ما تسعى اليه معارض الفن التشكيلي في لندن حالياً هو اثارة رد الفعل... وكلما كان هذا استهجاناً كلما كان أفضل! معرض انيش كبور في "هيوارد غاليري" يثير اهتماماً من نوع آخر. انه يوسع الرؤية ولا يقدم تفسيراً، يجذب المشاهد الى المشاركة ويمنعه من الاقتراب... حراس الغاليري يراقبون المنحوتات العشرين في كل اتجاه. هناك رغبة شديدة في اللمس... الأشكال لامعة وملونة، مقعرة ودائرية، القليل منها مستطيل أو يقف متعامداً. اننا نبدأ من موقع "اللااكتظاظ" أي من منطلق ذهني بحت. وعلى رغم بساطة التماثيل فإنها تخفي أشكالاً وأسراراً في داخلها. كل منها يحتوي عمقاً وطريقاً الى ذلك العمق، لكن الاندماج يتوقف على قدر الاهتمام. نحن امام محاولة تجريد التماثيل من الاشكال، وإبعادها عن الشوائب والتراكيب. المادة "مصنعة" لكن تطورها نحو البساطة. الفنان كبور، البريطاني، الهندي الأصل، يقدم لنا المفاجأة على مراحل كأنه يدعونا الى المشاركة في العملية... الاقتراب من العمل يكون على مستوى ذهني ايضاً. أيحب المشاهد ان يدخل في التمثال المقعر؟ إذن ما عليه الا ان ينظر في الفجوة الوسطى ويترك لخياله التمدد في الماوراء. بعض هذه التماثيل يغوص في الأرض أو الجدار وحتى في السقف... التجربة شاملة في عدد من الاتجاهات، والصورة موقوفة على ما يختاره المشاهد. لا جديد في هذه الناحية. إلا ان التماثيل أو بالاحرى القطع التشكيلية تأتي بلعبة المشاركة. الناظر يرى نفسه في المرايا المقعرة منكسر الصورة على السطح، ثم هناك الفجوة التي تبتلع كل شيء الى الظلام... الفنان يبحث عن طريقة لافراغ المساحة، بينما يحاول المشاهد ان يملأها، ليس بالنظر فحسب، ولكن بالضياع في المرايا المقعرة. يا ليت هذه الطفلة الصغيرة تستطيع ان تعثر على السر فهي تحاول ان تجر أمها داخل الفجوة معجبة بالصور المشوهة لها. الأم تحاول ان توقف اندفاعها، فاللمس ممنوع، وهكذا تضيع رغبة الصغيرة في ان تمتزج بالشكل وتضيع كأنها في مسرح سحري صغير. أهم من هذا ان يعثر المرء على زاوية للنظر لا يحدث فيها إيهام. نحن أمام عدد من القطع الاهليليجية المشطورة الى اثنين، ذات ألوان زرقاء وصفراء وبيضاء كالجبس، لا تفرق بينها وبين الجدار الموضوعة عليه. الناس يقتربون من بعضهم كأنهم يحاولون الاستماع الى همسات أفكار سرية... كل ما يريده الفنان ان يخدع النظر كأنه في سيرك؟ فما الفائدة من شكل كروي مصقول يشعر الانسان بالدوخة وهو ينظر الى فجوة وسطه؟ يتحدث كبور في فيديو يقدمه المعرض انه يحاول اختبار المساحة الخارجية والداخلية عند الناظر، ويعني بذلك المشاعر التي تجول بخاطر الانسان وهو يرصد رد فعله، معلقاً على الشكل ذهنياً ومستمعاً في الوقت نفسه لما يجري حوله. أنيش كبور يخوض هنا تجارب مع الوعي، مع حركة الذهن عندما يصل الضجيج فيه الى أدنى درجة، لكن المشكلة التي كانت تواجهه انه لا يمكن الغاء المادة، إلا انه يمكن التقليل من وجودها بخدع بصرية. وهكذا يعتمد المعرض كثيراً على تجربة الناظر، لقد فتح الفنان الباب لعملية الاستكشاف ويترك المتفرج وحده مع افكاره وتأويلاته. الفنان يلغي الحدث والمعنى ويركز على الجاذبية والنفور بين الكتلة والاشكال التي تتخذها. وقد حاول، خصوصاً في التماثيل المصقولة المقعرة، ان يحشر المتفرج الى درجة النفور. يقول الفنان في احد هذه التماثيل المشطورة انه حاول التعبير عن الخوف من السقوط أو الانسحاق الذي اعتراه فترة. في جانب آخر من المعرض نجد ان العلاقة بين اللون والمادة تنتقل الينا مباشرة، فالأزرق النيلي يتحول الى فضاء قاتم سرعان ما يجذبنا اليه ويبتلع نظراتنا كأننا بين يد خبير في التنويم المغناطيسي. ما هو الحدث، ما هي الغاية، ما هو التفسير؟... لا شيء من هذا في صمت القطع المصقولة... الأمر متروك للمشاهد ليستمتع بالظاهر أو يغوص في باطن الأشكال ماورائياً.