كان طبيعياً ان يطرح الفكر العربي، بمختلف اتجاهاته، قضايا أساسية غداة احتكاكه بالغرب الاستعماري، كقضايا التراث والهوية والتجذر التاريخي وما يرتبط بها من مفاهيم كالخصوصية والكونية والوحدة والقطيعة. فقد عودنا التاريخ الحديث ان مثل هذه القضايا تطرح في تشابكها، وارتباط بعضها ببعض، كلما واجهت الذات المتصدعة تحدياً من الآخر يوقظها ويدفعها الى الفعل ورد الفعل: فأمام فروق متعددة تقوم الذات كهوية ووحدة، وتكون من التمايز بحيث تصبح الفروق التي تنخر الآخر من الضآلة لدرجة انها تمحى أمام هذا الاختلاف الاساس. وفي هاته الحال تلجأ الذات الى البحث عن جذور متأصلة تقوي وحدتها وتؤسس هويتها، فتطرح مسألة التراث وكيفية تملكه، ومشكلة الهوية والخصوصية وطريقة صيانتها وتأصيلها. يأتي طرح مسألة التراث، اذن، ليؤكد ان هذه الهوية التي تقوم في الحاضر ككيان موحد، قد كانت دوماً على هاته الحال. وان الوحدة التي تشد اطرافها وحدة غارقة في الزمن متجذرة في التاريخ. وعلى رغم ذلك، فان الربط بين مسألة التراث وقضية الهوية، ان كان موحداً في المظهر، فهو يتخذ شكلين متباينين متعارضين: فاما ان يرتبط حديثنا عن التراث بفلسفة متوحشة عن الهوية ترفض الآخر، او على الاقل ترمي به "خارج" الذات، ولا تنظر اليه كهوة تقطن الذات وتبعدها عن نفسها، وانما كطرف آخر، يجيء من "خارج" يقابل الذات ويتعارض معها، وفي هذه الحال تطرح قضية التراث داخل فلسفة التطابق ومنطق الوحدة والاتصال فيرتبط طرحها بالبحث عن التأثيرات والاستمرارات، عن الاستقرار والدوام: دوام الخصائص التي تميز الذات والسمات التي تخصها ودوام الارض التي نحيا عليها، واللغة التي نتكلمها، والفكرة التي نعتقد حقيقتها. فلكي نثبت ان حاضرنا يستند الى ضرورات قارة وركائز عميقة، نلجأ الى التراث تزكية لهذا الوهم بالخلود، واثباتاً للپ"نحن" وحفظه وصيانته. وهنا لا مجال للتعدد والكثرة، او الانفصال والقطيعة. فلا يكون الحديث عن التراث الا بصيغة المفرد، بل بصيغة التعريف: فكل الاختلافات تمحى، وكل الانفصالات والقطيعات تذوب، وكل التحولات تنصهر لتفسح المجال لكيان موحد، وتتيح الفرصة لظهور هوية خالدة على مسرح التاريخ. اما اذا ربطنا قضية التراث بفلسفة مغايرة عن الهوية، حيث لا يعود السلب والنفي مجرد لحظة في بنائها، وحيث يقحم الآخر "داخل" الذات ويصبح قائماً فيها، ويغدو هو البون الذي يفصلها عن نفسها، ولا يعود مجرد "ذات" تقابل الذات وتتعارض معها من "خارج"، فيحنئذ سيبرز التراث في غناه وتعدده، ولا يعود اللجوء اليه تزكية للوهم بالخلود، وانما اصغاء لاصواته وتملكاً لفراغاته وحفريات لصمته. اذا كان الموقف الاول، اذن، يعتبر الهوية معطى اول، فيقذف بالآخر في خارج مطلق ويجعل من التراث احياء لنفس خالدة ووسيلة لتقوية الوهم بالخلود، فان الموقف الثاني ينظر الى الهوية كأمر يغزى ويكتسح، والى الآخر على انه حركة التباعد التي تنخر الذات نفسها. وهو اذ يلتفت الى التراث فلكي يتساءل كيف ترسخت اصوله، وثبتت نماذجه وتشكلت ذاكرته؟ ذلك ان الامر يتعلق، في النهاية، بموقفين متباينين من الزمان: زمان الاتصال وزمان الانفصال. فاما ان ننظر الى الزمان كصيرورة يفصل فيها حاضر متحرك الماضي عن المستقبل، او نجعل منه حركة التباعد التي تنخر الحاضر نفسه، وتمنعه من ان "يحضر" ويتطابق، فتمنع بذلك "الذات" ان تمثل لنفسها، وتجعل الهوية حركةً ونشاطاً وفعالية وليس تغنياً بامجاد ضائعة، والاهم من ذلك انها تنقل الآخر ليسكن الذات فلا يظل مجرد مهدد خارجي يتصيد لحظات "الغزو" والاكتساح. يجر طرح مسألة التراث اذن الى قضايا متشابكة مترابطة كمسألة الهوية والاختلاف، ومفهوم التقليد والتاريخ، ومسألة الاتصال والانفصال، والوحدة والتعدد، والخصوصية والكونية والحداثة والتحديث. - في القطيعة: هذا التشابك يزداد تعقيدا ان نحن اخذنا بعين الاعتبار اللونيات التي تتخذها مختلف المواقف من مختلف القضايا التي اشرنا اليها. فالذين يقولون بالانفصال والقطيعة على سبيل المثال، يختلفون فيما بينهم حول مفهوم القطيعة ذاته. هناك من يؤمن بما يمكن ان ندعوه مفهوماً وضعياً عن القطيعة، فيعتقد ان رباطنا بالتراث قد انقطع نهائيا وفي جميع الميادين "وان الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لأننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم انما هو سراب، وسبب التخلف الفكري عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي". مقابل هذا المفهوم الوضعي عن القطيعة يقوم مفهوم مغاير يعتبر الانفصال عن التراث عملية صعبة، والأهم من ذلك انها عملية غير تلقائية، فلا سبيل هنا الى فقدان التراث الا بتملكه، والانفصال لا يمكن ان يكون الا اعادة ربط، والهدم الا اعادة بناء. فعلى عكس الموقف الأول الذي يطرح قضية التراث داخل كرونولوجيا تفصل بين انماط الزمان التقليدية، فان هذا الموقف ينظر الى انماط الزمان "من حيث انها تتعاصر خارج بعضها البعض بحيث لا يغدو الحاضر هو الآن الذي يمر، بل ذاك الذي يمتد بعيدا حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي". يميز هذا الموقف اذن بين البداية الزمنية والاصل. ويعتبر ان الفروع تؤسس الأصول وتعطيها معانيها. وحينئذ لا يغدو التعلق بالتراث والعودة لاى الاصول مجرد اشباع فضول معرفي، وانما متابعة للكيفية التي ترسخت بها "طرق في العمل والانتاج، وأساليب في الاقناع ومقاييس للقبول والرفض". انها اذن جينيالوجيا ثقافة بكاملها. وهي جينيالوجيا تميز الهوية عن التطابق وتعتبر ان لا شيء، حتى تراثنا ذاته "يعطانا كما لو ان نعمة" كما تعتقد ان الآخر يقيم في كياننا، وانه ليس مجرد ذات تتميز وتتمايز عنا. - في الاختلاف والتمايز: ينبني هذا الموقف اذن على الفصل الأساس بين مجرد التمايز وبين الاختلاف ذلك ان الاختلاف ليس مجرد التميز والتمايز. فبينما يضعنا الاختلاف امام متخالفين مبعدا احدهما عن الآخر، مقببا بينهما في الوقت ذاته، بينما يعرض علينا الاختلاف اشياء يتنوع وجودها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته، فإن التميز يعرضها امامنا متباعدة منفصلة، متدرجة. في الاختلاف تمتد "الاشياء" في خط افقي متباينة متصالحة، وفي التميز تنتظم وفق سلم عمودي متمايزة متفاضلة. الاختلاف ينخر الكائن ذاته ويصدع الهوية، اما التميز فيتم بين هويات متباعدة، وكيانات منفصلة. لهذا، فعلى رغم الرواج الكبير لمفهوم الاختلاف في الثقافة العربية المعاصرة، لا ينبغي ان يغيب عن اذهاننا ان الامر لا يتعلق، في غالب الاحيان، الا بمفهوم التميز. فكل ما نسمعه عن "الحق في الاختلاف" و"اختلاف الجنسين"، وعن الاعتراف باختلاف الثقافات والحضارات والاجناس واللغات، لا يعدو اقراراً بالتمايز والتميز. الاختلافات التي يعج بها الخطاب العربي مجرد تميزات تكون في احسن الاحوال "اختلافات" انثروبولوجية، وفي اغلبها "اختلافات" جغرافية، بل عرقية. اما الاختلاف فهو "مفهوم" انثولوجي، وليس مجرد مفهوم انثروبولوجي، وبالأولى جغرافي او استراتيجي. انه المفهوم الذي بفضله يتحدد الكائن كزمان وحركة، ويصبح بفضله التعدد "خاصية" الهوية، والانتقال والترحال "سمة" الذات، والانفتاح والتصدع "صفة" الوجود. وهكذا فالاعتراف بالاختلاف اللغوي، على سبيل المثال، لا يعني التسوية فيما بين اللغات وإلغاء التمايز بينها، ولا يعني بالأولى احلال لغة مكان ومكانة اخرى، وانما اعادة النظر في نظرية اللغة بعينها، وفي تحديد اللغة بما هي كذلك، والنظر الى الازدواجية اللغوية او التعدد اللغوي كمكونين للغة، ضامنين لحياتها لا كخطر يهدد اللغة ويمسها في كيانها. القول بالاختلاف اللغوي هو الاعتراف بأن اللغة "بابلية" بالتحديد. قس على هذا قضايا اختلاف "الملل والنحل"... والهويات. ان الامر لا يتعلق بالتسوية والانفصال المطلق، وإنما بتعيين الهوية كحركة لتوليد الفوارق والاختلافات. - في الآخر: يترتب على هذا ان كل الدعوات الايديولوجية التي تكتفي بتحديد هوية موهومة لتجعل من كل ما عداها آخر، تتناسى، أولا وقبل كل شيء، العمل الجبار الذي يكون على الذات ان تقوم به لتجعل من الغير آخر "ها" وتتمثله. وهو تمثل اكثر عسرا وعناء من "التمثل" الطبيعي الذي تقوم به الكائنات النباتية، خصوصاً اذا علمنا انه يجمع بين عمليتي الادخال والاخراج، التملك والفقدان، والتذويت والموضعة في العملية ذاتها. ذلك ان تملك الغير هو في الوقت ذاته فقدان وخروج وانفتاح، انه عملية هدم وبناء، تشييد وتقويض، ايجاب وسلب، نفي وإثبات. الغير لا يصبح آخر تلقائياً. فكما ان الذاتي ينبغي تملكه، وكما ان الهوية يلزم اكتساحها وغزوها فإن الغير لا يغدو آخر الا اذا حول عن تحديداته المهيمنة. وانه المجال المفتوح لانفصالي اللامتناهي عن الآخر والتقائي اللامتناهي معه. هذا الانفتاح وذلك الانفصال واللاتناهي، كلها مفاهيم تبعد الهوية عن كل تخشب واستقرار وثبات. بل وتنفي عنها الانغلاق والتوحد فترمي بها في تعدد لامتناه. نلمس هذا مفهوماً قلما نجرؤ على طرحه على بساط النقاش الفلسفي عندنا هو مفهوم التعدد. ولا نعني هنا التعدد اللغوي وحده، بل التعددية الحزبية والدينية والفكرية وما يقابلها من مفهوم عن الوحدة في جميع مستوياتها. - في التعدد والتوحيد: واكب المد الديموقراطي الذي اخذ يجتاح العالم والدفاع عن حقوق الانسان حديث كثير في وطننا العربي عن التعددية، وإعلاء كبير لقيمة التعدد. فمقابل الواحدية الحزبية ووحدة اللغة وأحادية الرأي، نودي بتعدد الاحزاب وكثرة الآراء، بل وتعدد اللغات. الا ان المثير للانتباه ان معظم الحركات التي قامت لترسي التعددية وتؤسس الديموقراطية وتفتح الأبواب للتحرر، غالبا ما انتهت الى بث الفوضى وإقامة الرعب ونشر البلبلة. فهل يعني ذلك ان التعددية ذاتها موسومة بلعنة الشغب والفوضى؟ ام انها تفترض طريقا ممهدا ومرحلة سابقة؟ وماذا لو كانت هناك اشكال متباينة للتعددية ومعان متعددة لمفهوم التعدد؟! لا مجال هنا للاجابة عن كل هاته الاسئلة ويكفي ان نقف على الطابع الذي يميز التعدديات التي اشرنا اليها، والتي تنتهي الى الفوضى الاجتماعية والبلبلة الذهنية. فما يميز هذه التعدديات هو انها لا تنفصل عن مفهوم الوحدة: انها تحاول ان تقيم وحدات اخرى الى جانب الوحدة، فتضيف أحزاباً الى الحزب، وآراء الى الرأي، ولغات الى اللغة. لا تروم التعددية هنا خلخلة مفهوم الوحدة، وإنما اقامة وحدات اخرى الى جانب الوحدة القائمة. التعددية بهذا المعنى تعداد، انها مفهوم حسابي "عددي" يجعل الوحدة كثرة. ومعروف ان توليد العدد في الحساب يقوم على اضافة "وحدة" الى العدد الذي يتقدمه. وراء هذا المفهوم عن التعددية تكمن الوحدة، وفي النهاية، نكون أمام مفهوم واحد سميناه: تعدداً أم وحدة. لعل هذا ما جعل البعض منا يذهب حتى الدعوة الى نبذ مفهوم الوحدة ذاته لما اعتراه من شدة الاستعمال الايديولوجي والانهاك الفكري، ولما يحمله من شحنة ميتافيزيقية عريقة في القدم. والظاهر ان موقف هؤلاء لا يخلو من صواب. فربما كان مفهوم الوحدة من أكثر المفاهيم توظيفاً عندنا سواء في السياسة وفي المعرفة أو في الاجتماع. حتى لكأنه غدا من غير دلالة محددة. وعلى رغم ذلك يبدو ان هاته الدعوة الى الرفض المطلق لا تقل ميتافيزيقية عن ميتافيزيقية المفهوم المعني بالأمر. ذلك اننا ينبغي ان نميز، هنا كذلك، بين مفهومين متعارضين متضادين عن الوحدة والتوحيد. فهناك بالفعل ما يمكن ان ندعوه التوحيد الميتافيزيقي وما يميزه انه توحيد اختزالي هدفه ارجاع العناصر جميعها الى عنصر اساس وردها اليه بحيث لا تغذو العناصر الأخرى تفردات تقوم الى جانبه، وانما فروعاً تصدر عنه. هذا التوحيد هو، في نهاية الأمر، الغاء للتعدد واختزال له. عن طريقه تؤول العناصر العرقية واللغوية والحزبية والطائفية... الى أصل اساس، لا يجمع العناصر الأخرى وإنما يلغيها أو يردها الى مرتبة ثانية ورتبة تالية وموقع ثانوي. لكن هذا النوع من التوحيد لا يمكن ان يلغى لوحده، فهو صلب صلابة الميتافيزيقا. ولا يكفي النداء بإلغائه كي يزول. وهو لا يقهر الا بتفكيكه ومقابلته بموقف مخالف عن الوحدة. ذلك الموقف الذي لا يختزل العناصر الأخرى، وانما يترك لكل عنصر نصيبه من التميز ويتيح للعناصر جميعها حرية الحركة. ها هنا لا يتعارض التوحيد مع التعدد، وانما يضمه ويحتضنه. ورغم ذلك فليست علاقة الوحدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء، أو المجموع بمكوناته، وانما كعلاقة الهوية بالاختلاف. فالاختلاف كما قلنا، لا يكتفي بأن يقر بتبعثر الكائنات وتمايزها وتشتتها وانما يجر بعضها نحو الآخر، فيوحد بينها بفعل ذلك التباعد ذاته. تتميز هذه الوحدة الثانية عن الأولى مثلما تتميز الهوية عن التطابق، فالهوية ليست هي التطابق لأنها ترعى الاختلاف وتترك للتفردات نصيبها في الوجود، بل لا تقدم نفسها الا كحركة لا متناهية للضم والتباعد. اما التطابق فلا يكتفي بأن يضم كل التفردات في كل موحد بل يلغي أغلبها ويقضي عليه في سبيل اعلاء عنصر على حساب العناصر الأخرى. الوحدة الثانية وحدة تعددية، أما الأولى فهي اختزالية لا تقوم بعمليات جمع وضم، وانما بعمليات قسمة واختزال. على هذا النحو فإن انسان التعددية ليس هو الذي يحمل عدة جوازات ويتكلم عدة لغات وانما هو ذلك الكائن السندبادي الذي "يوجد" بين لغات وثقافات. - في الكونية: هذا "البين - بين"، هذه البينية تدعونا الى اعادة النظر في كثير من مفاهيمنا الاساسية. ذلك ان العالم يفرض علينا اليوم، بما يتسم به من جدة، اعادة النظر في اسئلتنا ذاتها. لقد كنا نحاول، فيما سبق، تحديد ذواتنا فردياً وقومياً، داخل عالم محدد المعالم. كنا نبحث عن مكان في رقعة مرسومة مبوبة "معقولة". لقد كنا ثالث اثنين أو جنوب شمال، أما اليوم فإننا نتساءل عن الحدود في عالم بلا حدود، ونبحث عن مرجعية في فضاء بلا مراجع، وعن لون خاص في عالم بلا ألوان. ذلك اننا لا يمكن ان نغفل ان الفكر غدا اليوم، ولأول مرة في التاريخ، وبفضل سيادة التقنية، فكراً كوكبياً كونياً، وهذا ليس لافتراض كونية متيافيزيقية وفكر شمولي، وانما للتغير الذي لحق الوجود بفضل اكتساح التقنية فأصاب، تبعاً لذلك مفهوم العالم. فما يطبع العالم اليوم من انتشار موحد لنماذج التنمية والتصاميم والمخططات وتطور أدوات التواصل واكتساح الاعلاميات لكل الحقول، وفرض لمفهوم جديد عن الزمان، اذ كل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى. فالكوكبية لا هوية لها، بل انها هي التي تحدد اليوم كل هوية. على هذا النحو يغدو الانخراط فيها - أو عدم الانخراط - ليس وليد قرار إداري يتخذه فاعل سيكولوجي أو ثقافي، وإنما هو قدر تاريخي يرمي بإنسان اليوم في الكون، وبالفكر في الكونية. يتعذر علينا، والحالة هاته، أن نميز بين خصوصية تحن إلى العالمية وأخرى تهابها أو ترفضها. بل أن ما دأبنا على التمييز بينه من أصالة ومعاصرة ربما فقد كل معنى. إذ أن كل أصالة لا يمكنها اليوم أن تكون إلا كيفية من كيفيات المعاصرة. وربما غدا من المتعذر حتى تمييز الاصيل عن غير الاصيل بإطلاق. فكل ما هناك هو كيفيات أصيلة للمساهمة في الكونية والمشاركة في الكوكبية. لن يتبقى أمامنا، والحالة هاته، إلا أمران: غض النظر عن التحولات الجذرية ومحاولة جرها إلى ما هو قديم، وقولبتها حسب مقولاتنا التقليدية، أو إعادة النظر في جهازنا المفاهيمي، ومحاولة فهم العالم، بما أصبح يقتضيه العالم، إما جر ركام التقلدي، أو الانفتاح على الحداثة. - مقاطع من ورقة القيت في ندوة "الابداع الثقافي والتغير الاجتماعي في المجتمعات العربية في نهايات القرن" التي اقامتها في غرناطة جامعة برنستون بتعاون مع الجامعة المستقلة ومجلس البحث العلمي في مدريد.