يحمل طيات ضخمة من التفتيت الطائفي للإنسان في أقاليم عديدة للجمهورية, كما أنه يصعّد في مدارات التشدد والقهر الديني لإنسان الجمهورية الدينية والتي تواجه اليوم الحريات الفردية وحركات الفكر للتشيع اليساري أو حركات اليسار المطلق والتيارات الليبرالية الصاعدة في إيران أمام ما تعتبره من قهر ديني. إن هذا الفشل لم يدفع النموذج الثوري الإيراني إلى مراجعة سجله الوطني وتحديث الفكر الديني بناء على أصول الرسالة الإسلامية ونوازع بنائها الحضاري وخلق دستور مدني يؤمن بالدين وشرائعه الكبرى وحقوق الفرد وحضارته التي احتواها ونظمتها فكرة الإسلام الأصيل. لقد تحولت الجمهورية عبر شهادات مستفيضة من الداخل ومنذ الصراع الأول مع شركائها اليساريين في ثورة 1979 حتى حركة الخضر الجديدة إلى ترسانة حصار وقمع تنفذ أيديولوجية الجمهورية الدينية الطائفية لا جمهورية المواطنة الحديثة. وأضحت فكرة الدين في الجمهورية باعثا على القلق والتبرير للخسائر الإنسانية في الداخل أو حروب الخارج المهيمنة عليها النزعة الطائفية، ليس لأن الولاياتالمتحدة الأميركية ذات السجل العنصري والاستبدادي مع شعوب الشرق تحرض على طهران رغم تقاطع مصالحهما، لكن لكون هذا الفشل والاختناق يصعد في الذات الإنسانية في إيران وتأثيراتها المختلفة. إن التبشير بثورة التدين الإيراني تحولت داخل المجتمعات العربية أو الآسيوية إلى انقسام اجتماعي خطير وخزانة طقوس وممارسات مكثفة منذ ولادة الطفل تدور محوريا على أن الدين هو معركة الانتقام للمظلومية الطائفية التي جرت قبل 1400 عام بحسب مفاهيم ثورة 1979، وأضحت هذه اللغة هي فكرة تصدير البعث الثوري الشامل للمجتمعات سواء كان ذلك ضمن استثمار مظالم حقيقية معاصرة تعيشها الشعوب بأقلياتها من أجواء الاستبداد أو بغرض صناعة الطوائف الموالية للجمهورية الجديدة. لقد انحسرت أجواء الحرية والحياة المدنية ذات القيم الإسلامية الروحية, وقدمت الجمهورية الجديدة في نموذج احتلالها السياسي للعراق أدلة صادمة لمستوى صعود الخرافة والكراهية والانقسام الاجتماعي الدموي والفوضى الأهلية, ثم دخلت الجمهورية الجديدة بالخطاب الديني ذاته الذي أعلنت به تأسيسها في حرب واتحاد موقف مع القوى الإسرائيلية والغربية التي خشيت من تحقيق حرية الشعب السوري, وأضحى هذا النموذج لعلاقة الدين والإنسان لدى طهران يصعد بصور بشعة لم يعرفها التاريخ المعاصر إلا في مذابح رواندا والبوسنة، وباتت لغة التجسيد للإيمان بالتدين الجديد مشروع استقطاب عبر هذه المفاهيم لجماعات بشرية استخدمت بالقتال في سوريا والعراق. بالمقابل، فإن النهضة التركية الحديثة بدأت بصناعة مسارات حرية الفرد وقراره السياسي، وخاضت أهم معركة للإنسان والمواطنة الحديثة بفكرة وطنية اجتماعية تتمسك بجذورها الإسلامية. إن التقدم الذي أحرزته تركيا الحديثة في تحرير القيم الروحية من القمع الجمهوري المستبد ثم تحويله كطاقة فاعلة لدفع التقدم المدني وتكريس الحياة الدستورية وتساوي أبناء الطوائف بالحقوق الوطنية هو معلم بارز مهم لتفاعل فكرة الإنسان والدين في حياة تركيا المعاصرة. لقد اشتغل هذا المشروع التركي الحديث الذي ساهمت في بعث فكرته شخصيات من أيام الحكم العثماني، نادت بالحداثة الإسلامية والحفاظ على الهوية والجامعة الإسلامية، لكن لم يُلتفت لها فانزوت بعد عهد الاستبداد الجمهوري. هذا العهد الذي أعطى مساحة للحداثة الغربية، لكن دون تقليد المواطنة الدستورية بأوروبا، في حين وصلت معركة الحداثة لتركيا الجديدة إلى مفهومها الجديد، التنافس مع الغرب في الحقوق الدستورية والحياة المدنية المعاصرة وفتح أبواب الفكر الإسلامي الروحي ليصنع ضمير الفرد وسموه القيمي الذي لم تصل إليه أوروبا. وفي حين تدفع فكرة العصمة الدينية للمرجع في إيران لكي يكون الحَكَم المطلق على تصويت الشعب وتوجيهه تطلق الحرية السياسية الدستورية والخيار الشعبي لتوجيه قواعد الحكم والسياسة كما قررها صندوق الانتخاب في تركيا. إن الجذور الإسلامية تصعد اليوم في تركيا لضبط الجفاف أو التطرف المدني المعاصر الذي لا يخلق تقدما ولا روحا لإنسان الشرق، وإنما يُسلّع ذاته الإنسانية لمتطلبات الصناعة والرأسمالية ضد قيم الروح والاستقرار الاجتماعي. إن نجاح النموذج التركي بعبور آخر انتخابات سياسية حوت فيها حق التصويت لكل الطوائف بما فيها الطائفة العلوية، وتحييد الحرب السورية عن الحقوق الوطنية الاجتماعية يقدمان دليلا لمفاهيم الدين والإنسان لدى قيادة هذا المشروع الجديد لنهضة تركيا. والمراقب المنصف حين يتأمل في رسائل تركيا للمشرق الإسلامي وشعوبه يجد نماذج متقدمة في الحقوق والنهضة والقيم الروحية والانفتاح على الآداب والفنون تعتني بقيمة الإنسان لا تسليعه في عالم الميديا. ورغم أن نماذج هذا التسليع قائمة في الجمهورية التركية الحديثة تقليدا للعهد الصناعي الغربي فإن صنّاع المشروع الوطني الجديد لم ينشغلوا بمطاردته بل بضمان الحق الدستوري للشعب والمعركة بشأن أهم مؤسستين نافذتين في الحياة السياسية، وهما الجيش كترسانة قومية للأمن الوطني لا الوصاية على الشعب، ومؤسسة القضاء لضمان عدالة الدستور ودستورية العدالة للفرد. صحيح أن هذه التجربة التركية لا تزال في ميدان صعود وتعيش جولات ضغوط، وهي معرضة كغيرها لهزات داخلية أو صعود نزعات استبدادية أو تقويض خارجي، لكن قصة الفكرة الدينية كرافعة لقيم الشعب وحقوقه تبرز بوضوح أمام فكرة الدين والإنسان في إيران والذي يقرر حدوده المرجع البشري المحصّن لا النص الأصلي للرسالة الإسلامية من الراحل الخميني إلى خلفائه. وهذه المقارنة ممتدة من خلال مشاريع الدعم والغوث الإنساني الذي تمارسه تركيا المعاصرة دون شروط تبشيرية، في حين أن خطاب الدين الطائفي لجمهورية إيران الجديدة هو محدد المسارات للتواصل مع الإنسان. إن هذه المقارنة تأتي في زمن صعب للشرق الإسلامي لا يقف عند المعضلات السياسية والبطش الذي واجه بعض ربيعه، وإنما يشمل فكر صناعة التجارب السياسية وتحويل هذه المقارنات إلى درب مضيء يستقي فيه المشرق الإسلامي درب الحضارة المشتركة التي تبدأ بالإنسان وحريته من الاستبداد باسم الدين والاستبداد ضد الدين.