في تسمية الأدب والمنفى صدرت دراسات كثيرة، وهي تتزايد بتزايد الحاجة الى قراءة ظاهرة الهجرة والنزوح في العالم. تضاريس معرفية جديدة برزت الى العيان بعد زحف وتفكك الطروحات الفكرية القديمة، وتداخل الدرس الأدبي والفكري في منظومات تشغل فيها اليوم ظاهرة المنفى بتجلياتها الحديثة حيزاً كبيراً. لعل المنفى حسب الكثير من المفكرين، احد اهم العوامل التي تؤثر في مسرى العملية الابداعية المعاصرة. ومن عالمنا العربي ترحل مجاميع كبيرة من المشتغلين في المعرفة والفن الى أوروبا وأميركا احتجاجاً على اوضاع بلدانهم السياسية والاجتماعية، او طلباً لمعيشة لم توفرها لهم تلك البلدان بكرامة ويسر. ومن بين الجاليات الادبية العربية، يشكل العراقيون نسبة لا يستهان بها ان لم تكن مجموعتهم الاكبر بين الادباء العرب المهاجرين، وتتكاثر اعدادهم الآن بالنزوح المستمر. وفي تشخيص جانب من محددات منتوجهم الثقافي وحركة توجهه لاكتساب مغزى ومعنى خارج وطنه، استخدم المنفى كمصطلح في قراءة هذا النتاج، بالاستفادة من اعراف القراءات المعاصرة لنص الكاتب المغترب عن مكانه وبيئته الأولى. وما كان لهذه التسمية ان تثير اشكالية لولا ظرف العراق السياسي الملتهب الآن، فالادباء العراقيون انفسهم او دفعاتهم الأولى التي خرجت احتجاجاً من بلدها، استخدمت تعبير المنفى في الكثير من نتاجاتها: عبدالوهاب البياتي، سعدي يوسف، غائب طعمة فرمان، بلند الحيدري، بدر شاكر السياب وغيرهم. وكانت قصائد الجواهري القليلة التي كتبها بعيداً عن وطنه تنطوي على هذه الثيمة المنفى، بل يتخلق كل منطوقها حول فكرة الشوق الى الوطن والعجز عن الوصول اليه بأدلجة الخير" و"بريد الغربة" على سبيل المثال. الاشكالية في استخدام مصطلح او تسمية او تعبير المنفى، ان كانت هناك من اشكالية، كما ورد في بعض كتابات من انكره على الأدب العراقي المكتوب في الخارج، تتحدد بما تفضي اليه هذه الكلمة من مدلول سياسي، لأن كلمة النفي بما تحمله من احالة سياسية لم تعد كما كانت في السابق، عقوبة تتخذها السلطة بحق معارضيها بل اصبح العكس هو الجاري حيث تمنع السلطة الكتاب الذين لا يدينون بالولاء لها او تشعر بأنهم كذلك بالنوايا، تمنعهم من حق السفر وتعمم اسماءهم على الحدود كما حصل مع الكتّاب العراقيين الذين هرب معظمهم بطرق غير شرعية، وغامر البعض بروحه من اجل ان يتجاوز الحدود العراقية المحروسة بالقوى المسلحة. ان كلمة المنفى وفق المحددات المعرفية والسياسية الجديدة تعني في ما تعنيه اختيار البعاد عن الوطن كحل يرغم عليه الكاتب دفعاً لشر يقع ضده او يتوقعه من سلطته وموقفاً محتجاً على ممارساتها مع الناس ان جعل الكاتب من نفسه معبراً عن آلامهم ومناصراً لقضاياهم. هذا التشخيص يفضي في الحالة العراقية الى تحديد مسؤولية السلطة عن خروج هذا الجمع الكبير من الادباء من بلدهم. فهم يشكلون في النهاية معارضة فكرية وأدبية وصوتاً يدين سلطتهم، ولا يتجلى موقفهم في اشكال من التعبير الايديولوجي او الانتظام في فعاليات سياسية او توحيد صفوفهم في نقابات مهنية، وكلها على درجة من الاهمية والمشروعية، بيد ان الحاسم فيه كيفية تجلي اعتراضهم في مسرى النص الابداعي. وفي الظن انه الاكثر اقناعاً من كتابات السياسيين المعارضين وتقارير الهيئات الدولية ان صح التعويل على الأدب والابداع عموماً. ان الاعتراف بهم كمنفيين يعني الاعتراف بالأسباب التي ادت الى هجرتهم اضطراراً بهذا الزخم الكبير. والعمل الذي قامت به السلطة على مدى العقدين المنصرمين كان ينصب على محاولة محوهم من الذاكرة العراقية في الداخل. فصدرت الموسوعات وكتب التعريف بالتاريخ الكتابي بمختلف انواعه خالية من الاشارة الا لمن لا يمكن التجاوز على اسمائهم بسهولة: الجواهري، سعدي يوسف، غائب طعمة فرمان... الخ. بيد ان الاتفاق غير المعلن بين النقاد في الداخل والسلطة الثقافية الرسمية كان يتحدد بتجاهل دراسة ادبهم، الا عند الضرورات الملحة وفي سياق الاشارات فقط. وهذا لا يعني في كل حال تمكن السلطة من السيطرة على المشهد الثقافي بأكمله، فعند فسح الحرية القليلة كانت تظهر محاولات من باب رد الاعتبار لبعض من بقي خارج قبضتها وعلى مبعدة من عقابها. كما حدث مع غائب طعمة فرمان الذي تجاهلته دراسات القصة والرواية طويلاً اوحاولت التقليل من شأنه، او تقديم زملاء مرحلته عليه في تتبع يبدو فيه اقل اهمية منهم، مع ان له اسبقية كتابة الرواية الحديثة. وكذا الامر مع سعدي يوسف. بيد ان السلطة اليوم ما عادت تملك الزمام الثقافي في الداخل ولا الامكانات المادية التي تستقطب الاصوات الثقافية لتنفذ مهماتها في محاربة وتهميش اعدائها من الكتّاب العراقيين المعارضين. ولكنها بدأت تعلن قلقها من ثقل الوجود الثقافي في الخارج الذي يدين ممارساتها، بعد ان فقدت وسائل الالتفاف المنفعي لصالحها. وهي تجد باستمرار من لا يستطيع ان يتناسى افضالها عليه، ورد الفضل يأتي بالتقليل من شأن هذا النتاج او التشويش عليه. لذا يصبح من تحصيل الحاصل ان يخضع مصطلح المنفى وأدب المنفى لتلك الحساسية عند الحديث تحديداً عن الأدب العراقي المكتوب في الخارج، مع ان هذا التوصيف يبدو اكثر ملاءمة له من بين كل الأدب العربي المهاجر. كل هذه الحيثيات في المحصلة لا تفيد الدرس المعرفي في سؤال المنفى وأدبه وهو الذي ينبغي ان يعنينا قبل كل شيء، وعلينا ان نصوغه كما نفترض في هذا الحيز من منطلق مقارنات النص او من منطلق تحديد نوعية التجربة الابداعية قبل كل شيء، وبأشكال شتى ومنها ما تثيره كلمة المنفى من شعور بالتظلم غير مستحب إن فسر ضمن اطار كسب العطف او الاسترحام على هذا الأدب. ونحسب ان القراءات القليلة التي قدمت عن أدب المنفى العراقي تجنبت الانطلاق من هذا الموقف الدراماتيكي للاشادة به او الاطناب في مديح غرضه السياسي مهما كانت الاهمية المتوخاة منه، بل كان بعضها يتقصى بعين مجردة خطابه السياسي المباشر ونزعة الحنين المرضي الى الوطن والجانب المغرق بعاطفيته الذي يشوب تلك الاعمال ويقلل من قيمتها الابداعية. كما ان حيز المقارنة بين هذا الادب والنماذج العربية المهاجرة لا يحجب احقيته في هذا التوصيف، وفي اطار مفاهيمي يمنع عن التسمية اي امتياز نضالي كما حدث مع معظم الادب الستيني، او كما يظن على خطأ، من كتب مستنكراً هذا الربط بين أدب العراقيين المهاجرين والمنفى: لماذا سمي الأدب الذي كتبه المسيحيون اللبنانيون والسوريون المهاجرون بسبب الاضطهاد الطائفي الى بلدان الغرب ومصر "ادب مهجر" ولم يسم "أدب منفى"؟ وهل كانت ملامح الاغتراب والشعور بفقدان الوطن اقل فيه من أدب المنفى الألماني على سبيل المثال؟ للاجابة عن هذا السؤال يتعين علينا ان نعرف ان تقاليد الهجرة التجارية احد الملامح الظاهرة لسكان المناطق التي غادرها الجمع الثقافي المسيحي الى الاميركتين. كما كان هؤلاء على صلة ببلدهم في الفترات التي كانت تخفت فيها موجات القمع الطائفي، لحين ما اسفر الأمر لصالحهم في النهاية في بلد مثل لبنان، حصل فيه الكاتب على حقوق وامتيازات الحرية التي لا يستطيع التمتع بها اي كاتب عربي آخر... واستمرت الحال الى منتصف السبعينات قبل ان يتحول لبنان الى غابة بنادق. ولا يمكن ان يغيب عن ذهننا في حال المقارنة بين الأدب المهجري والأدب العراقي المنفي تطور المصطلح والمسميات، ومع ان كلمة المنفى قديمة قدم هذه العقوبة، غير ان الجهاز المفاهيمي المعاصر والمنهجية الحديثة وجدا هذه التسمية اكثر انطباقاً على الكتابة المغتربة عن مكانها وبيئتها الأولى. وفي الظن ان واحدة من اهم سمات مرحلتنا الحاضرة تبلور موقفاً جديداً يبرز في القلب منه قضية الديموقراطية وحقوق الانسان وفي منطوياتها الموقف من الكاتب وحريته. ومهما كانت الدوافع التي ننظر فيها كعرب الى العالم الكبير بانكماش وخوف، بسبب المظالم التي تتحملها شعوبنا، الا ان الديموقراطية واحدة من سمات قرننا المقبل من دون شك، بيد اننا ان اردنا مواجهة الحقيقة فسنجد مستقبل التفاهم مع الديموقراطية في بقاعنا هو الاكثر وعورة. فالحرية التي تغنى بها الابداع العربي طويلاً تبدو في المنعطفات الخطيرة قضية قابلة للتجاوز بل يمكن الاستهانة بها من قبل المثقفين العرب والاحزاب الجماهيرية، وتنعكس هذه الحال على الشارع العربي المسيس في مواقفه المركزية وفي تحديد نوع الزعماء الذين يحظون بتأييده وإعجابه، فالمثقف الذي يقول: "اعرف ان الرئيس العراقي مجرم بالفطرة، ولكنني معجب به في اعماقي"! لا يعكس موقفا عبثياً وقلة شعور بالمسؤولية ازاء آلام الآخرين فحسب، وإنما يعكس سادية وكراهية ازاء شعب يتعذب سنوات طويلة من هذا الرجل الذي يسميه هو مجرماً. كيف لا يشعر الطاغية، اي طاغية، بالفخر والقدرة على استخدام اقصى طاقاته لتعذيب ومحق شعبه، ان كان يجد شعباً عربياً مظلوماً ومنتهكاً مثل الشعب الفلسطيني يخرج بالاكفان يهتف باسمه ويستنسخ اطفاله صوره في الشارع اعجاباً ومحبة؟ علينا في هذه الحالة تعزية لأنفسنا التسليم بأن هذا الشعب ضحية تضليل من نوع خاص، عملية تضليلية سنشرك بها الموساد الاسرائيلي كما في نظرية المؤامرة، وسنتذكر ان اردنا التذكر ليس خطب القادة والزعماء الفلسطينيين بل كلمات المثقفين انفسهم. ان كلمة مثل التي اطلقها محمود درويش بحق وزير الثقافة العراقي السابق لطيف نصيف الجاسم مخاطباً اياه بوزير الشعراء لن تمر في التاريخ الثقافي العربي بسهولة، فهي تترك اثراً يعادل الثقل الذي تتمتع به القضية الفلسطينية، والمكانة الكبيرة التي يتمتع بها شاعر هذه القضية الأول. فلو قال تلك الكلمة اي مثقف مرتزق مهما كانت مكانته الثقافية، لما كان لها هذا الوقع، فهي تؤلم العراقي المبتلى ان جاءت على لسان شاعر عبر شعره عن قضية شعب من اكثر الشعوب معاناة من الاضطهاد في تاريخنا الحديث. وهذا الموقف على وجه التحديد يفسر سبباً من اسباب الغربة التي يستشعرها العراقي في الداخل من الشعوب العربية التي يتباهى تلفزيون عدي بوقوفها في صف أبيه. وهو بالتالي وراء شعور الكاتب العراقي المنفي بالغربة في البلدان العربية التي مر بها. فهناك حاضنات عربية ساعدته عند خروجه من العراق وتساعده الآن وعبر اعلامها في التعبير عن آرائه ومواقفه، بيد ان تلك الجهات لم تنطلق من موقف جذري ازاء قضية الحرية ككل، فهي تتحول ضده بمجرد ان تجد الفرصة في تحالفات تخدمها مع النظام العراقي او لصالحه. لعل احد العوامل الكامنة وراء هامشية الثقافة العربية طبيعة الانظمة السياسية التي جعلت الثقافة منتجاً رسمياً، والمثقف الذي يخرج عن نظامه ليس امامه سوى نظام آخر يعادي نظامه او جهة سياسية تملك القوة والامكانات المادية كما حدث مع المقاومة الفلسطينية التي تبنت المعارضة الثقافية العراقية منذ نهاية الستينات الى مراحل متأخرة تسبق حرب الكويت. ان سؤال المنفى والأدب العراقي المنفي يعني في النهاية سؤال حرية الكتابة والكاتب العربي، وهو لا يخص تلك المجموعة او الكتلة التي أوصد باب العراق بوجهها، بل يعني مستقبل الثقافة العربية التي بدأت تهاجر من بلدانها الى العالم. وان كان العراقيون قد وقفوا من سوء الحظ على الخط الفصل لالتباس المفاهيم بسبب الصدام مع الغرب في القضية الفلسطينية، فان هذه القضية وكل القضايا العربية الاخرى لن تقلل من اهمية الترابط بين الثقافة ودفاع العقل عن الحرية مهما اختلفت الظروف. وإلا تصبح الهجرة وحدها الدرس الذي يفيدنا في عالمنا الثقافي الذي يضيق بكل كلام ضد الطغاة. وان دفعنا الحنين والغربة الى العودة، فما علينا سوى ان نحني هاماتنا اعجاباً بالقادة الذين يحتفظون بكراسيهم الى الأبد ما داموا قادرين على رفع شعار محاربة الامبريالية لتخرج لهم الشعوب الاخرى بالاكفان معجبة وممجدة!