للمرآة حكاية في أعمال الفنان الإيطالي مايكل أنجلو بيستوليتو، وهي تبدأ بمجرد الرؤية الأولى، التي تضع الزائر أمام صورته العابرة في علاقة تفاعلية لا تخلو من الإيهام، سرعان ما تشكل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية التي يعمل عليها الفنان منذ عقود خلت. وبيروت تكتشف للمرة الأولى نتاج بيستوليتو في معرض تنظمه غاليري نايلا كتانة وغاليري «كونتينوا»، في مركز بيروت للمعارض (سوليدير- بيال حتى 11 كانون الثاني/ يناير 2015)، بعيد المعرض الذي أقيم له في العام الماضي في الهرم الزجاجي لمتحف اللوفر. يعتبر ميكال أنجلو بيستوليتو، واحداً من ابرز الشخصيات الفاعلة في الفن المعاصر وطوال خمسين عاماً خلت، دخلت أعماله المزادات والمتاحف العالمية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وهو من القلائل الذين حملوا رسالة إنسانية تتلخص في قدرة الفن على أن يغيّر وجه العالم. فهو من مواليد مدينة بييلا العام 1933، ترعرع في محترف والده الذي يعمل مرمّماً للوحات، وهذا ما أكسبه دراية بجماليات الفنون القديمة، التي أدرجها في ما بعد ضمن رؤى جديدة متقاطعة مع تقنيات الفنون المعاصرة. بدأ حياته كفنان اختباري طليعي يسعى إلى إيجاد أجوبة حول علاقة الفن بالشكل والزمن، ثم باشر بعرض أعماله الفنية في العام 1955 بأسلوب واقعي يتمحور حول صوره الذاتية. لفت أنظار النقاد باعتماده الرسم على صفائح معدنية مصقولة أعقبها بمتتاليات من الرسوم على المرايا، منحته رؤى منطقية في تفسير فلسفة العلاقة التفاعلية الملتبسة ما بين العمل الفني المرئي والجمهور. فقد انطبع في ذاكرته تقنية تغطية مساحات اللوحات المرممة في محترف والده بمواد الورنيش العازل واللمّاع، كانت تثيره صور وجهه وهو ينعكس على صفحات تلك اللوحات القديمة. لذا اندمج منذ بداياته الفنية في حكايات المرايا وفي متابعة الأسئلة الوجودية الكامنة في مسائل التفاعل ما بين الوجوه وانعكاسات المرايا. ومثل مصور فوتوغرافي يشاهد الحقائق عبر عدسة الكاميرا اعتبر بيتسوليتو أن المرايا، ليست مكاناً للتأمل فحسب وإنما هي فضاء كي يرى الآخرون أنفسهم داخلها، لذا أدخل صور الناس في مشاهد من الحياة اليومية داخل البيت وفي الشارع، ليست سوى وسيلة لإدخال المشاهد الجديد في لعبة المرايا حتى يغدو جزءاً من صيرورتها. ومن خلال اللوحات - المرايا غاص الفنان في مسائل الثقافة المرئية بحثاً عن مقاربات جمالية على صلة وثيقة بأزمات الإنسان المعاصر (أزمات وجودية - اجتماعية)، لذا جاءت عملية تحطيم المرايا لتعكس الانكسارات الداخلية للمجتمع المصغّر، على اعتبار أن فعل التكسير فيه شيء من التضعيف العددي، وهو وسيلة لإبراز شخصية محركة للتبادل والتفاعل الاجتماعي، تكون وسيطاً بين النقائض في ظل الصراعات التي أثارتها ثقافة الصورة، بين فنون الماضي وموجات ما بعد الحداثة. لذا انجذب نحو عمليات المشاركة في إدخال الفن في صميم تساؤلات الحياة والمجتمع. وأمضى زهاء خمس سنوات مع جماعة Art Action التي سعت في بياناتها إلى إخراج التجارب الفنية من العزلة. وأصدر في العام 1968 (في بينالي البندقية) منشوره الذي حمل عنوان «مشاركة في عمل» الذي ساهم في ولادة جماعة Le Zoo التي زاولت مبدأ التفاعل والتبادل واكتشاف هوية الآخر. لذا كتب بأضواء النيون عبارته الشهيرة «أحِبوا الاختلافات» (Aimez les différences) أي أحِبوا التمايز الذي يقدمه الآخر. زاول بيستوليتو النحت مستوحياً الأشكال الخام التي تغيّرها عوامل الطبيعة، وبين عامَي 1985 و1989، ظهرت لديه سلسلة فن البؤس، قبل أن ينشىء في التسعينات مؤسسة Citadellarte، كجامعة للأفكار، بغية إدخال الفن في علاقة ناشطة مع أوساط متنوّعة من المجتمع بهدف إلهام وإنتاج التغيير المجتمعي المسؤول، تجسدت في أعمال تجهيزية وأعمال فن الأداء. وقد اعتبر بيستوليتو أن الفن المعاصر لا يختلف كثيراً وبالعمق عن الفنون القديمة، وإنما طرق التعبير هي التي اختلفت لإعطاء تفسيرات جديدة حول علاقة الفن وعلم الجمال بالحياة.